آخر الاخبار
نسمع ونرى …تأملات في عوالم الوجود
بقلم/ ماجد عبده الشعيبي
نشر منذ: شهرين و 24 يوماً
الخميس 29 أغسطس-آب 2024 07:05 م
  

في بحث الإنسان عن الوجود ومعنى الوجود وكيفية اثبات الوجود ، يتبين لنا الآتي: 

 

هناك ما نراه ولكن لا نسمعه لانه لا صوت له مثل الأرض و الجبال والسماء والبحار وغيرها وهذا ما نسميه بالرؤية المجردة .

 

ولكن هناك أشياء نسمع عنها ولكن لا نراها رؤية يقينية حقيقية مجردة لا نرى كنهها ولا يمكننا ان نقبض على ذاتها الحقيقة وهذه كثيرة جدا .

 

قسم اليونانيون قديماً المواد الأولية وارجعوا أصولها إلى أربعة : الماء ، والتراب ، والنار ، والهواء .

 

والهواء رمزٌ لما نؤمن بوجوده ولكن لا نراه ، نحسه ولكن لا نشاهده، نتأمله لكن لا نلمسه.

 

وعلى ذات النسق يمكن لنا ان نذكر عدد لا حصر له من الأمثلة على ذلك، ومنها: 

 

المال : نحن نتحدث ونسمع عن المال بشكل دائم ومتكرر ومستمر ومع ذلك لا يمكن ان نرى او نشاهد المال.

 

لا تقل انك حين ترى العملة الورقية او المعدنية فإنك تشاهد المال ؟! 

 

فحقيقة المال أعمق من أن تشاهد وتنحصر في عملة ورقية أو معدنية!

 

فنحن نرى صورة المال متجسدة بشكل اوراق اسميناها نقوداً او عملة.

وقريباً ستختفي هذه الصورة الملموسة للنقود لان النقود والعملات الرقمية و المشفرة ستحل محلها وبالتالي لا يمكن ان نجزم بأن النقود هي عين المال.

 

في الحقيقة نحن نرى المال في عصرنا هذا متجسداً في كل شيء فكل الاشياء المادية وغير المادية غالباً هي أموال مجمدة او كما تسمى أصول ثابتة مثل العقارات والسيارات واسم الشركة (الماركة) والاسهم والسندات المالية والصكوك المالية وأذونات الخزانة وغيرها الكثير فهذه ايضاً هي كلها صور من صور المال ، وليست ذات المال.

 

والمال كماهو معلوم عصب الحياة وعماد كل حضارة.

مع ذلك من الصعب ان نقبض على المال بحقيقته وانما نراه بصوره الكثيرة المتعددة والمتجسدة.

 

نحن أيضاً نسمع عن القانون ونتحدث عنه بل ويدرسه البعض ويحصلون فيه على اعلى الشهادات الجامعية ولكن من منّا قد رأى القانون؟! 

 

من من الناس قد تأبط يد القانون وأخذ يتجول به في الأسواق ؟!

 

من من الناس قد تحدث إلى القانون عياناً بياناً ؟!

 

في الحقيقة لا أحد قد فعل ذلك ، لا يمكن ان نشاهد القانون لانه أشبه بالروح .

 

مع اننا نقول هذا كتاب القانون وهذه كلية القانون وهذا محامي قانون وهذه محمكة القانون وتلك وزارة العدل وتلك النيابة العامة المعنيتان بتطبيق القانون، ونحن نتحدث عن روح القانون وعدالة القانون ، ونطالب بتطبيق سيادة القانون…

لكن أين ذات القانون أين هو؟!

 

كذلك نحن نسمع عن الشرف لكن من هو الذي قد نال شرف مقابلة الشرف ؟!

 

ونسمع عن النزاهة والشفافية والعدالة ولكن لا أحد قد رأى أياً منها؟!

 

نتحدث عن الوطن والوطنية وحقوق المواطنة ، نتحدث عن الجمهورية والحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة بكل فخر وحماس واحترام كبير ، ولكن كل هذه الأمور تنتمي لعالم آخر غير مشاهد ولا ملموس ولكننا نؤمن بها كضرورة وجودية.

