في يمن اليوم : لا قبيلة لمن لا دولة له .. ولا دولة لمن لا قبيلة له :
بقلم/ أمين اليافعي
نشر منذ: 16 سنة و 11 شهراً و 3 أيام
الجمعة 21 ديسمبر-كانون الأول 2007 07:04 ص

مأرب برس – خاص

قبل قراءتي لـتقرير " تقييم الفقر في اليمن لعام 2006م "، كانت لديّ مجموعة من التصورات المسبقة حول طبيعة المحافظات الأكثر فقرا وكنت أجزم أن تتصدر القائمة محافظات الأطراف التي ترتفع فيها نسبة الأمية ( لعلاقة التراجع في نسبة الفقراء بين الحاصلين على تعليم رسمي مقارنة إلى الأميين كما تقتضي البديهة)، وتبعد ـ في الوقت ذاته ـ عن المناطق التي يمكن أن تشكل نوع من الحراك التجاري فتتوافر فيها فرص العمل(كالعاصمة وعدن وتعز..).. ولم أغفل قط دور " القبيلة " باعتبارها أهم المرتكزات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الحالة اليمنية وطبيعة بنيتها الداخلية المحددة لعلاقة المشايخ بأفراد القبيلة وقوة العصبية المترتبة على هذه العلاقة بلعب دور رئيسي في تحديد قائمة المحافظات الأكثر فقراً. وكانت أنظاري تتجه ـ قبل التقرير ـ صوب تلك المحافظات التي تقوّض فيها مفهوم العصبية وفاعليته لصالح الإخضاع والاستغلالية والهيمنة على مصادر وطرق الإنتاج الممارسة من قبل الشيخ تجاه أفراد قبيلته كالمناطق الوسطى والغربية (كما رصد هذه العلاقة مجموعة من الباحثين منهم فضل علي أحمد أبو غانم في "القبيلة والدولة" و"البنية القبلية في اليمن بين الاستمرار والتغيير").. وأصبح نظامها الاجتماعي بفعل هذه الممارسات شكل من أشكال الإقطاعيات، فنسبة ضئيلة جداً ـ المشائخ ـ يمتلكون كل شيء، وأغلبية ساحقة لا يمتلكون أي شيء، مما يجعلها بيئة أكثر خصوبة لـ "عشعشة" الفقر ..

وإذا كان ابن خلدون قد جعل العامل الاقتصادي من أهم ثلاثة عوامل تحدد فاعلية العصبية ـ بجانب القرابة والعامل المعنوي كالأخلاق والتديّن، وربط مصدر قوتها بـ"ثمرات النسب".. وفي حين أن قوة العصبية لا تشتد ولا تلعب دورها التاريخي ـ كما يقول المفكر عابد الجابري ـ إلا حيث يكون الناس أحراراً من كل سلطة خارجية، سواء كانت سلطة عصبية غالبة مستبدة، أو كانت هذه السلطة تحكماً في النفوس واستغلالاً للخيرات والأموال بوجه من وجوه الاستغلال.. كان من المفارقات بالنسبة لي ـ نتيجة هذه الأسباب مجتمعة التي شكّلت لديّ تصوراً مسبقاً للوضع الاقتصادي للمواطن العادي في اليمن ومناطق قوته وضعفه ـ أن تتصدر محافظة عمران قائمة المحافظات الأعلى في نسبة الفقر! ولم يدر بخلدي قط أن تكون عمران حتى ضمن أفقر عشرة محافظات يمنية!

وهذا ليس لأن محافظة عمران منزهة عن الفقر، لكن كونها المقر الرئيسي لأكبر قبائل اليمن "حاشد"، هذه القبيلة التي برزت بقوة في جسم الدولة اليمنية الحديثة، وكان لمشايخها النصيب الأوفر في الوظائف الكبيرة والمهمة.. إضافة إلى السياسية المتبعة من قبل الأنظمة المتعاقبة على الحكم في استمالة هؤلاء المشائخ بتركها لهم يتوغلون بقوة في أوردة الثروة دون حسيب أو رقيب، فظهروا بعد فترة وجيزة(خصوصاً بعد التحاق اليمن بركب الدول المصدرة للنفط) فاحشي الثراء، يمتلكون ـ هم وأبناؤهم ـ أهم القطاعات الاقتصادية والإنتاجية الخاصة والعامة.. في الوقت ذاته، كانت عمران أكبر منطقة يمنية في العصر الحديث ظهرت فيها فعالية العصبية( من خلال عدد من "الداعيات القبلية" التي شهدناها منذ بداية قيام الدولة اليمنية وحتى الآن).. والتي أرجعها بعض الباحثين ـ أي الفاعلية العصبية ـ لطبيعة العلاقة بين الشيخ وأفراد قبيلته في هذه المناطق المتسمة بالتعاون والاحترام المتبادل بين الطرفين، والاحتكام إلى العرف القبلي الذي يمنع احتكاره لوسائل الإنتاج الاقتصادي، وتحد من سيطرته واستغلاله للأفراد المنضوين تحت قبيلته (منهم فضل أحمد أبو غانم: المصادر السابقة).

