رؤية نقدية لمشروع وثيقة الإنقاذ الوطني
بقلم/ توكل كرمان
نشر منذ: 14 سنة و 9 أشهر و 15 يوماً
الإثنين 18 يناير-كانون الثاني 2010 06:55 م

في اعتقادي أن مشروع وثيقة الإنقاذ الوطني التي أنجزتها اللجنة التحضيرية للحوار الوطني تمهيداً لإقرارها في مؤتمر الحوار الوطني تعد وثيقة غير مسبوقة في تاريخ المبادرات وبرامج الإصلاح التي قدمت خلال دولة الوحدة بما فيها دستور دولة الوحدة قبل سلسلة تعديلاته المخلة ، ووثيقة العهد والاتفاق وما تلاها من مبادرات واتفاقات. ويمكننا القول أن الوثيقة في مضمونها قدمت رؤية متماسكة لإقامة الدولة المدنية وفق معايير الرشد أسس ومبادئ الحكم الجيد .

ومع ذلك وانسجاما مع متطلبات الورقة التي طلبت مني والمعنونة بـ"رؤية نقدية لمشروع وثيقة الإنقاذ الوطني" ، ففي اعتقادي ان هناك العديد من القصور والمآخذ حول الوثيقة سواء مايتعلق منها بتشخيص الأزمة والوقوف على جذرها ، أو مايتعلق بالأسس والمبادئ المتعلقة ببناء الدولة الوطنية الحديثة ، أو بالآليات والوسائل .

كما أني لا أدعي وأنا اقدم في هذه الورقة أني أمتلك الحقيقة المطلقة او العلم الشامل او الحكمة البالغة التي فاتت الأساتذة والنخب ، إنما هي مجرد ملاحظات أقمتها على ضوء دراسة مقارنة حول ما تيسر لدي من معلومات محدودة حول النظم السياسية والمجتمع المدني.

1- تشخيص الوثيقة لجذر الازمة

لقد مالت الوثيقة في تشخيص جذر الأزمة إلى اختزاله في النظام الفرد المشخصن بدل النظام العائلي العصبوي والجهوي في تعسف واضح وخاطئ ، إن كان له مبرراته السياسية فهو برئ من أي مبررات موضوعية .

وردت في الوثيقة نصوص تحدثت عن الآثار التي انتجها (( استمرار الحكم الفردي وعصبوية الدولة المشخصنة )) واشارت الى (( استعادت السلطة الفردية ـ وبصورة ممنهجة ـ هيمنتها الاستبدادية )) ،

كما ارجعت توجهات الدولة الى (( رغبات وأمزجة الفرد )) باعتباره ((المحور الذي تدور حوله مختلف السياسات والتوجهات ))، وهكذا مضت الوثيقة في ارجاع جذر الازمة الى (( الحكم الفردي الذي وضعت ثروات وموارد البلاد كلها في خدمة تعزيز تسلطه وتملكه للسلطة والدولة )) ،وهو (( ما أفضى إلى حالة من الشخصنة للدولة والسلطة والنظام )) ، (( حيث سيطر القائم على رأس السلطة بذاته على مفاتيح السلطة والثروة)) .

هل أحتاج هنا الى كثير من المحاججة لاثبات عصبوية الحاكم وجهويته ، أم أن ذلك مفهوم وملاحظ للعامة فضلا عن المشتغلين بالفكر والتأصيل الفلسفي للنظم السياسية؟! السؤال .. ألا يعني شيئا للحاكم أن تكون سنحانيا مثلا ؟ وماذا عن الاقرب الجهوي فالأقرب القبلي ؟!