 

مع ذلك هذه (الغيبيات) او (ما وراء الماديات) كما يسمونها، هي التي تحرك الإنسان ، هي الوقود الخفية التي تسيّر الإنسان و تجعل منه سيداً على هذه الأرض.

 

وبالمثل فالإنسان أيضاً هو شيء غير ملموس تماماً ، فحين ترى الشخص في الحقيقة أنت ترى صورته المتجسدة ولكنك لا ترى كنهه ولا حقيقتها.

 

فكلمة شخصية هي كلمة يونانية الاصل تعني حرفياً القناع الذي يوضع على الوجه.

 

وحين تستمع لذلك الشخص فأنت تسمع صوته فقط .

صحيح ان الصوت لا ينفك عن الشخصية إلا أنه ليس إلا تجسداً من تجسيداتها الظاهرية.

 

ومن هذه الحقيقة الاولية والبسيطة (والتي تناسيناها ) تكتشف بعد فترة ان فلان صديقك قد ظهر على غير حقيقته التي كنت تعرفه بها مع انك كنت تراه دائماً بجسده المعتاد فما يتغير في الناس ليست صورهم ولا أجسادهم وانما ذواتهم وقيمهم ومبادئهم الخفية عن الأعين.

 

فالناس في الحقيقة لا يمكن ان يكونوا تلك الصور الشاخصة أمامنا ظاهرياً من رأس و وجه واذنين وعينين وانف وفم وجسد بكل تفاصيله وتكويناته..

 

فحقيقة الإنسان هي ذاته الخفية عنا الذات الذي يعتبر الجسد تجسيدا لها ودليلا عليها وليس هو هي.

 

بالاضافة الى هذا الجسد الخارجي يوجد العقل والقلب و الروح و النفس ، وكلها غير مشاهدة ولكن كلنا يؤمن بوجودها كضرورة ، ومن اتحاد هذه المكونات الخفية عنا تتكون الأفكار و المشاعر والأحاسيس والنقائض مثل: الايمان والكفر واليقين والشك والحب والبغض والسرور والحزن وغيرها وامثالها كثير وكلها لا تتجسد بعينها ولا ذات ملموسة مشاهدة لكلٍ منها.

 

فالذات الانسانية اعقد بكثير من أن نشير إليها بالجسد فقط …

 

وان جادل البعض بأن الجسد هو الذات وما العقل والنفس والروح الا تابع لهذا الجسد فهذه حجة داحضة فالجسد لا يتحرك طوع أمره وانما تحركه قوة خفية داخلية ولذلك نرى حين يصاب البعض بجلطة دماغية او بصدمة نفسية شديدة جداً يفقدون حركة اجسادهم بشكل جزئي أو كلي وهذا دليل مادي ملموس يدحض ماذهب اليه اولئك القوم. 

 

والدليل الأكبر على أن الجسد إنما هو جسد وليس ذات الإنسان : حين نقول أن الإنسان قد مات يظل الجسد كماهو نشاهده نلمسه نحركه نحمله لكن الشخص الذي كان قابعاً داخل هذا الجسد لم يعد لقد رحل وما بقي إلا جثته إلا جثمانه. 

 

رحل لكن لم يشاهده أحد، لم يره أي إنسان وهو يغادر كوخه ومسكنه الذي هو الجسد ! أليس كذلك ؟

 

حتى الفيلسوف الشهير ديكارت زعيم مذهب الشك ، لما شك بوجود كل شيء حتى بوجوده هو ، وبعد دراسة وبحث عميق أثبت وجوده بالتفكير ، وله مقولة شهيرة جدا : ( أنا أفكر إذاً أنا موجود).

 

وحسناً فعل ، فقد أثبت وجوده بالإيمان لا بالشك ، فالتفكير من جنس الإيمان غيبي يقيني لا محسوس ولا مشهود.

 

والإنسان ذاته كان سبباً لايجاد موجودات كثيرة ، فهو الزارع في حقله ، لكن دوره يقتصر على بذر البذور وهناك يد موجودة اخفى من وجود الإنسان هي التي تنبت وتنمي المزروعات حتى يحصد منها الإنسان ثماراً حلوة طيبة.

 

الإنسان هو الطبيب لكن ليس هو الشافي .

 

الإنسان هو المحامي وهو القاضي وهو المدعي العام لكنه ليس القانون وليس هو العدالة .

