آخر الاخبار

الجيش السوداني يحقق انتصارات جديدة على قوات الدعم السريع ويستعيد مناطق شاسعة اليمن تتصدر كأكبر دولة مشاركة في مؤتمر المناخ بالبرازيل وتبتعث 140 مندوبًا من بلد بلا رواتب.. تساؤلات حول التمويل والامتيازات سفراء اليمن يطلقون نداء استغاثة ويحذّرون من انهيار البعثات الدبلوماسية رئيس مؤتمر مأرب الجامع يحمّل الحكومة مسؤولية رعاية جرحى الجيش ويحذر من تأخير رواتبهم ومستحقاتهم الخاصة عاجل: حلف قبائل حضرموت يحذّر قوات الدعم الأمني من غزو حضرموت ويحمل الجهات الداعمة المسؤولية. بحضور علم الانفصال وبرعاية محافظ المحافظة.. قوات دفاع شبوة تحتفي بتخرج دفعات قتالة جديدة السوداني في العراق.. من مرشح توافقي إلى قطب سياسي (بروفايل) ''يلملم'' منصة إلكترونية جديدة لخدمة الحجاج اليمنيين زيارة غير معلنة لوزير الدفاع إلى الإمارات بعد يوم من استدعاء أبوظبي للسفير اليمني.. تصريحات خطيرة للرئيس الإريتري بشأن البحر الأحمر وتحركات في ثلاث جزر يمنية

حتمية مواجهة شظايا الانقلاب المُركَّب
بقلم/ سعيد ثابت سعيد
نشر منذ: شهر
الخميس 16 أكتوبر-تشرين الأول 2025 05:15 م
 

        تمددت الدعوات التفكيكية والانعزالية في البلاد منذ انقلاب سبتمبر 2014 وما تلاه من اجتياح عدن في مارس 2015، وأسفر ذلك عن صراع دموي وتداخل المدني بالعسكري، وتشابك المحلي بالإقليمي، واختلاط المال بالقبيلة، وتعدد مراكز القرار، وسط تبدل في القيم والانتماءات.

          مع هذا التحول فقدت الدولة عمليا احتكار العنف العام وقدرتها على إنفاذ القانون وتوزيع الخدمات والموارد. وتحولت الجماعات الصغيرة ذات الطابع الجهوي والمذهبي والقبلي والسلالي والحزبي ملاذا نفسيا ومصلحيا معا..

        في هذا الجو القاتم عاد الحنين جارفا إلى إرث دولتي التشطير، وامتد إلى كانتونات مشيخية وسلاطينية وإمامية وقبلية، واستُحضرت أحداث مأساوية نجمت عن سياسات خاطئة للسلطات الغابرة تبريرا لخطاب العودة إلى ما قبل الوحدة بل إلى ما قبل الثورة والاستقلال.

          اتسع هذا الخرق مع إخفاق المركز في توزيع الثروة والخدمات والفرص، فتعمقت الهوة بين الشمال والجنوب، وازدادت مطالب الشرق والغرب بترتيبات خاصة في الإدارة والموارد، وتسللت الخطابات المذهبية والعنصرية والجهوية إلى المنابر والمدارس ووسائل الإعلام.

         لم يبق السلاح وحده وسط هذا الفراغ الذي خلفه تراجع الدولة، نشأت حوله منظومة تجارية موازية خارج القوانين والأعراف، تستند إلى حماية ميلشياتيه وشبكات فساد؛ فظهرت نقاط وجبايات على الطرق، ورسوم عند المعابر والموانئ، وصفقات غير مشروعة. وبرز منتفعون من الفوضى يبحثون عمن يحمي مكاسبهم، فدفعوا بالجهوية والمذهبية والسلالية إلى الواجهة، وسوّقوا مظلوميات جاهزة، وأثاروا الغضب الشعبي، وحرضوا على كل من يدعو إلى رد الاعتبار للدولة ومؤسساتها.

           مع اتساع هذا النوع من الكسب ضعفت ثقة الناس في قدرة الدولة على إعادة التوازن، وترسخت منصات ومنابر تتعامل مع الهوية سلاحا يشهر عند كل أزمة، فتتكرر الحوادث الصغيرة وتتراكم حتى تتحول مع الوقت إلى رواية سائدة تسبق النقاش، وتصير حقائق لا تقبل التشكيك.

        وحين يتدفق المال من طرق غير مشروعة أو خارج القانون في مثل هذه الأوضاع يستخدم أصحابه شعارات سياسية أو دينية أو جهوية لحمايته من المساءلة عن مصدره أو إنفاقه؛ ومن هنا ينعكس أثر ذلك سلبا في معاملات الناس اليومية: الطريق والمدرسة والمستشفى والراتب؛ فيستحضر الانعزالي تجربته المرّة مع المركز، ويعيد الإقصائي صورة "شرعيته التاريخية"، ويعلن الجهوي خصوصيته الاقتصادية والاجتماعية خشية هيمنة جديدة. وتتبدل الشعارات: مرة دينية تمنح الصراع قداسة زائفة، ومرة بلهجة حداثية متعالية تصف الآخرين بالمتخلفين، ومرة بمفردات جهوية أو قبلية تقدّم المكان والنسب على المواطنة. ومع هذا كله تتراجع الأصوات الوازنة ذات الهم الوطني الراشد.

