عبدالعزيز عبدالغني.. رجل الدولة الذي فقده اليمن
بقلم/ نصر طه مصطفى
نشر منذ: 13 سنة و 3 أسابيع
السبت 05 نوفمبر-تشرين الثاني 2011 07:02 م

بوفاة رئيس مجلس الشورى الأستاذ عبدالعزيز عبدالغني في رمضان الماضي متأثرا بإصاباته البليغة الناجمة عن الحادث الإجرامي بتفجير جامع الرئاسة في 3 يونيو الماضي فقد اليمن واحدا من أهم رجالاته الذي ظل حاضرا في المشهد السياسي منذ يناير 1975م عندما كلفه الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي بتشكيل الحكومة، وكان حينها أول شخصية تكنوقراط من خارج الطبقة السياسية التي هيمنت على الحياة السياسية منذ ثورة 26 سبتمبر 1962م يكلف بتشكيل الحكومة باعتباره حاصلا على ماجستير في الاقتصاد من جامعة كولورادو في الولايات المتحدة الأمريكية.

ورغم أن الراحل كان أقرب الشخصيات القيادية اليمنية قاطبة إلى الرئيس علي عبدالله صالح إلا أن هذا القرب الشديد لم يؤثر على مكانته المحببة إلى نفوس اليمنيين عامة خاصة عقب اندلاع الثورة الشعبية الشبابية ضد النظام الحالي أوائل هذا العام... ذلك أن سلوك الأستاذ ونزاهته الذين عرف بها طوال أكثر من ستة وثلاثين عاما قضاها متنقلا في العديد من المناصب القيادية العليا سواء في قبل الوحدة اليمنية أو بعدها لم تتأثرا رغم كل ذلك... هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن علاقاته الاجتماعية الواسعة ودماثة أخلاقه وحرصه الدائم على المشاركة في المناسبات الاجتماعية من حفلات زفاف أو مراسم عزاء ظلت مؤشرا على تواضعه الشديد وقربه من الناس رغم كل المواقع القيادية التي تولاها سواء كرئيس وزراء أو نائبا لرئيس الجمهورية أو عضوا لمجلس الرئاسة أو رئيسا للمجلس الاستشاري أو رئيسا لمجلس الشورى... وهي على كل حال صفات لم ينافسه عليها أحد سوى رئيس مجلس النواب الراحل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر.

ربطتني علاقة ود واحترام جميلة مع الراحل الكبير الأستاذ الجليل عبدالعزيز عبدالغني، ولن أدعي بأي حال من الأحوال أنها كانت مميزة لأن الراحل جمعته بكل الناس علاقات ود واحترام ولذلك حزن عليه كل من عرفه سواء عن قرب أو بعد... فالرجل الذي عرف بدماثة خلقه وأدبه الجم وابتسامته التي لا تفارق شفتيه وعلاقاته الاجتماعية الواسعة كان أستاذا في فن العلاقات العامة يعرف جيدا كيف يحظى بحب واحترام كل من عرفه دون أي تكلف أو تنطع فقد كان كل ذلك جزءا من سجيته وفطرته وتربيته التي نشأ عليها واكتسبها في طفولته وصباه وشبابه ومراحل دراسته التي تلقاها في أرقى جامعات العالم... ولم يكن فارق السن بينه وبيني – على سبيل المثال – ليجعله يتعامل معي بنوع من الترفع أو التكلف بل على العكس فهو يشعرك تماما باحترامه وتقديره لك ولا يتردد مطلقا في أن يرفع سماعة التلفون ليشكرك على مقالة كتبتها فأعجبته أو إصدار جديد فيحييك عليه أو كلمات قلتها فيشجعك ويشيد بك.

