قراءة في تسريحة محمد دحلان
بقلم/ دكتور/محمد المهدي
نشر منذ: 17 سنة و 5 أشهر و يومين
الخميس 21 يونيو-حزيران 2007 07:53 ص

كنت أشاهد اجتماعا لقادة السلطة الفلسطينية في إحدى فترات الصراع الساخنة، وأدور بعيني -كعادتي وبحكم مهنتي- أحاول قراءة الأوضاع على وجوه المجتمعين، تلك القراءة التي تعطي انطباعات أصدق بكثير من التصريحات الدبلوماسية سابقة التجهيز، وفجأة توقفت عند أحد الوجوه مستغربا ومندهشا: ماذا جاء به إلى هنا، ومن الذي وضعه بينهم، ومع من جاء؟! ربما جاء مع والده أو أخيه الأكبر!!

ومن الذي قام على تسريحة شعره بهذا الإتقان؟! وأي أنواع "الشامبو" يستعمل حتى يصبح شعره بهذه النعومة واللمعان؟! وأي بلسم يضيفه على الشامبو كي يصل إلى هذه الدرجة الفائقة التي يفتقدها نجوم السينما؟! وأي مركز تجميل يرتاده لكي يحافظ له على نعومة بشرته؟! وأي كوافير استطاع ببراعته أن يقوم بهذه التسريحة التي يميل فيها الشعر بتموج ودلال على وجه "حمادة دحلان" وهو يجلس بين المناضلين على يمين أبو عمار؟!

كل هذه التساؤلات ظلت تطاردني وأنا أحاول أن أقنع نفسي بأنه يمكن أن يكون الإنسان مناضلا ووسيما و"شيكا" وصاحب قُصة (بضم القاف)، ولكن نفسي لا تطاوعني، وحدسي يقول لي إن هناك شيئا ما في هذه القِصة (بكسر القاف).

واستمرت هذه التساؤلات وهذه الصراعات في نفسي إلى أن حانت لحظة الزلزال حين علمت أن محمد دحلان هو المسئول الأمني الأول في السلطة الفلسطينية (يا خبر أسود ومنيل.. وكمان مسئول الأمن.. وبقُصة "بضم القاف" وشعر ناعم متمايل ويهفهف).

إلا الأمن

قد كان يمكن أن "أتفهم" القصة (بكسر القاف) (كما يقول سياسيونا حين نضرب على قفانا وعلى مؤخراتنا) أن يكون دحلان مسئولا عن الثقافة والإعلام مثلا أو مسئولا عن السياحة أو مسئولا عن أي شئ إلا الأمن , ولكن عاودني هاجس مضاد : ولماذا نفترض في رجل الأمن الشدة والصرامة والغلظة , أليس من الممكن أن يكون شخصا رقيقا ذا قصة (بضم القاف) وذا تسريحة مائلة مميلة (أستغفر الله العظيم) وساعتها سيكون تعامله مع الشعب الفلسطيني رقيقا وناعما خاصة وأن هذا الشعب المسكين يعانى من غلظة الأمن الإسرائيلي ولهذا يحتاج أمنا وطنيا ذو تسريحة شعر ناعمة ومتموجة . وهنا استوقفتني كلمتي ناعمة ومتموجة , ورحت أمارس عادتي المرذولة في الربط بين المظهر والمخبر (قد يتفقان وقد يتضادان في ظروف بعينها) , وأؤيد ذلك بمعلوماتي عن التواصل وأدواته اللفظية وغير اللفظية ودلالات تسريحة الشعر وطريقة الكلام وطريقة الجلسة على شخصية الإنسان , وعندئذ وجدتني أزداد قلقا وتوجسا تجاه حمادة دحلان .

