علي بن الفضل بين الشائعة والحقيقة
بقلم/ د. ثابت الأحمدي
نشر منذ: سنتين و 4 أشهر و 29 يوماً
الخميس 28 أكتوبر-تشرين الأول 2021 06:15 م
 

بادئ ذي بدء أقول: لا أدري كيف يستسيغ البعض ما هب ودب من الروايات التاريخية التي يختلط سقيمها بصحيحها، دون تمحيص أو تدقيق أو نقد، معللين قبولهم لها بأنها قد وردت في كتاب كذا من الكتب التاريخية أو حتى الكتب الدينية.

وأتوقف هنا فيما يتعلق بالشائعات الإمامية التي انطلت على البعض عن الثائر اليمني علي بن الفضل. وقد كان الثائر اليمني علي بن الفضل أبرز مناوئ سياسي لعصابة يحيى حسين الرسي وأولاده من بعده، أغلب أتباعه من الفقراء والمعدمين الطموحين الذي كانوا يشكلون غالبية المجتمع آنذاك، لاسيما وقد عمد الرسي للتحالف مع الزعامات الإقطاعية في البلاد لتثبيت حكمه، فسيطر ابن الفضل على المناطق الوسطى المعروفة بخصوبة أراضيها وغنى أهلها، كما سيطر أيضا على أجزاء واسعة من تهامة، وكانت له هيبة كبيرة، فاستدعت الزعامات الإقطاعية في صنعاء وما حولها يحيى الرسي للتحالف معهم من أجل القضاء على حركة ابن الفضل التي تهدد مصالحهم، رغم سوء العلاقة القائمة حينها بين هذه الزعامات وبين الرسي الذي رفضته صنعاء لأكثر من مرة، فأشاع الهادي بين الناس إشاعات عن علي بن الفضل يتهمه بالمجوسية، كما أشاع أن علي بن الفضل ــ وقد أقام في مذيخرة ــ أمر الناس بنكاح الأمهات والأخوات وشرب الخمر، وحرم جميع الحلال وأحل جميع الحرام وكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء من عند الله، وادعى الألوهية، وأنه جمع الرجال في مكان، والنساء في مكان آخر، ثم أرسل الرجال على النساء فتقع الأم للابن، والأخت مع الأخ، ومن امتنع من ذلك قتله وأباح حرمته لمن معه. وأن علي بن الفضل سبى من النِّسَاء في مدينة زبيد خمسة وثلاثين ألف امرأة، وأنه أمرَ بنكاح الأمهات والأخوات، وأحل جميعَ الحُرم، وكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وشرب الخمر. ولم يكن يذكر اسم علي بن الفضل إلا ويدمغه باللعن. انظر سيرة الإمام الهادي ص: 394.

ولدحض هذه الشائعات والافتراءات نقول:

1ــ أول من كتب عن علي بن الفضل هو علي بن محمد العلوي، ابن عم الهادي وقائد جيوشه ومرافقه الخاص، وهو عدوهم بطبيعة الحال، فهل يصح عقلا أن نأخذ رواية عن شخص ما من عدوه؟!!

2ــ ثاني من كتب عن علي بن الفضل هو ابن سمرة الجعدي، ناقلا بالسماع ما تداوله أتباع الهادي حينها، بعد ما يزيد عن مئة عام على وفاة علي بن الفضل والهادي معا. وابن سمرة من حلفاء أبناء الهادي وأحفاده، ويعزو نفسه كما في مقدمة كتابة إلى عدنان، الفرع النقيض للقحطانية آنذاك. ويكفي أن ابن سمرة الجعدي كان يذكر يحيى حسين الرسي بلقب "الشريف" قبل اسمه، وإذا ذكر علي بن الفضل ألحقه بقوله: "لعنه الله". كما وصف ابن سمرة الرسي بأنه مجاهد وشجاع وعالم... إلخ. وهي إشارة إلى موقف سياسي وعقدي قبل كل شيء. انظر طبقات فقهاء اليمن ص 75 فما بعدها. ونقل الحمادي ما كتبه ابن سمرة الجعدي بعده بفترة.