خلال رئاسته لمجلس الشورى – رحمه الله وأسكنه فسيح جناته – حضرت دورتين من دورات المجلس مع عدد من زملائي في الإعلام الرسمي ونقابة الصحفيين... الأولى في عام 2005 عندما طرحت لجنة الإعلام في المجلس أول تقرير لها عن أداء الإعلام الحكومي، وكان تقريرا نظريا لا يمت لواقع الأداء الفعلي بأي صلة... ذهبت برفقة عدد من الزملاء كالأستاذ محمد شاهر وكيل الوزارة والأستاذ علي الرعوي رئيس مؤسسة الثورة والأستاذ أحمد الشيعاني مدير عام مؤسسة الإذاعة والتلفزيون والأستاذ عباس الديلمي رئيس قطاع الإذاعة البرنامج العام والأستاذ عبدالغني الشميري رئيس الفضائية اليمنية وآخرين، وكان يوما ساخنا إذ كانت ردودنا قوية محكمة مهذبة على تقرير لم يكلف معدوه أنفسهم النزول للميدان والاطلاع عن قرب... والمفاجأة تمثلت في تعاطف الكثير من أعضاء المجلس مع ردودنا التي أدركوا حجيتها ومنطقها القوي... أما المفاجأة الأهم بالنسبة لي أني تلقيت اتصالا في المساء من الأستاذ الجليل الراحل أشاد فيه بردودي رغم أنها كانت على تقرير صادر عن المجلس الذي يرأسه، وأكد لي صواب ما طرحته وقصور ما ورد في التقرير... وأظن أن عددا من الزملاء الذين حضرت معهم تلقوا ذات الاتصال ومن بينهم الصديق الأستاذ عباس الديلمي... ولقد أدركت حينها كم أن هذا الرجل متشبع بمفاهيم رجل الدولة المسئول الذي يغلب الحق والصواب على الخطأ أينما كان... وفي الحقيقة فليس هذا سلوك رجل الدولة فقط بل هو سلوك المثقف العميق الذي يعكس ثقافته على سلوكه ولا يجد أي تناقض بينهما... وهذا ما كان يميز شخصية الأستاذ عبدالعزيز عبدالغني رجل الدولة المثقف الذي يغلب المصلحة العامة أينما كانت.

في المرة الثانية التي حضرت فيها مجلس الشورى كانت في العام الماضي 2010م عند نقاش المجلس لمشروع قانون الصحافة – وهي المرة الأولى التي يناقش فيها المجلس مشروع قانون بحسب علمي يدخل في إطار اختصاصه الدستوري – وفي الحقيقة لم أكن أرغب في الحضور لأني حينها كنت قد تركت موقعي كنقيب للصحفيين اليمنيين، ولم تطلب مني وزارة الإعلام أن أحضر بحكم أني كنت رئيسا لإحدى مؤسساتها... لكنني فوجئت عشية الجلسة الأولى باتصال من أمين عام المجلس الدكتور نجيب سالم يبلغني بطلب الأستاذ عبدالعزيز بالحضور، فوعدته لكنني عدت ففضلت الغياب لأن رأيي في المشروع يختلف في بعض التفاصيل مع رأي وزارة الإعلام والحكومة، ولم أحضر بالفعل في اليوم الأول ففوجئت في المساء باتصال من الأستاذ الراحل بنفسه يؤكد علي ضرورة الحضور بقية الجلسات فلم أجد مفرا من ذلك... وحضرت في اليوم التالي وطلب مني – رحمه الله – الحديث فما كان مني إلا أن طرحت رأيي بصراحة لقيت ترحيبا من أعضاء المجلس وشيئا من الامتعاض من ممثلي الجانب الحكومي، وتوالت الأطروحات المؤيدة من أعضاء المجلس لما طرحته وما طرحه نقيب الصحفيين اليمنيين الأستاذ ياسين المسعودي وبقية ممثلي النقابة... وفي مساء آخر أيام المناقشات التي استمرت أربعة أيام اتصل بي الفقيد الكبير رحمه الله ليطلب مني أن أكون ضمن اللجنة المشكلة من المجلس والجانب الحكومي لصياغة المشروع النهائي على ضوء الملاحظات المطروحة فطلبت منه أن يعفيني بسبب حرج موقفي كوني رئيسا لإحدى مؤسسات الإعلام الحكومي فإن عضويتي يجب أن تتم باقتراح من الجانب الحكومي فما كان من الأستاذ إلا أن تفهم وقبل اعتذاري ورفع عني حرجا كنت في غنى عنه.