ومرة أخرى يطل السؤال الملح .. هل نحن إمام حاكم فرد شخصن الحكم ، أم أمام حكم عصبوي أساء استخدام السلطة لصالح العائلة والجهة ؟ أم هو حكم مختلط ؟ ولأي الكفتين تتجه الغلبة ؟ السؤال الأكثر إلحاحاً .. هل يمكن أن يكون هناك حكم فردي وعصبوي في أن .. ؟

إن هذا الهروب في تفسير جذر الازمة قاد الوثيقة إلى وضع مقترحات وحلول للتسلط الفردي ، حين راحت تقلص من صلاحيات الرئيس ناقلة معظم الصلاحيات لرئيس الحكومة محتفظة للرئيس بالصلاحيات البروتوكولية كرمز تمثيلي للدولة ليس هو من يسيرها وهى وصفة ناجحة لكبح التسلط الفردي المعجون به نظامنا السياسي ، لكن لاتزال الحاجة ماسة إلى الانفلات من جذر الازمة وفق توصيفات تكفل وتضمن نسف الصيغة العائلية والجهوية المتحكمة في النظام السياسي ، وتكفلها اصلاحات اخرى لم تتضمنها الوثيقة لعل منها نقل الصلاحيات االسياسية والادارية والتشريعية الى الاقاليم من جهة ، ونقل العاصمة بعيد عن مركز الفعل الجهوي والعصبوي .

إن نقل العاصمة من صنعاء إلى أي مكان أخر تسنى له الانفلات النسبي من الروابط دون المدنية أمر حيوي وجوهري يكفل حرمان النظام القادم من العصبوية والجهوية ، كما يمثل حلا لمعضلات عدة تحدثت عنها عديد من الدارسات والأبحاث الأولية ، وهو ضرورة ملحة غفل عنها الحوار في مراحله الاولى نتمنى ان لايكرر الغفلة فيما تبقى من الوقت. 

لا اقدم دعوة للكراهية هنا والقطيعة والاقصاء مع أولئك المشمولين بالجهوية والاسرية ، اودعوة للمواجهة معهم ، اذ ان المشمولين انفسهم في نهاية المطاف يلحقهم ضرر غياب الدولة الوطنية ، وسينالهم قسطا وافر من الاأثار والنتائج الإيجابية في حال استبدال الروابط العائلية والجهوية بالروابط الوطنية والقيم المدنية .

ورحم الله البردوني حين قال : أخشى على الشعب منكم إذ أخاف على ... سنحان من نفسها من بعض سنحان.

2-الأسس والمبادئ العامة للدولة :

ابقت الوثيقة الخيارات مفتوحة بين خيار الفدرالية والحكم المحلي كامل الصلاحيات ، او كماهو في وثيقة العهد والاتفاق ، غير انه بالنسبة لوثيقة العهد والاتفاق تمت صياغتها في ظل رائحة الاغتيالات والتعبئة العامة للقتال والحشد للحرب والموت .. لذلك فقد غلب عليها الطابع الامني وقدمت حل للاشكالات الامنية اكثر مماقدمت حل للشراكة الوطنية ، وهي بقدر ماتمتلكه من مشروعية اخلاقية وربما الزامية نظرا لتوقيع كافة الاطراف عليها وباشهاد وحضور دولي ، الا انها لم تعد صالحة فكل ماتضمنته من إصلاحات عدى الاعتبارات الأمنية عبارة عن لامركزية ادارية فحسب وهي بذلك لم تعد تلبي حتى لما يعرضه الحاكم من اصلاحات قادمة .

في اعتقادي ان الحكم المحلي هو الترجمة العربية لعبارة الحكم الفدرالي او الاتحادي ،وهو يعطي نفس مدلول الحكم الفدرالي اذا كان المقصود منه اللامركزية الادارية والسياسية. وهو يعطي مدلول مختلفا عن الفدرالية في حال قصد منها اللامركزية الادارية فحسب ، ذلك سيجعلنا نقف امام خيار باهت ومتواضع اسمه الإدارة المحلية ،وهو بالتاكيد مالايريده أي من اطراف الحوار ومعهم الحاكم الذي قدم وينادي بخيار الحكم المحلي واسع الصلاحيات ،وقبله مشروع اللقاء المشترك للاصلاح الوطني الشامل .