ثم ازدادت الأمور توترا على الساحة الفلسطينية وتم تفكيك جهاز الأمن الفلسطيني ومحاصرة عرفات في الضفة الغربية، وكان التوتر باديا على وجوه الجميع إلا وجها واحدا احتفظ بنعومته و"شياكته" وتسريحته وتموجات شعره ونعومته، وهنا عدت أتساءل: من أين يأتي "حمادة دحلان" (بالشامبو) والبلسم و(الكوافير) ومركز التجميل في هذه الظروف الصعبة؟! وقلت في نفسي ربما لأنه مناضل يستطيع أن يتغلب على الصعاب ويحصل على ما يريد من خلال رجاله الذين تناثروا في البلاد واندسوا بين العباد! وعاودني سؤال آخر: كيف يحتفظ هذا الفتى بالذات بهدوئه وابتسامته في مثل تلك الظروف؟! وعرفت فيما بعد أنه كان مبعوث السلطة الفلسطينية لدى السلطات الإسرائيلية، وأن ذلك كان يتيح له فرصة التنعم في الفنادق الإسرائيلية في حين يعيش غيره من المناضلين الفلسطينيين تحت الحصار الخانق والمرير، هل يرجع ذلك إلى ذكائه الاستثنائي وقدراته البارعة في المناورة أم أن ذلك من دعاء الوالدين الذي يجعله محظوظا ومدللا من الجميع وفي كل الظروف.. اللهم لا حسد.

أكثر انتعاشا

وأخيرا قلت في نفسي "سيبك من موضوع تسريحته ونعومة شعره المنسدل على وجهه في دلال ، وتموجاته الحالمة الهائمة التي تسافر في كل الدنيا وركز على تكشيراته وابتساماته وربما آهاته" , وبدأت الخطة الجديدة وياليتها ما بدأت , فقد اكتشفت بسهولة كم يكون حمادة مبتسما ومنتعشا وأكثر نعومة وانسيابية ودلالا وغنجا (لا أعرف معناها بدقة ... يمكنك البحث عنها في أي قاموس ... قم بلاش كسل) حين يجمعه لقاء "بشيمون بيريز" أو "أولمرت" أو "نتنياهو" وترى لغة جسده تفيض حبا وحنانا وهياما , فيديه مبسوطتان تجاههم وساقيه أيضا وكل جزء في جسده في حالة ارتياح وانبساط , أما شعره (تانى شعره .. مش قلنا ها ننساه؟!) فتجده مائلا مميلا تجاههم (أستغفر الله العظيم) . أما إذا شاهدته يجلس مع رفيق في منظمة التحرير أو يتحدث عن أخ من حماس أو الجهاد أو حتى رفيق من الجبهة الشعبية فتستطيع أن ترى تكشيرة واشمئزازا وقرفا وتوترا في كل عضلات جسده الذي يعتني به عناية فائقة.

وحاولت جاهدا أن أنسى موضوع دحلان وقِصته (بكسر القاف) وقُصته (بضم القاف) (المرة دي معلش باتعبك معايا.. وكمان تعبنا القاف، مرة نضمها والعياذ بالله ومرة نكسرها) وأن أتفرغ لمتابعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ثم الفلسطيني الفلسطيني، وإذا بي أفاجأ به يظهر مرة أخرى بقوة في هذه الأيام المدلهمة، وهذه المرة في مصر، ومع شخصية مصرية محبوبة، مع عمرو أديب (عمورة المصري الأصيل الجميل ابن البلد)، وغاظني طول المنضدة (الترابيزة ما تزعلش) التي تفصل بين "حمادة دحلان" وبين عمرو بحيث تجعل المسافة بينهما بعيدة بشكل نسبي ملحوظ، ولا أعتقد أن هذه مصادفة، فتلك أمور ترتب بدقة وبقصد شديدين مراعاة لظروف أمنية أو سياسية، وهذه المسافة البعيدة التي وضعها بينه وبين محاوره الظريف اللطيف جعلت المشاهدين يشعرون بالغربة تجاه دحلان، بقدر ما يشعرون بالقرب والمحبة تجاه عمرو، ولسان حالهم يردد العبارة المأثورة (نحن غرابى عنك).