في المرتين أدركت أني أتعامل مع رجل دولة مميز وشخصية واسعة المعرفة عميقة الخبرة بالشأن اليمني بأدق تفاصيله... عدا ذلك فقد التقيت بالفقيد الراحل في العديد من اللقاءات الاجتماعية عشرات المرات تعلمت منه الكثير وعرفت فيه الرجل المثقف الموسوعي الذي يعشق القراءة... وقد كنا في أواخر عام 1998م في عدن سويا لمدة شهر كامل بصحبة الرئيس علي عبدالله صالح، وكنت قد انتهيت لتوي من قراءة الرواية الرائعة لأحلام مستغانمي (ذاكرة الجسد) وحدثت الأستاذ عنها وعن لغتها الأدبية التي أدهشت كل من قرأها في حينه فطلب الأستاذ استعارتها فأعطيته إياها دون تردد... عدنا إلى صنعاء ونسيت أمر الرواية، وبعد حوالي شهرين تلقيت اتصالا جميلا من الأستاذ يعتذر لي فيه عن تأخير الرواية عنده ويطلب مني مزيدا من الوقت قائلا لي أنه من شدة إعجابه بها وبلغتها الرائعة قرر ألا يقرأ أكثر من صفحتين في اليوم حتى يظل يقرأها لأطول فترة ممكنة... أدهشني هذا المستوى الراقي لذائقة الأستاذ الأدبية واللغوية وطلبت منه أن يقبل مني الرواية كهدية... وظللت كلما أتذكر هذه الواقعة لا أملك إلا أن يتعزز إعجابي بشخصية فقيدنا الراحل... لكن كل ما سبق كوم وما سيأتي كوم – كما يقال – فيما يخص علاقتي بهذا الرجل الكبير، فقد كان إعجابه بصحيفة (السياسية) ونشرة (الخاصة) الصادرتين عن وكالة الأنباء اليمنية (سبأ) أمرا يبعث عندي الكثير من الاعتزاز، وبسببهما تلقيت منه الكثير من الاتصالات إما لإبداء الإعجاب بموضوع معين أو بتزويدي بملاحظات مهنية أو فنية أحيانا... وأخبرني رحمه الله يوما أن (السياسية) وجبته الصباحية المفضلة لا يخرج من بيته قبل أن يقرأها، وكنت أحرص على توصيل كل ملاحظاته وإعجاباته لطاقم الصحيفة المميز فيزيدهم ذلك اعتزازا بجهودهم.

كلما تذكرت الشهيد الكبير ورجل الدولة والمثقف الموسوعي والوطني النزيه الأستاذ عبدالعزيز عبدالغني أشعر بالحزن الشديد لأني أدرك أن بلدا كاليمن يخسر كثيرا بغياب مثل هذه الشخصيات لقلة عددها بل وندرتها... فعبدالعزيز عبدالغني الذي كان البعض يعتبره سلبيا نظرا لهدوئه وتغليبه الصمت وتفضيله البعد عن الأضواء لم يكن كذلك فهو كان من الرجال القليل الذين يعرفون ماذا يقولون وكيف يقولون ومتى يقولون... كان ذو فراسة وكان الرئيس علي عبدالله صالح يثق به بل ويعتبره أقرب الناس إليه وهو كان كذلك بالفعل، لذلك فخسارته بغيابه كبيرة ومؤثرة عليه حتى من الناحية النفسية... وكان الأستاذ الراحل يدرك بحسه السياسي المرهف وخبرته العميقة الوقت المناسب لتوليه رئاسة الحكومة من عدمه، ولذلك فقد ترأس أكثر الحكومات نزاهة ونظافة سواء قبل الوحدة أو بعدها... وبعد أن انتهت حكومته الائتلافية الثنائية (1994 - 1997) من وضع أول برنامج تنفيذي للإصلاحات الشاملة طُلب منه أن يشكل الحكومة مجددا عقب انتخابات 1997م فاعتذر بكل لياقة واحترام، وفي ظني أنه فعل ذلك لأنه أدرك بفراسته مسبقا أن المرحلة القادمة التي انفرد فيها المؤتمر بالحكم ستكون مختلفة عما سبقها، وأدرك بحدسه أنه لن يكون قادرا على التعاطي مع متطلبات المزاج السياسي الجديد الذي سينتجه الانفراد بالسلطة ، ولذلك وجدنا أن خلفيه الدكتور فرج بن غانم لم يكمل السنة والدكتور عبدالكريم الإرياني لم يكمل ثلاث سنوات فما أن تم الاستفتاء على الدستور حتى طلب إعفاءه من رئاسة الحكومة... لذلك ندرك لماذا نأى فقيدنا الراحل بنفسه جانبا وتولى رئاسة المجلس الاستشاري ثم مجلس الشورى وهما مجلسي خبراء لا يصنعون قرارا بل يقدمون رأيا يبرؤون به ذممهم وبالفعل فقد صدرت عن مجلس الشورى تقارير في منتهى الأهمية كانت تذهب للأدراج.

رحم الله أستاذنا الجليل الشهيد المظلوم عبدالعزيز عبدالغني الذي خسره اليمن وافتقدناه جميعا وحزن عليه كل من عرفه وكل من لم يعرفه... الرجل النزيه النظيف الشريف الذي لم نسمع عنه يوما ما يلوث سمعته في أي شكل من أشكال الفساد... إنه من جيل كاد أن ينقرض لولا الأمل الذي بعثه فينا جيل الشباب الذي تغص به الساحات اليوم والذي سيشكل امتدادا لجيل الشرفاء المناضلين المحترمين الذين يعتبر الأستاذ عبدالعزيز عبدالغني واحدا من رموزهم المميزة... رحمه الله رحمة واسعة ولا نامت أعين الجبناء.