3ــ تهمة الإباحية التي أطلقها الرسي وأبناؤه على الثائر علي بن الفضل هي ضمن عدة تهم أخرى من ضمنها الإلحاد، وليست التهمة الوحيدة، وضمن تهم عدة أيضا لأشخاص آخرين اتهمهم بالإباحية كالشيخ الدعام، وغيره. ومن يتتبع سيرة الهادي يجد تهمة "ينكحون الذكور ويشربون الخمور" تتكرر على كل خصم من خصومه، وكل أهل اليمن خصومه. فتهمة الإباحية التي طالت علي بن الفضل كتهمة الإباحية التي طالت الشيخ الدعام خصمه السياسي الآخر، حيث قال عنه الهادي على قلم كاتب سيرته: "وكان مع الدعام جندٌ فُساقٌ، يشربون الخُمور، ويركبون الذكور، ويفجرون بالنساء علانية" انظر سيرة الهادي ص 94. مضيفا: "إنَّه كان في عَسْكر الدعامِ في "بيت ذؤد" أربعمئة امرأة فاجرة، يظهرون/ يظهرن الفجور علانية، لا يَستترون/ يستترن بذلك؛ بل يتحاكمُ العسْكرُ فيهن إلى سَلاطينهم وعُمَّالهم، وكانوا كل عَشية يجتمعون إلى بابِ سُلطانهم الفاسقِ فيلعبنَ بين يديْه، وينشرن شُعورهن، ويُبدين زينتهن، ويُظهرن محاسنَهن، ويلبسنَ أرقَّ ما يقدرنَ عليه من الثياب، ليبْدوَ ما خفي من أبدانِهن، فيأتي العَسكر، فإذا هَوى الرجلُ منهم واحدةً، دفع إليها دراهمَ بحضرةٍ من يحضرُ معهم، فلعلها لا تروح إليه تلك الليلة، فإذا أصْبح أتى إلى السُّلطان، وأعلمَه أن ملعونته لم ترح إليه، وقَدْ أخذتْ دراهمَه، فيأمر سُلطانه عند ذلك بأدبها، وبأن تصيرَ إلى صَاحبِها" نفسه 94.

4ــ تهمة الإباحية ــ بما فيها تهمة ليلة الإفاضة أو ليلة الإمام كما يسمونها كررها أغلب الأئمة ضد اليمنيين زوروا وبهتانا، ومنهم أحمد بن سليمان ضد خصومه السياسيين من قبيلة يام، فقال فيهم: "ما بقي منهم من يصوم رمضان، وارتكبوا الفواحش، وجعلوا لهم ليلة سموها ليلة الإفاضة، فيرتكبون فيها الأخوات والأمهات والبنات، ويفضي بعضهم إلى بعض، فلا يبقى شيء من المنكر إلا يفعلونه، ويشربون الخمر ويدمنون على شربها. انظر سيرة الإمام أحمد بن سليمان ص 193.

5ــ هذه التهمة وأمثالها هي ذات التهمة التي اتهمها الإمامي يحيى في أبناء تعز بأنهم يوالون النصارى ويتناكحون بلا عقود شرعية، بل إنهم لم يعودوا من أهل الإسلام.!! انظر سيرة الإمام يحيى المسماة كتيبة الحكمة من سيرة إمام الأمة، ص 248/2.

 6ــ بشكل عام فإن من يقرأ سير الأئمة منذ الرسي وإلى اليوم يجدها طافحة باتهام اليمنيين بالإباحة وشرب الخمور..!! وهي ضمن حرب الشائعات التي اتبعتها الإمامة قديما وحديثا. وقد استقصيتُ ما استطعت استقصاءه من شائعات الإمامة في كتاب خاص لي اسمه حرب الشائعات، وهو متوفر على شبكة الانترنت

7ــ لم نسمع عبر التاريخ الإنساني قاطبة أن زعيما ما قد أمر الناس بنكاح البنات والأمهات، ناهيك عن الذكور، وفي كل الأديان قاطبة، بل وغير الأديان. فما بالك بثائر يمني مسلم اشتهر منذ نشأته الأولى بالصلاح والعبادة، وفي مجتمع عربي محافظ، ومع ذلك أيضا يسعى للزعامة السياسية؟!! بل لقد ذكر ابن سمرة نفسه أن حج وزار قبر النبي.

8ــ لا أدري هل يتقبل عقل طبيعي صحة رواية الهادي أن علي بن الفضل سبى في زبيد فقط 35 ألف امرأة..!!! لك أن تتخيل هذا الرقم المهول..! أي دار وسعت هؤلاء النسوة؟ وإذا كان هذا عدد النسوة من السبايا، فكم عدد الرجال؟ وهل يسمح المجتمع بسبي نسائه؟! بل لقد تتالت روايات أسطورية بعدها أنه افتض ألف عذراء على سطوح الجامع الكبير، حتى سال الدم من الميزاب..

9ــ يقول الباحث والمفكر الدكتور علي محمد زيد في هذه المسألة: "ويعود الكثير من التشويهات التي لحقت بحركة ابن الفضل إلى ما كتبه مؤرخو دعوات أخرى، خاضت معها حروبا طاحنة، نتج عنها تدمير قرى ومدن، وقتل ودماء، ومن هنا يمكن أن ننظر إلى ما كتبه هؤلاء نظرتنا إلى الدعاية السياسية والأيديولوجية التي ترافق الصراع بين الأطراف المتصارعة". انظر: معتزلة اليمن دولة الهادي وفكره، 120.

