الحروب المنسية في اليمن والسودان
بقلم/ توكل كرمان
نشر منذ: 22 ساعة و 48 دقيقة
الأحد 09 مارس - آذار 2025 12:34 ص

كلمة توكل كرمان في مؤتمر الحركات المجتمعية 2025: الصراعات المنسية: السودان واليمن - كندا

  

إن أعظم مصير تراجيدي قد يكابده المرء هو أن يجد نفسه أسير حرب منسية اختار العالم أن يتجاهلها، فالحروب التي تستأثر باهتمام المجتمع الدولي غالبًا ما تواجه ضغوطًا تُعجل بنهايتها، أما تلك التي تدور رحاها في الظل فإنها تستمر لسنوات طويلة وتخلف وراءها جراحا وندوباً غائرة في جسد ونسيج الأمم والمجتمعات. إن الحروب التي يتجاهلها العالم يخرج من رحمها أزمات إنسانية مروعة يعيث فيها الطغاة وأمراء الحرب فسادًا، ويرتكبون الفظائع بغير وازع ولا حساب.

وسنقف اليوم أمام حربين هما من أشد الصراعات تدميراً وتجاهلاً في العالم، وهما حربا اليمن والسودان. هاتنا الحربان لم تكونا سبباً في معاناة إنسانية مهولة فحسب، بل وأزاحتا الستار أيضاً عن إخفاقات النظام الدولي في معالجة الصراعات الممتدة. إن اليمن والسودان غارقتان في حروب لم تحظى بما تستحقه من الاهتمام العالم، فعلى الرغم من الانتهاكات المروعة التي ارتكبها مسعروها إلا أن المساءلة لا تزال غائبة. إن عدم اخضاع مجرمي الحرب للمحاسبة لا يؤدي فقط إلى إطالة أمد المعاناة، بل ويقوض في الآن نفسه مفهوم العدالة ذاتها، ويقضي على كل أمل في عالم عادل.

لنبدأ بالسودان:

لقد أثبت الشعب السوداني شجاعة كبيرة في كفاحه من أجل الديمقراطية وفي سعيه من أجل الحرية والعدالة، وتلك الحرب التي يعشيها ليست مجرد صراع من الصراعات، بل هي عقاب مقصود ضد الشعب السوداني لجرأته على النهوض من أجل الديمقراطية والحرية والعدالة. لقد أنجز الشعب السوداني واحدة من أكثر الثورات السلمية إلهامًا في التاريخ الحديث حين أطاح بدكتاتورية عمر البشير وطالب بمستقبل خالٍ من الطغيان والفساد والحكم العسكري.

غير أنه عوضاً عن افساح المجال أمامه لبناء ببناء ديمقراطيته، فرض على الشعب السوداني ثورة مضادة غاشمة حاكها له أولئك الذين يؤرقهم تخلق سودان حر وديمقراطي. إن الحرب التي شنتها قوات الدعم السريع – تلك المجموعة شبه العسكرية التي تشكلت من ميليشيات الجنجويد سيئة الصيت – ليست إلا فعلاً انتقاميا ضد تطلعات الشعب السوداني، ومحاولة لتدمير أحلامه ومحو تضحياته واخضاعه من جديد.

إن قوات الدعم السريع، وهي صاحبة التاريخ الحافل في ارتكاب الفظائع، قد أطلقت لنفسها العنان في في ممارسة عنف تعجز الكلمات عن وصفه – تعرض فيه الملايين للمجازر والعنف جنسي والتهجير القسري. وعلى الرغم من أن المجتمع الدولي كان شاهداً حاضراً على هكذا جرائم، إلا أنه لم يقم بما فيها الكفاية لوقف هذه الحرب ومحاسبة مسعريها. لقد تابع العالم بذهول وقوات الدعم السريع تقود حملة تطهير عرقي في غرب دارفور، حيث جرى ذبح الآلاف من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء بدم بارد، وأحرقت قرى بأكملها، ومن نجى منها اضطر للفرار في حالة من الرعب.

ومما ورد في التقرير الأول لبعثة الحقائق إلى مجلس حقوق الإنسان في سبتمبر/أيلول 2024، ما يلي:

"إن قوات الدعم السريع السودانية المشتبكة في قتال مع القوات المسلحة السودانية في الصراع الدائر في البلاد، مسؤولة عن ارتكاب أعمال عنف جنسي على نطاق واسع في المناطق الخاضعة لسيطرتها، بما في ذلك عمليات الاغتصاب الجماعي واختطاف الضحايا واحتجازهم في ظروف ترقى إلى مستوى العبودية الجنسية."