لكن أن تظهر عمران كأفقر محافظة يمنية ويقبع أكثر من 65% من قاطنيها تحت وطأة البؤس والأمية والجهل والأمراض في ظل ثراء فاحش لمشايخها الذين يسكنون القصور، ويركبون ـ هم وعائلاتهم ـ أخر موديلات السيارات، وتحيطهم عشرات الأطقم العسكرية، ويلتحق أبناؤهم للدراسة في أهم الجامعات( منها العالمية).. في هذا الوقت تظهر عمران كأكثر المحافظات المتمسكة بعاداتها وتقاليدها وقوة عصبيتها.. ما يجعلنا نتساءل عن مفهوم العصبية ومحدداته ودور القبيلة التاريخي !! وهل نحن أمام تشكل لمفهوم جديد للعصبية ينأى جانباً عمّا قدمه ابن خلدون من تحليلات لهذا المفهوم والذي أكد فيه انتفاء النسب عندما تنتفي ثمراته؟.. وإذا كانت القبيلة تاريخياً ـ كما يعرفها المفكر السعودي عبد الله الغذامي في "القبيلة والمجتمع(بنية القبيلة)" ـ عبارة عن نظام اجتماعي يقوم على أساس ثقافي وسلوكي وأمني واقتصادي واضح المعالم، وتنشأ فيه التحالفات الداخلية والخارجية بناء على مصالح جوهرية وبناء على حقوق ثقافية وإنسانية إضافة إلى الجانب المصلحي الأكيد. و هي ضرورة معاشية و مصلحية ودولة لمن لا دولة له، بحيث تقوم على رعاية مصالح أعضائها ولا تتم هذه المصالح إلا عبر هذا النظام.. فهل نحن في أتون مرحلة فارقة تتخلى فيه القبيلة عن لعب دورها التاريخي في رعاية مصالح أفرادها، ولا تصبح دولة لمن لا دولة له بالمعنى الشامل للدولة من تعاقد ومشاركة واقتسام للثروة والمقدرات الأخرى؟!( بجانب هذه التساؤلات ، نتساءل هنا أيضا ـ وهو خارج عن سياق موضوعنا ـ عن دور قبيلة "حاشد" في تحديث اليمن؟ هذه القبيلة التي أخذت على عاتقها حماية الثورة كما قرأنا في كتب التأريخ اليمنية خصوصاً السيرة الذاتية للشيخ الكبير! و زُخرِفت أسماء مشايخها على صحائف الثورة أكثر مما زُخرِفت أسماء "الأحرار"، واعتلوا أهم المراكز القيادية في دولة ما بعد الثورة.. وعندما نبحث عن الإجابة في عقر دار هذه القبيلة لا نجد إلا تحديثاً واحداً فقط! فالفتى الذي لم يتجاوز سن الثالثة عشر عنده المقدرة على التعامل مع أحدث أنواع الأسلحة تحت مسمى عريض "أن السلاح مُكمّل للشخصية "، وكأن الفقر والجهل والأمية يسقطون من أن يكونوا عيبا في وجود "الكلاشنكوف"!)..

صحيح أن القبيلة في تاريخها الطويل لم يتحقق فيها مفهوم الاقتسام بالشكل المثالي، وأفرزت في كل مراحلها تباين طبقي ببنيتها الداخلية، والأمثلة كثيرة على ذلك لعل أهمها ما صرح به الشاعر الجاهلي "عروة بن الورد" في أبياته الشهيرة التي يقول فيها:

 وأني أمرؤ عافي إنائي شركةٌ *** وأنت أمرؤ عافي إنائكَ واحدُ...

أقسمُ جسمي في جسومٍ كثيرةٍ *** وأحسُو قراح الماء، والماء باردُ..

لكن هذا التفاوت لم يكن بارزاً بهذه الدرجة، إذ لم نسمع قط أن أغنى أغنياء العرب وأفقر فقرائها ينتمون لقبيلة واحدة.. أما تصورات الشاعر "الصلعوك" عروة تجاه نظام مجتمعه والذي تشكله القبيلة نستطيع تفهمه على ضوء أن الطبيعة البشرية تحاول دائماً تضخيم عيوب أي نظام خارجه عليه ليكتسب خروجها نوعاً من الشرعية، بجانب كونه شاعراً، والشاعر عادة ما يسعى لتفخيم "الأنا" فوق أي اعتبارات أو قيم أخرى.