غطرسة واضحة

 وعلى الرغم من حرص دحلان على الخطاب الدبلوماسي الحذر الذي لا يقع في الخطأ إلا أن تعبيراته غير اللفظية كانت تقول شيئا آخر فإضافة إلى معنى المسافة والمنضدة الطويلة بينه وبين محاوره المصري الطيب الأصيل , نرى حمادة يجلس في غطرسة واضحة وكأنه رئيس وزراء إسرائيل يتحدث من موقع المنتصر الذي يملك 200 رأسا نووية , وحين تتتبع تعبيرات وجهه تجده يفيض رقة وحنانا وعذوبة حين يرد على لسانه ذكر كلينتون أو بيريز أو أولمرت , ثم تنقلب سحنة وجهه حين يرد على لسانه أو لسان محاوره ذكر حماس أو الجهاد أو حتى أبو عمار فتظهر في عينيه شراسة واضحة وتنقبض عضلات وجهه تحت البشرة الناعمة والمنعمة بعناية فائقة , وتهتز خصلات شعره الساقطة على وجهه في غضب وانفعال , وتنطلق الكلمات من فمه في دفعات متتابعة تمنع محاوره من أي فرصة للتحاور , فعلى الرغم من قدرات عمرو أديب الهائلة في الحوار إلا أن حمادة دحلان كان يسد عليه الطريق طول الوقت باستبداد واضح محاولا أن يفرض كلامه هو فقط . 

المناضل الوحيد الذي لا يستهدفه العدو!!

ولكن هذا لم يمنع المحاور الذكي الفطن المحترف من توجيه ما يريد إلى هذا الطاووس المتباهى بآرائه ومواقفه والمتعالي بها على كل من سواه . ولقد زال عجبي من أناقته وشياكته حين علمت من كلامه أنه كان يتقاضى خمسة آلاف دولار في الشهر إبان فترة عمله كمناضل في تونس , وتمنيت لو تتاح مثل هذه الوظيفة النضالية لنا ولغيرنا من الكادحين في مصر وفلسطين وسائر العالم العربي المنكوب , وعرفت لماذا يبدو شعر إسماعيل هنية خشنا , ولماذا كانت تظهر على أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسى (رحمهما الله) علامات الإجهاد والتعب الممزوجة بصلابة رجولية عالية ومتواضعة في آن , ربما لأنهم رفضوا أن يذهبوا ليناضلوا من أرض تونس الخضراء ورضوا بالحياة على أرض فلسطين .

ويلاحظ من حديث دحلان أنه محور الكثير من الأحداث فهو الذي ذهب وهو الذي قال وهو الذي أشار، وكأن المنظومة الفلسطينية كلها تدور حول هذه الذات المنتفخة المتضخمة المزهوة، وقد تساءل المحاور في ذكاء: "لماذا لم تكن هناك أية محاولات لاغتيالك إذا كنت زعيما فلسطينيا وطنيا إلى هذا الحد شأن كل من يهدد سلام إسرائيل وراحتها، وشأن كل المناضلين الشرفاء؟!" وضاع السؤال المهم في مناورات لفظية مفادها أنه رجل محاور وليس مقاتلا، ولذلك فهو ليس مستهدفا من العدو، ودارت رأسي حيرة بين رجل الأمن ورجل الحوار والمناضل بأجر فلكي (بالنسبة لنا على الأقل نحن الكادحين العرب) والذي لا يستهدفه العدو بل يحافظ على حياته ويرعى صحته وسلامته و "شياكته" وتسريحة شعره في كل الظروف.

المواجهة الفلسطينية

وبعد هذا اللقاء التلفزيوني الذي كشف الكثير عن شخصية "حمادة دحلان" دون أن يدري أو يقصد، بدأت المواجهة الفلسطينية الفلسطينية الحادة والساخنة، وبدأت عملية الفرز التي كان يهرب منها ويتفاداها أو يؤجلها الجميع لسنوات طويلة، وبدأ الصف الفلسطيني في مرحلة إعادة الترتيب والتنظيم، وبدأ السؤال: أين يقف "حمادة دحلان" في الصورة الجديدة ومن سيكون بجواره وأمامه وخلفه؟! أسمع الآن صوت المذيع في قناة الجزيرة يعلن على لسان جورج بوش مساندته غير المشروطة لمحمود عباس وجهازه الأمني في صراعهم مع حماس، وهنا أدرك شهريار الصباح فسكت عن الكلام المباح