وفي حين وثق التقرير أيضًا حالات تتعلق بقوات الجيش السوداني والجماعات المسلحة المتحالفة معها، محدداً المجالات التي تتطلب مزيدًا من التحقيق، فقد وجد أن غالبية حالات الاغتصاب والعنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي يقف وراءها قوات الدعم السريع - وخاصة في الخرطوم العاصمة ودارفور وولاية الجزيرة - وكانت جزءًا من نمط يهدف إلى إرهاب ومعاقبة المدنيين على المتصورة مع المعارضين وقمع أي معارضة لتقدمهم.

بينما وثق التقرير أيضًا حالات تتعلق بقوات الجيش السوداني والجماعات المسلحة الحليفة له، محددًا المجالات التي تتطلب مزيدًا من التحقيق، فقد وجد أن غالبية حالات الاغتصاب والعنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي ارتكبتها قوات الدعم السريع (RSF) – وبالأخص في الخرطوم الكبرى ودارفور وولايات الجزيرة - وكانت جزءًا من نمط يهدف إلى إرهاب ومعاقبة المدنيين على ارتباطاتهم المتصورة بخصومهم وقمع أي مقاومة قد تعترض طريقهم.

وفي دارفور، استمت أعمال العنف الجنسي بالوحشية الصرفة، حيث استخدمت الأسلحة النارية والسكاكين والسياط لترهيب الضحايا أو إخضاعهم، وذلك وسط إطلاق شتائم عنصرية وجنسية مهينة وتهديدات بالقتل. وتعرض العديد من الضحايا، الذين غالبًا ما تم استهدافهم بناءً على نوعهم الاجتماعي أو انتمائهم العرقي الفعلي أو المتصور، للضرب الوحشي في الوقت نفسه، أحيانًا بالعصي أو الجلد. وكثيرًا ما جرت هذه الاعتداءات أمام أفراد أسر الضحايا، الذين كانوا بدورهم تحت التهديد. كما وردت تقارير عن استهداف الرجال والفتيان أثناء احتجازهم بأعمال عنف جنسي، شملت الاغتصاب، والتهديد بالاغتصاب، والإجبار على التعري، والضرب على الأعضاء التناسلية، ما يستوجب مزيدًا من التحقيق. 

وقد خلصت بعثة تقصي الحقائق إلى وجود أسباب معقولة للاعتقاد بأن أعمال الاغتصاب وغيرها من أشكال العنف الجنسي التي ارتكبتها قوات الدعم السريع وميليشياتها المتحالفة تشكل انتهاكًا للقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان. وتشمل هذه الانتهاكات الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، ولا سيما التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، والانتهاكات الجسيمة للكرامة الشخصية، بما في ذلك المعاملة المهينة التي تحط من كرامة الانسان، فضلاً عن الاغتصاب وما شابه من أشكال الاعتداء المهين. إن هذه الأفعال ليست مجرد جرائم ضد الأشخاص، بل هي جرائم ضد الإنسانية، وهي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك التعذيب والاغتصاب والاستعباد الجنسي والاضطهاد على أسس عرقية وجنسانية متقاطعة.

لكن السؤال الذي يتعين علينا طرحه أيضًا هو: من الذي يقف وراء تسليح وتمويل واستدامة هذه الوحشية؟ إن قوات الدعم السريع لا تعمل بمفردها - فقد تلقت دعمًا كبيرًا من داعمين أجانب، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة التي لعبت دورًا مدمرًا في السودان، حيث أججت الصراع من خلال تزويد مليشيا الدعم السريع بالأسلحة والمال والدعم اللوجستي.

وقد كشفت تقارير عديدة كيف أن دولة الإمارات زودت قوات الدعم السريع بالأسلحة والمعدات، على الرغم من الاستنكار الدولي. من خلال شبكاتها في ليبيا وتشاد، سهلت الإمارات إمدادات عسكرية لقوات الدعم السريع ما مكنها من الاستمرار في حملتها الإرهابية. إن الأسلحة التي تم تتبع مصدرها إلى الإمارات يتم استخدامها في ذبح المدنيين السودانيين الأبرياء.