وباعتقادي أن التداخل الذي حدث بين الدولة الحديثة في اليمن والقبيلة، بين التحديث المشوّه ومخلفات الماضي، قد طبع كل طرف بطبائع الآخر، فأفرز هذا التداخل نظاماً جديداً ومختلفاً في الجانبين.. وكما أثرت القبيلة ومفاهيمها في شكل ومضمون نظام الحكم للدولة اليمنية الحديثة، فأصبحنا نرى نظاماً يُدعى بـ"الحديث" بينما لا يشبه أي نظام حديث في العالم.. كان لشكل الدولة في العالم الثالث والتي تنحو باتجاه تركيز السلطة والثروة والتحديث بيد أقلية بسيطة بينما تقبع الأغلبية الساحقة في فقرٍ وجهلٍ وأمية تأثير على المفاهيم والسلوكيات التقليدية للقبيلة. وربما كان هذا التفاوت الاقتصادي والثقافي الكبير أدل الأمثلة على تغير الأطر والعلاقات التي كانت سائدة بين المشايخ والأفراد داخل القبيلة الواحدة في تلك المناطق ذات "الفاعلية العصبية". هذا التفاوت الذي لم يكن موجوداً من قبل بهذه الدرجة!. خصوصاً وأغلب هؤلاء المشايخ مشاركون بقوة في رسم سياسة الدولة اليمنية في كل مراحلها الحديثة.. وربما ليس أمامهم ـ بعد خبرتهم الطويلة في المناصب الرفيعة التي تقلدوها ـ لضمان بقاء شرعية سلطاتهم التقليدية في عالم حديث ومنفتح يسعى ـ حسب أدبياته ـ إلى بناء الدولة والمجتمع على أساس حقوق وواجبات متساوية بعيداً عن تمايزات دينية أو عرقية أو أسرية.. وبقاء أفراد قبائلهم جنود وحراس لبوابات قصورهم ولمصالحهم ؛ ليس أمامهم إلا هذا المسلك ( وهذا ما أشار إليه الشيخ حسين الأحمر في "داعيه" الأخير بمنطقة "خمر" الشهيرة بغرض التحريض على الدولة، بينما هذا هو الواقع الحقيقي، وهؤلاء المشائخ هم أول وأكثر من يمارسه)..

وأظن أننا في بداية مرحلة فارقة توحي بنهاية النظام الاجتماعي والسياسي القائم في اليمن. إذ أن العامل الاقتصادي ـ كما يشير ابن خلدون في مقدمته ـ أهم العوامل التي تؤدي إما إلى ترسيخ الدول والأنظمة وازدهارها وبناء القصور واتخاذ الموالي والصنائع وتخليد الآثار أو إلى الهِرم واستيلاء المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه، ولا يكون لها معه براء، إلى أن تنقرض.. وفي الحالة اليمنية الراهنة، ما يساعد على إبطاء الانقراض غياب البديل من نظامٍ يجد فيه المواطن العادي نفسه وهويته الجديدة التي يستطيع يفاخر بها، ويقدم له ضمانات لحياة كريمة، ومستقبل ٍمشرق ٍلأبنائه وأحفاده.. وهو ما لم تستطع الدولة اليمنية الحديثة أن تحققه له، فكان من الطبيعي أن يتمسك بنظامه القديم، فالإنسان عندما لا يجد نفسه وهويته في الحاضر، ولا يرى أملاً في أي مستقبل، يبحث عنها في إدراج الماضي مهما كان سيئاً.. فعلى الأقل يبقى الماضي هويته الأولى، ويكفيه منه أنه استمر إلى الآن. وهذا سر تمسك القبائل يهوياتها وعصبياتها القديمة رغم الظروف الكارثية التي يرزحون تحت وطأتها!

أما شكل النظام الجديد الذي سيخلف هذا النظام من يحدده مستوى الوعي عند المواطن اليمني، ودرجة تفاعلاته الداخلية والخارجية، وإدراكه لشكل النظام الذي يمكن من خلاله أن يتحقق له الاستقرار والحياة الكريمة. فقد يكون حداثياً ( وكانت الفرصة كبيرة أمام اليمن لتحقيق هذا النظام بعد الثورة، لكن لقلة الوعي الشعبي فشل تحقيقه)، وقد يكون نظاماً كالنظام التقليدي السابق( كما ورِثت أسرة الأحمر أسرة بيت حميد الدين مع بعض "الرتوش" لتماشي العصر.. وهكذا). فالشرط الذي ينبغي أن يحققه هذا النظام الجديد ليكون الخليفة ـ كما يشير ابن خلدون ـ إيجاد عصبية غالبة يسودها التساوي والاقتسام ولا ينفرد فيها أحدٌ دون أحد.. وقد تكون هذه العصبية عصبية وطنية جامعة( أي دولة يمنية حديثة بالمعنى الحقيقي للحداثة)، أو عصبية تقليدية ـ قبلية دينية ـ ككل العصبيات التي تعاقبت على حكم اليمن في تأريخه الطويل.