كان يمكن الاعتماد على مصطلح الحكم المحلي كترجمة للفدرالية هروبا من الحساسية غير المبررة من مصطلح الفدرالية لكن ان يأتي التخيير بين الفدرالية والحكم المحلي مع تكرار ذكر "اللامركزية" دون اضافة السياسية والادارية وكانها هي الاخرى لفظ تبقي الخيار بين اللامركزية الإدارية واللامركزية الإدارية والسياسية، دليل على اننا لم نحسم امرنا بعد حول شكل النظام السياسي وطبيعته ، هل هو دولة مركبة ام بسيطة ؟ ، ان كانت دولة مركبة فلامحيص من الفدرالية او النظام الاتحادي او الحكم المحلي ذا الصلاحيات القائمة على اللامركزية السياسية والادارية .

ان التردد في حسم الوثيقة للفدرالية كنظام للحكم المقترح ليس فقط لايقدم حلول للحاضر واستشرافا لتحديات المستقبل بل لايزال قاصرا عن فهم واستيعاب آليات الحكم المقدمة قبل عقود والمعمول بها في الدول التي حققت حكما رشيدا وتنمية اقتصادية وبشرية مشهود لها بالنجاح.

ان الخوف على الوحدة الوطنية من الصلاحيات التي تعطى للأقاليم ونزع تلك الصلاحيات للحاكم المركزي أيا كان فرداً او مجلس وزاري يقدم حلا خاطئا لافتراض غير صحيح ،إذ انه يفترض ان الحاكم المركزي أكثر حكمة واخلاصا والتزاما ونزاهة في حق المواطنين من المواطنين انفسهم ، وهو يفترض في الحاكم الخيرية والرشد التي تعوز المواطنين والمجتمعات المحلية، وهو استمرار لثقافة ووجهة نظر خاطئة تشترط استمرار الوحدة السياسية بسيطرة المركز.

الحقيقة المهمة إن لم تكن الأهم في هذا البلاد ، أن اليمن دولة مركبة من دولتين وليست باي حال من الأحوال دولة بسيطة ، ولو لم تكن الا انها حاصل اندماج دولتين مستقلتين لكان ذلك يكفي للجزم بان الدولة الجديده ليست بسيطة وهو ماأغفلته الوثيقة .

3- فيما يخص القضية الجنوبية ..

اقترب التشخيص كثيرا من الازمة.. غير انه لم يقدم لها حلولا ومضى فيما يخص جانبها السياسي يعاملها بنفس الطريقة كبقية المحافظات الشمالية .

حيث ذهبت الوثيقة لقصر آثار وأسباب الأزمة وظهور القضية الجنوبية إلى حرب أربعة وتسعين وهو في نظري تحليل ناقص ، إذ أن جذر الأزمة بكمن في اختلال العدالة والإنصاف في نظام دولة الوحدة .

لعل من الخطأ الكبير الاستمرار في تجاهل حقيقة أن الدولة الجديدة حصيلة اتحاد دولتين مستقلتين والذي يتطلب معها آن يكفل النظام الاتحادي الجديد للمتحدين الشراكة في القرار والسلطة والثروة على قدم المساواة،

ان حرب أربعة وتسعين نتيجة متوقعة لغياب مؤسسات النظام الاتحادي ، وان ماحدث بعدها من فيد ومظالم طالت كل ماهو جنوبي بقدر ماهي دليل على افلاس اخلاقي وطغيان للنظام الحاكم وكل من شاركه في الفيد والاستحواذ، فقد مثلت نتائج لغياب الحكم الاتحادي الناتج عن اتحاد دولتين .

ان غياب هذا المقترح عن أي حل يقدم للقضية الجنوبية ، سيبقى على جذر المشكلة ونتائجها وسيفضي الى ضياع مزيد من الجهود والوقت ، ببساطة ان استبدال الحكم الاتحادي كنظام لادارة الدولة بالحكم العائلي الجهوي ادى الى المطالبة الشاملة باستعادة الدولة من قبل مواطني الجنوب وليس من قبل المتضررين من الفيد و والتقاعد القسري وغياب الخدمات فحسب .