لقد تحولت دولة الإمارات - التي تقدم نفسها كقوة استقرار في المنطقة - إلى واحدة من أكبر الجهات المسعرة للحروب والمساندة للدكتاتوريات والمنتهكة لحقوق الإنسان. إن دعمها لقوات الدعم السريع ليس مصادفة - بل هو جزء من استراتيجية مدروسة لتوسيع نفوذها في السودان، والسيطرة على موارده، والحفاظ على الهيمنة في منطقة البحر الأحمر. من خلال تمويل قوات الدعم السريع، تصبح الإمارات العربية المتحدة متواطئة بشكل مباشر في المذابح والتطهير العرقي، والعنف الجنسي، وتدمير مستقبل السودان.

لا ينبغي للعالم الاستمرار في غض الطرف عن هكذا تدخل. ولا بد من محاسبة الإمارات على دورها في دعم جرائم الحرب التي ترتكبها قوات الدعم السريع. ويتعين على الحكومات والمنظمات الدولية فرض عقوبات على الميسرين لهذه الفظائع ووقف تدفق الأسلحة والأموال إلى مليشيا الدعم السريع.

الحرب في اليمن:

ذات الشيء يسري على الحرب في اليمن، حيث كافح الشعب اليمني بكل بسالة من أجل الديمقراطية ومن أجل الحرية والعدالة. والحرب في اليمن هي أيضاً ليست مجرد صراع طبيعي، بل عقاب مع سبق الإصرار والترصد ضد الشعب اليمني لجرأته على الثورة من أجل الديمقراطية والحرية والعدالة. لقد انجز الشعب اليمني واحدة من أكثر الثورات السلمية إلهامًا في التاريخ المعاصر، والتي أطاحت بدكتاتورية علي عبد الله صالح، وطالب بمستقبل خالٍ من الطغيان والفساد والفشل. 

بعد مضي عشر سنوات على الحرب، والانقلاب الحوثي، وإسقاط الدولة، وتدخل التحالف السعودي الإماراتي، يعاني اليمنيون اليوم من تداع كبير في البنية التحتية، ونظام الخدمة المدنية، والتعليم، والرعاية الصحية. لقد استُنزِفت الموارد الاقتصادية والعائدات المالية، إلى جانب المساعدات الخارجية، وتركزت في أيدي أمراء الحرب وزعماء الميليشيات الحوثية والانفصالية، مما فاقم أكثر من معاناة السكان وزاد من الفقر والبطالة.

وفيما يخص القوى الدولية هنا، فإنها لا يعنيها سوى إدارة نفوذها وإبقاء اليمن تحت السيطرة من خلال وكلائها الإقليميين الذين تعاونوا مع إيران في إدارة الحرب والانهيار الكامل للمجتمع اليمني. إن استمرار تقاسم اليمن - بين سلطة الحوثي الطائفية في صنعاء وميليشيات المجلس الانتقالي الجنوبي الانفصالية في عدن وحكومة ضعيفة معترف بها اسميًا تسيطر عليها الرياض وأبو ظبي – قد أدى إلى إغراق البلاد في الفوضى والأزمات التي لا تنتهي، مما كان له آثار عميقة ومتعددة الأبعاد على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أدت إلى انقطاع الرواتب، واستنزاف شديد للموارد ورأس المال البشري، وتعميق الانقسامات، والإذلال الممنهج للسكان وتجويعهم وقمعهم. وفوق ذلك، جرى إعادة هيكلة الفصائل المتحاربة بما يحقق مصالح القوى الإقليمية والدولية.

ومع استمرار الحرب، كان للمنظمات الإنسانية دوراً هاماً في تخفيف المعاناة. بيد أن هذا الدور شهد تراجعاً جراء القيود المتزايدة التي فرضها الحوثيون، بما في ذلك الابتزاز، وتقييد حركة العاملين في المجال الإنساني، والتدخل في توزيع المساعدات. وتصاعدت الإجراءات الحوثية إلى اعتقال العشرات من العاملين في المجال الإنساني، مما أجبر العديد من المنظمات على تقليص عملياتها أو إغلاق مكاتبها في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.

لا يزال الوضع في اليمن شديد التعقيد بسبب سيطرة الحوثيين على مناطق شاسعة، وجراء القيود المتزايدة على العمل الإنساني، وتصنيف الولايات المتحدة مؤخرا للجماعة الحوثية كمنظمة إرهابية. ويثير هذا التصنيف مخاوف جدية بشأن تأثيره المحتمل على الوضع الإنساني في اليمن، خاصة وأنه قد يعيق جهود الإغاثة الدولية في المناطق الخاضعة لسيطرة الجماعة.