        في هذا المشهد يسمي بعض الناس الآخرين بجهاتهم ومذاهبهم بدلا من أسمائهم، فتتضرر علاقاتهم وخدماتهم اليومية بالقطيعة والتنازع والتخندق. ومع الوقت تترسخ (نحن) الصغيرة لأنها أسرع في الحماية، فيما تبدو (نحن) الكبيرة وعدا مؤجلا بلا فعل واضح يسنده. وهكذا ينتقل الخلاف البيني إلى خصومة حول أسس لا تخضع للمراجعة، وتتحول الحوادث الفردية إلى حكم عام على جماعات كاملة.

        ولا تقف الدول الإقليمية والدول الكبرى والشركات العابرة للحدود في ظل هذا الاستقطاب والصراع الداخلي على الحياد. فحين ينقسم الداخل يتسع هامش الحركة أمام تلك الجهات وتتقاطع مصالحها مع قوى محلية صغيرة، فتزداد الصورة أكثر قتامة. وبالتوازي تفقد السياسة صورتها التي يعرفها الناس في أيام السلم؛ إذ تنشغل الأحزاب والجماعات بإدارة جزء لا إدارة بلد، وتتكرر كلمة (الحقوق) على المنابر، لكنها في الواقع تبدو امتيازات فئوية يحميها السلاح لا قواعد عادلة يطبّقها القانون، ويُقاس النجاح بما تكسبه فئة لا بما يربحه المجتمع. ومع الوقت يميل الناس إلى حلول سريعة حتى لو زادت حدّة الانقسام.

          مع ذلك تبقى الحياة أقوى من ضجيج مواقع الإنترنت وشاشات الفضائيات. يلتقي المختلفون في الشارع والحارة والمطعم والمدرسة والعيادة، وفي الحافلات وسيارات الأجرة، ويتشاركون معاناة انقطاع ماء الحي والكهرباء وهم تأخر الرواتب ومخاوف انفلات الأمن.

       وفي الأفراح والأتراح تنخفض الأصوات المنفعلة، وتهدأ المشاعر المتوترة تلقائيا، ويعود الناس إلى طباعهم الإنسانية البسيطة بالتعامل الطيب والاحترام المتبادل: نحن أهل في البدء والخاتمة، تجمعنا أرض ونسب وتاريخ وحضارة ممتدة في العالم الواقعي، قبل أن نكون خصوما على الشاشات ومواقع العالم الافتراضي. هذه تفاصيل أساسية وليست كماليات؛ فهي الرباط الذي يمنع القطيعة من أن تتحول إلى جدران وحواجز وسدود.

         لذلك، تصنع الكلمات التي نختارها كل يوم فرقا واضحا. إذا وصفنا الناس بهوياتهم الضيقة أوقفنا التواصل من بدايته، وإذا عممنا خطأ فرد على جماعة كاملة عطلنا التفاهم برمته. أما إذا سمينا الأشياء بأسمائها وميزنا بين النقد والتجريح، وتركنا مجالا للاعتذار والتراجع اتصلت الجسور وعادت المياه إلى مجاريها ولو ببطء وتدرج.

         البلاد ليست رهينة شعار واحد ولا ضحية حادثة منفردة؛ البلاد ترزح تحت ركام من الأخطاء والخطايا اليومية تتحول مع الوقت إلى انتهاكات ومصائب وكوارث ثم جرائم مدمرة. والخروج من هذا المسار يبدأ من تفاصيل الحياة اليومية: في المدرسة نُعلم الطفل أن يختلف بلا إساءة؛ وفي المجلس نكف عن التعيير والتنابز بالألقاب؛ وفي الإدارة نلتزم الدور ونحترم التراتبية الوظيفية؛ وفي الإعلام نقدم الدقة على الإثارة.

           ليس قدر اليمن أن يدور في حلقة الدم والانقسام. وما أشعلته شظايا الانقلاب لا يطفئه مزيد من التشظي والانعزال. وعندما نتوقف عن وسم الناس بهوياتهم الضيقة، ونحتكم إلى العدالة في التوزيع، واحترام كرامة المواطن وحقوقه في دولة واحدة، وفق دستور وقانون واحد موحد، تفقد شعارات التمزق والتفكيك مبرراتها.

         الطريق قد يطول، لكن بدايته الآن: قول حسن، ومعلومة دقيقة، واحترام للمتفق والمختلف؛ ومن هنا تلتئم جراح السنوات الدامية، ويستعيد اليمن عافيته.