لذا نرى أن المطالبة والشعور بالغبن وغياب العدالة والانصاف امتدت لتشمل من يختلون مناصب عليا في النظام السياسي من الجنوبيين.

صفوة القول اذا إرادت احزاب اللقاء المشترك ان تقدم مقترحا موضوعيا للقضية الجنوبية يحظى باصطفاف ابناء الجنوب وتأييدهم ، فلن يكون ذا قيمة ان تجاهل حقيقة ان النظام الجديد هو حصيلة اتحاد دولتين وشعبين ، وإن لم يفضي الى اقتراح الحكم الاتحادي بين اقليمين بهما ستحلق امتنا الى افاق عالية ولا مانع الى تقسيم الاقاليم الى محليات حسب ظروف وتنوعات كل إقليم .

4- آليات العمل :

تقول الوثيقة في آليات العمل (( يعد الحوار ومختلف أشكال العمل الجماهيري والنضال السلمي آليات تأخذ بها اللجنة التحضيرية وأسلوب ستسير عليه لوضع هذه الرؤية موضع التنفيذ، وذلك من أجل الخروج بالوطن من الأزمة، والسير به نحو التغيير للأفضل ، وذلك من خلال الآتي : منها :

-اعتماد آليات النضال السلمي الوطني الديمقراطي من قبل كل مكونات اللجنة التحضيرية, وحشد وتعبئة مواردها التنظيمية والسياسية والمادية في سبيل دعم مبادرات وفعاليات الحوار الوطني وتحقيق الإجماع الشعبي حول رؤية الإنقاذ الوطني في إطار من الالتزام بالدستور والقانون الذي يجعل من الدفاع عن الوطن واجبا على مكلف مواطن يمني.

-آليات الاتصال النوعي والتعامل الفكري والإعلامي الهادف إلى توسيع نطاق التأييد لحلول الإنقاذ والتغيير والتطوير الوطني والإصلاحات العامة الوطنية، وصولا إلى إيجاد إطار وطني مجتمعي ووعاء شعبي وجماهيري وصف وطني واسع يضم مكونات المجتمع اليمني ويعمل كحاضن للدولة وحامي لها من الانهيار.

-آليات الإدارة والمتابعة النضالية وفق برنامج زمني يحدد المراحل والخطوات وينسق بين الآليات ويحشد الموارد ويعبئها بما يؤدي إلى توظيفها التوظيف الأمثل. ))

إن اعتماد هذه الآلية يعني ببساطة للأسف أننا نتجه إلى خلق كيان بديل للقاء المشترك ، ليكون حامل مشروع الوثيقة أي حامل مشروعنا الوطني ،وهي عملية أقل ما يمكن تسميتها بالانتحار السياسي ، أو على الأقل قائمة على حسبة سياسية خاطئة ، يتم فيها استبدال اللقاء المشترك أو تواريه في المقاعد الخلفية!! ، هذا المشترك الذي يكاد يكون نقطة الضوء الوحيدة في تاريخنا السياسي المعاصر ، وهو باعتباره تكتل لـ 7 أحزاب يختزل تقريبا كل اتجاهات وأنواع الحركة الوطنية اليمنية منذ أربعينيات القرن الماضي ، تكتل مدني نعتز به ومعظم شعبنا مستعد لأن يصطف خلفه ، سيتم استبداله بكيان هلامي تنقصه التجربة والرصيد النضالي والوجهة العالمية ،كيان غير واضح وغير مجرب غير مدني خليط وهجين بين الأحزاب والأفراد و المنظمات والقبائل ، ، هي مغامرة أقل ما يقال عنها أنها انتحار سياسي ، وخسارة وطنية في آن .

******

*ورقة عمل في ندوة تدشين مشروع رؤية الانقاذ الوطني في أمانة العاصمة 15-1-2010

tawkkol@gmail.com