وعلى الرغم من أن الهدف الأساسي من هذا التصنيف هو زيادة الضغوط على الحوثيين، فإن عواقبه قد تؤثر على أكثر من عشرين مليون يمني يعيشون تحت سيطرتهم. ومن المتوقع أن يدفع التصنيف الأميركي البنوك والشركات إلى وقف التعامل مع المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، مما يجعل من الصعب على اليمنيين تلقي التحويلات المالية من المغتربين ــ وهي شريان حياة بالغ الأهمية للعديد من الأسر. وعلاوة على ذلك، قد يؤدي هذا إلى فرض المزيد من القيود على التجارة والواردات، مما يؤثر بشكل مباشر على توفر الغذاء والوقود والأدوية.

وعلى الرغم من كل التحديات، فقد أظهر الشعب اليمني قدرة على الصمود مذهلة، ولم يتخلى عن السلام ولا عن العدالة أو تطلعهم إلى إعادة بناء وطنهم. لقد جابهوا القمع بالمقاومة، وطالبوا بالمساءلة ودعوا إلى حل سياسي يضع الشعب اليمني ــ وليس القوى الخارجية ــ في مركز صنع القرار. لقد حان الوقت لكي يستمع العالم إلى أصواتهم ويتصرف على هذا الأساس.

ما الذي يجب فعله؟

إن الجهد الجماعي شرط لإنهاء الحروب المنسية، فالحكومات والمنظمات الدولية والمجتمع المدني ووسائل الإعلام جميعها تلعب دورًا أساسياً في ضمان عدم بقاء الصراعات مثل تلك التي تدور رحاها بصمت في اليمن والسودان، فضلا عن النقاط التالية:

- زيادة الوعي العالمي. على وسائل الإعلام أن تولي اهتمامًا مستداماً لهذه الحروب، وعلى العالم ألا يكتفي بالاستجابة للأزمات إلا حينما تصل إلى مستويات كارثية، بل يجب أن يعمل أيضاً بشكل استباقي لمنع تفاقمها.

- محاسبة مجرمي الحرب. على المحكمة الجنائية الدولية والآليات القضائية الأخرى أن تتخذ إجراءات حاسمة ضد المسؤولين عن جرائم الحرب في اليمن والسودان، ولا ينبغي للعدالة أن تكون انتقائية؛ بل يجب أن تكون شاملة.

- تعزيز المساعدات الإنسانية. لابد من إعطاء الأولوية للوصول الفوري وغير المقيد إلى المساعدات الإنسانية. ويتعين على الحكومات والوكالات الدولية أن تكثف جهودها لتوفير الغذاء والدواء والمأوى للمتضررين من هذه الحروب.

- دعم التحولات الديمقراطية. يحتاج اليمن والسودان إلى حلول استراتيجية تعالج الأسباب الجذرية للصراع، ويشمل ذلك دعم الحكم الديمقراطي، والعمليات السياسية الشاملة، وجهود المصالحة التي تعطي الأولوية لأصوات الشعب.

- إنهاء التدخل الخارجي. إن التدخلات الأجنبية غالبا ما تؤدي إلى إطالة أمد الحروب بدلا من حلها، وبالتالي يتعين على المجتمع الدولي الدفع باتجاه حلول دبلوماسية تحترم سيادة وتطلعات الشعوب في مناطق الصراع.

الأصدقاء الأعزاء، 

إن التاريخ سيحاكمنا من خلال طريقة استجابتنا لمعاناة الآخرين، وإن ما يجري في اليمن والسودان من حروب ليست مجرد أزمات محصورة الحدود، بل هي اختبار حقيقي لالتزامنا العالمي بالعدالة وحقوق الإنسان والسلام. لا ينبغي لنا أن نسمح لهذه الحروب بأن تظل منسية خصوصاً وأن ضحايا هذه الصراعات ليسوا بلا صوت، بل يتم إسكاتهم من قبل عالم اختار أن يشيح بوجهه عنهم. يقع على عاتقنا واجب إيصال أصواتهم إلى العالم، والمطالبة بالعدالة، والسعي نحو مستقبل لا تُترك فيه أي حرب طي النسيان. لنقف معًا من أجل اليمن والسودان، ولننهض من أجل عالمٍ لا تكون فيه العدالة امتيازًا، بل حقًا مكفولًا للجميع. لنجعل من يقظة الضمير الإنساني جدارًا يحول دون نسيان أي حرب، مهما بدت بعيدة.

شكراً لكم!