 

الإنسان هو الرئيس ولكنه ليس السلطة هو الزعيم لكنه ليس الزعامة .

 

هذا يقودنا إلى سؤال عميق جداً وهو:

ماهو الوجود؟!

 

هل الوجود ما نراه كصور مجسدة ؟!

 

ام ان الوجود خفي تماما ونحن نسمع عنه او منه فقط ولا نراه يقيناً.

 

في الحقيقة الوجود أعقد وأعمق من أن نحصره فيما هو مشاهد ملموس.

 

سقطت الإشتراكية لأنها خرجت من دائرة الإيمان والقيم إلى دائرة الجمود المادي فشعارها ( لا إله والحياة مادة) يتناقض مع ذاته ، فلا إله يعني لا حياة ، فالحياة ليست مادة ، الحياة تنمو وتتطور ، والمادة جامدة ثابتة ليس من صفاتها لا الحياة ولا التطور لأنه لا روح لها.

 

اعتمدت الاشتراكية على ( البروليتاريا) أي الطبقة الكادحة وهذه الطبقة الكادحة مجرد سواعد تعمل وتكدح في صمت ، ولكنها ليست القوة المفكرة وليست القوة الخلاقة القادرة على الابتكار والإبداع والتطوير.

 

فالساعد يعمل لكن ما يحركه هو العقل هي الروح هي المبادئ والقيم هو الطموح . 

 

عموماً حتى لا يحدث لبس في الموضوع ما أقصده بالإيمان ليس الإيمان الديني المحدد باركانه المحدودة.

 

انا أعني بالإيمان الإيمان الخلاق بمفهومه الواسع الذي لا يحده حد .

 

وبهذا المعنى تولدت علوم الطاقة وعلوم التنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية وامثالها وكلها علوم حديثة جدا وهذه كلها بلا استثناء إنما ترتكز على أساس الإيمان الإنساني العميق.

 

حتى طرق الاستشفاء الذاتي واليوجا تعتمد أساساً على شكل من أشكال الإيمان الكلي والمطلق.

 

والتأمل في الموجودات لا يتوقف عند هذا الحد ، فتجليات العلم الحديث وابتكاراته التكنولوجية الحديثة أبدعت لنا تقنيات جديدة ومتنوعة مثل اجهزة الراديو واجهزة التلفاز و وأشعة إكس و اجهزة الاتصالات الخلوية بما تحتويه من تكنولوجيا أشبه بالسحر كالواي فاي والبلوتوث وكل هذه التقنيات التي ذكرتها ابتداءً من موجات الراديو حتى الواي فاي هي جزء أساسي لا يتجزأ ولا ينفك عن وجودنا وعن حياتنا اليومية المعتادة.

 

وهكذا يصل بنا التأمل في الوجود وفي الإنسان إلى بحر الإيمان ، الإيمان بمعناه الكبير الذي أشرت إليه لا بحدوده الدينية التي ضاقت على يد من يسمون برجال وعلماء الأديان.

 

إن الإيمان بقدوم الغد وبالمستقبل هو ما يبقي هذا العالم على قيد الحياة.

 

إننا نشير إلى الأمس واليوم والغد والشهر والسنة والقرن بالزمان ، إن الزمان أيضاً هو الآخر لغز من ألغاز الغيب وليس لنا من حيلة تجاه الزمان إلا الإيمان به وتقديسه أيضاً.

 

وأنا أسألكم أيها السادة الكرام من منكم قد رأى الزمان ؟ 

 

أينشتاين أبدع نظريته النسبية واعتبر أن الزمان بعداً من أبعاد المكان .(الزمكان)

 

يا هل ترى كيف تجلى الزمان؟ هل تجلى لك كفاتنة حسناء بغاية البهاء والجمال والدلال حتى عشقته وآمنت به كل هذا الإيمان يا إينشتاين؟!

 

أصدقكم القول إنني حين دخلت في هذه التأملات لم أكن أتوقع أن أرسو على شاطئ الإيمان.

 

لم أخطط أبداً أن أصل إلى هذه النتيجة .

وجدتها هي نفسها التي فرضت وجودها في النهاية ، فما كان لي إلا الإيمان بالإيمان ذاته.