مضيفا: "ويذكر الجَندي أنه بحث حقيقة هذه الجماعية في النساء التي ألصقت بالحركة الإسماعيلية في اليمن فلم يجد لها أي أساس. وتوصل الباحثون المحدثون إلى نتيجة لخصها "دي خويه" بقوله: من الثابت أن ما يسمى ليلة الإمام لم يكن معروفا عند القرامطة، وأن الأمر من اختلاق أعدائهم.. وبذلك يمكن أن نستنتج أن هذه الدعاوى السياسية تهدف إلى إثناء جموع الفقراء أو من تسميهم سيرة الناصر الغوغاء عن اتباع هذه الحركة المعادية لدولة الهادي وخليفته، وإفساد مفعولها الذي يجتذب الجماهير إليها بسرعة عن طريق إلصاق صفات يكرهها الجمهور المسلم، وخاصة مسألة النساء والخمر، وتحليل جميع المحرمات، وهي صفات تناقض النشأة الدينية لابن الفضل، وتناقض هذا الاجتذاب للجمهور المسلم الذي حققته حركته". نفسه 121.

ويواصل الدكتور علي محمد زيد حشد الاستدلالات المنطقية التي تؤكد تشويه الإمامة لعلي بن الفضل بالقول: فالكتب التاريخية المعاصرة لابن الفضل، أو التي كتبت في القرن الرابع الهجري ــ وهو القرن الذي شهدت حركة ابن الفضل أقل من أربع سنوات من بدايته ــ لم تشر إلى القصيدة، لا من قريب ولا من بعيد، مع أن كتابها معادون لحركة ابن الفضل، وألصقوا بها ما وسعهم من التشويه والإساءة المتعمدة، ولو أن القصيدة صحيحة النسبة لابن الفضل، أو إلى أحد أنصاره لقدمت مادة دعائية تُغني هؤلاء الكتاب وغيرهم من أعداء الحركة..". نفسه 122.

10ــ القصيدة المنسوبة إليه افتراء وزورا تشنع بصاحب هذه الدعوة نفسها في خاتمتها، فهل من المعقول أن يسبّ الإنسان نفسه في قصيدة له؟! حيث تقول في آخرها:

وصلّ إلهي على أحمد          واخزِ الفويسقَ من يعربِ

وحرّمْ عليه جنانَ النعيم           فقد باحَ بالكفر لم يرقب

فالفويسق من يعرب المقصود به هنا علي بن الفضل.

أما أكذوبة أنه قالها من فوق منبر جامع الجند بتعز فحكاية أخرى..!

11ــ نفى هذه التهمة عن علي بن الفضل كاتب وأديب كبير هو الدكتور عبدالعزيز المقالح، وقد سألته شخصيا ذات مرة عن هذه المسألة فأجاب بالنفي وأنها من شائعات خصومه الإماميين، ولا يزال الدكتور المقالح على قيد الحياة، وللدكتور المقالح نفسه ديوان شعر اسمه "الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل". كما تناول هذه القضية أيضا باحث وعالم كبير هو الدكتور حمود العودي، وقد نفى عنه هذه التهمة تماما.

12ــ ورود هذه التهمة ضد علي بن الفضل، وغيره أيضا من الزعماء اليمنيين في أي كتاب من كتب التاريخ لا يعني صحتها بأي حال من الأحوال، فهناك خرافات وخزعبلات في كتب التاريخ الإسلامي نفسه، لا تصمد أمام مناهج البحث العلمي المعاصرة، ولا يتقبلها عقل، على سبيل المثال ما ورد في كتاب تاريخ الخلفاء للإمام جلال الدين السيوطي وهو يتكلم عم مقتل الحسين بن علي: "ولما قتل الحسين مكثت الدنيا سبعة أيام والشمس على الحيطان كالملاحف المعصفرة، والكواكب يضرب بعضها بعضًا، وكان قتله يوم عاشوراء، وكسفت الشمس ذلك اليوم، واحمرت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله، ثم لازالت الحمرة ترى فيها بعد ذلك اليوم ولم تكن ترى فيها قبلها.

وقيل: إنه لم يقلب حجر بالبيت المقدس يومئذ إلا وجد تحته دم عبيط، وصار الورس الذي في عسكرهم رمادًا، ونحروا ناقة في عسكرهم، فكانوا يرون في لحمها مثل النيران، وطبخوها فصارت مثل العلقم، وتكلم رجل في الحسين بكلمة، فرماه الله بكوكبين من السماء فطمس بصره". انظر تاريخ الخلفاء للسيوطي، 341.

وأخيرا.. بعد هذه الحجج هل بوسع قائل ما أن يقول أننا نزور التاريخ، لأن لنا موقفا من آل الرسي؟ أم أن الحقيقة قد أسفرت عن وجهها؟!