المشهد الأخير في الثورة اليمنية
بقلم/ محمد الأغبري
نشر منذ: 13 سنة و 4 أشهر و 6 أيام
الجمعة 15 يوليو-تموز 2011 11:13 م

تقليب صفحات التاريخ يعطي إشارات صحيحة ومعالم واضحة عن طبيعة الحياة وسننها الحاكمة، وترسم أشكالًا هندسية واضحة تبين سير الظالمين، نسخ تتكرر في كل كتب التاريخ، فئات مختلفة لنفس العملة الهزيلة، وعلى مدار التاريخ يتكرر خبر نهاياتهم.

أولوا الألباب وحدهم القادرون على أخذ العبر، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب)، لكن العامة يمرون عليها مرور الكرام، ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث والتقصي.

لحظات الحسم في التاريخ شديدة قاسية مريرة، تصل فيها القلوب الحناجر، وتكتتم الأنفاس لتبلغ حد الاختناق، يصيب الكرب أهل العزم بل إنه يصيب الرسل. واقرءوا قول المولى (حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء)، ولا تتوقف الآية هنا بل تستمر لتؤكد الحقيقة الباقية (ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين).

وهنا أقف متأملًا تعقيب المفكر الرائع والثائر الكبير سيد قطب وهو يتحدث عن هذه الآيات في آخر سورة يوسف: (إنها ساعات حرجة, والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر. والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض. فتهجس في خواطرهم الهواجس.. تراهم كذبوا? ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا?.

في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب, ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل, ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة.. في هذه اللحظة يجيء النصر كاملا حاسما فاصلا.

ذلك كي لا يكون النصر رخيصا فتكون الدعوات هزلاً. فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعي بدعوة لا تكلفه شيئاً. أو تكلفه القليل. ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثًا ولا لعباً. فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج, ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء. والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة, لذلك يشفقون أن يدعوها, فإذا ادعوها عجزوا عن حملها وطرحوها, وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون; الذين لا يتخلون عن دعوة الله, ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة!

وهنا تتوالى قصص ما قبل النهاية في القرآن لترينا سنة الله في تقرير النهايات العظيمة.

مشهد لمن قبلنا:

(فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون، قال كلا إن معي ربي سيهدين، فأوحينا إليه أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم......ثم أغرقنا الآخرين).

في لحظة يتصل فيها موج البحر العاتي بأقدام المظلومين، وتتصل أبصارهم بنظرات القاتل وجنوده. إنها اللحظة الحاسمة التي يتقرر فيها ضعف المظلومين، ويتقرر فيها انعدام الحيلة، تتجلى فيها عظمة الحق تعالى فتتحول الموازين في لمح البصر.

ومشهد من تاريخنا:

(إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا). فحين يشتد الخناق على الخندق، وتوجه السهام صوب التراقي، ويزيد المرجفون في إرجافهم فيصيحون (ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً) ويكتمل البلاء على النفوس الصالحة، تتجه إرادة القوي القاهر في تتويج الصبر نصراَ، فتتحرك الرياح لتقلب القدور وتقشع الخيام فينادي منادي الرحيل في صوت يملؤه الغيظ، وتتعالى صيحات الله أكبر في الجهة الأخرى من الخندق.

مشاهد لا تنسى من تاريخ الشعوب:

وفي ملاحم انتصارات الشعوب نرى مقدار الغرغرة التي عاناها المظلومون قبل أن تقرر النهاية مَن المنتصر، وفي استعراض مقتضب نمُر على ثورة رومانيا فنمر بخمسين ألف قتيل، وفي ثورة إيران نمر بخمسة عشر ألف شهيد، وعند كل قطرة دم تسيل على الأرض يزداد الظالم شروراَ واستفراداً، ويستحكم فيه الطبع الشيطاني، وفي الجهة المقابلة تزداد تيارات اليأس شدة في تأثيرها على النفوس. ولكن النصر يتقرر لصاحب الصبر الأكبر.

ومشهد باق في الذاكرة:

في آخر خطاب له قبل تنحيته، ظهر (اللامبارك) صامداً يحاول محاكاة أهرام الجيزة، ثم خطب خطبة أبكت الكثيرين في ميدان التحرير غيظاً، وملأت قلوب الكثيرين يأساَ وظن الجميع أن الأمور تتجه في صالح (اللامبارك)، وما هي إلا ساعات حتى تعلن النهاية أن المنتصر هو الصامد من أجل هدفه النبيل، اللاهث خلف سبل العلا، المفني نفسه في سبيل أمته. لم تمض ساعات حتى أَعلن عن تنحية مبارك وانه لم يعد له مكان في سدة الحكم.

تلك هي النهايات تقررها مقادير الصبر والحكمة في تدبير الأمور، والاستعانة بالمولى بعد الإيمان بالحق المسلوب.

ومشهد يصنع الآن:

ظهر (اللاصالح) في أول مشهد إعلامي له مثيراً لشفقة البعض ومثيراَ لغضب الآخرين، ظهر كالطير المكسور الجناح لا حراك فيه سوى للعينين اللتان لم تتوقفا عن الحركة العشوائية منذ أن صعد إلى الحكم، ظهر يرعد ويزبد ويثير التساؤلات، كما ظهر يثير الكراهية؛ وهي عادته.

وفي ثاني ظهور له أظهر أنه قادر على الحركة وممارسة أعمال سياسية أكدها في مقابلته الوفود، ظهرمعلناً للشعب اليمني أنه عائد في ذكرى توليه الحكم.

هذا الظهور الذي أثار غضب الشارع لم يعد يعبر سوى عن اللحظة الأخيرة التي ستنهي حكمه البائد أصلاَ، يتصل (اللاصالح) بالفرعون الأول طبعه، إنه الاستكبار القديم ورفض المثول للحقيقة والعدالة، تفويت الفرص المعروضة أمامه للفرار بجلده، ليعلن للجميع وبوقاحته المعهودة أنه يريد أن ينفرد بصفحة خاصة في الكتاب الأسود للتاريخ تخلد نهايته التي أجزم أنا ستكون مختلفة تماماَ عمن سبقه من الطغاة.

وحتى تعلن النهاية الإلهية لهذا المشهد عنواناَ منفرداَ في صفحة التاريخ نذكر الواقفين هنااااااااااك في ساحات التغيير المشرقة أنهم يسطرون أبلج ملاحم العصر، ونذكرهم أن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسراً.

والله من وراء القصد وله الحمد في الأولى والآخرة.

عبدالله عبدالرحمن الدربجيلا يزال رئيسا
عبدالله عبدالرحمن الدربجي
مشاهدة المزيد