إيران ومسؤولية الاستقطاب
بقلم/ دكتور/محمد السعيد إدريس
نشر منذ: 17 سنة و 5 أشهر و 30 يوماً
الثلاثاء 15 مايو 2007 11:05 ص

تأخرت إيران كثيرًا في إدراك أحد الحقائق المهمة في إدارة سياستها الخارجية وهي أنه بدون توافق إقليمي مع هذه السياسة فإنها معرضة حتما لمواجهة الكثير من العقبات والتحديات. لقد تجاهلت إيران

طيلة أكثر من عامين أهمية اتخاذ مبادرات حسن نوايا تجاه الدول العربية الخليجية وبالتحديد في ملفات ثلاث هي: الملف النووي الإيراني وملف جزر الإمارات العربية الثلاث، وملف الأمن الإقليمي الخليجي، لكنها فوق هذا كله ضربت عرض الحائط بأي اعتبار يخص مصالح هذه الدول أولا، ومصالح العالم العربي كله في العراق ثانيًا، حيث اندفعت بنشوة مفرطة نحو العراق الجريح لتنال منه وتثأر وتصول وتجول دون تحسب لمشاعر ودون تدبر لردود فعل غير عابئة لا بالمصالح الوطنية والقومية للدول العربية ولا بمشاعر الش عب العربي في هذه الدول، ولا بحقيقة أن هناك من يتعمد الوقيعة بينها وبين جيرانها العرب خاصة وأن هذا الذي سيتعمد القيام بالوقيعة وهو الولايات المتحدة له من النفوذ والسطوة التي تمكنه من فرض الكثير من إملاءاته على حكومات هذه الدول.

لم تكترث إيران بأهمية التشاور مع حكومات الدول العربية في الخليج بشأن الملف النووي رغم أن الأمريكيين كانوا حريصين على ترويع هذه الدول من البرنامج النووي الإيراني، وكانوا يضغطون للخروج بموقف خليجي يتهم إيران بأنها أصبحت مصدرًا للخطر وأن برنامجها يهدد الاستقرار الإقليمي لتوظيف هذا الموقف لدى الكونجرس للحصول على موافقته لاتخاذ سياسات حاسمة ضد هذا البرنامج. لقد ركز الإيرانيون جهودهم لتأمين الدعم الروسي والصيني لبرنامجهم النووي كما ركزوا على الوكالة الدولية للطاقة الذرية والاتحاد الأوروبي للوصول إلى الولايات المتحدة بهدف إشراكها في مفاوضات هذا الملف. أما البعد الإقليمي والخليجي بالذات فكان غائبًا تمامًا عن هذا النشاط الإيراني وكأن الدول العربية الخليجية غير معنية بتطورات هذا الملف.

وفي الوقت الذي استمرت فيه السياسة الإيرانية على ثوابتها بخصوص قضية جزر الإمارات اندفعت بقوة نحو العراق ووقعت في خطأ الانحياز للاحتلال الأمريكي – البريطاني للعراق، في وقت كانت تعلن فيه انحيازها للمقاومة في كل من فلسطين ولبنان، ساندت الأحزاب والميليشيات الشيعية والكردية الموالية للاحتلال، اعترفت مبكرًا بما يسمى بـ " مجلس الحكم الانتقالي "، وساندت الانتخابات المزيفة التي لم يكن لها غير معنى واحد هو تكريس الطائفية السياسية كقاعدة للحكم في العراق بما يمكن الحلفاء الشيعة من السيطرة على السلطة في بغداد دون اكتراث بكون هذه السيطرة الشيعية على السلطة السياسية في العراق سيطرة بدعم أمريكي ولصالح استمرار الاحتلال الأمريكي.

لقد اعتقدت طهران أن الظروف أضحت سانحة لفرض مشروعها السياسي في العراق الذي يعد مشروعًا مأزومًا لكونه أسير تداعيات ومآسي وكوارث الحرب العراقية الإيرانية، وهو المشروع الذي يهدف أولاً إلى منع قيام حكم عدو لإيران في العراق، والعمل على جعل الحكم الجديد صديقًا إن لم يكن حليفًا، وليس هناك من وسيلة مأمونة لذلك إلا بمساعدة الأحزاب والقوى السياسية والشيعية الموالية لإيران بالسيطرة على الحكم الجديد في العراق. ويهدف ثانيًا إلى منع ظهور عراق قوي يكون قادرًا على تهديد إيران مجددًا، ومنع قيام عراق ضعيف يكون سببًا في تهديد الاستقرار السياسي في إيران أو تهديد الأمن القومي الإيراني.

اندفاع إيران لتنفيذ هذا المشروع هو الذي جعلها تؤيد وبقوة فرض سياسة الطائفية السياسية ونظام المحاصصة في توزيع القوة السياسية (الحكومة والبرلمان)، وجعلها تؤيد انخراط حلفائها في الحكم الجديد الموالي للاحتلال، وجعلها تؤيد الدستور المشوه للعراق الذي فتح أبواب التقسيم تحت شعار الفيدرالية من ناحية، وهدد عروبة العراق من ناحية أخرى عندما لم ينص على عروبة الوطن العراقي واكتفى بالنص على عروبة من ينتسبون إلى العروبة من أبنائه، هذا الاندفاع والدعم الإيراني للأحزاب والميليشيات الشيعية أساء إلى إيران من أكثر من ناحية حيث جعل إيران شريكًا في الحرب الطائفية الدائرة الآن داخل العراق التي أدمت شعبه والتي جاءت على حساب تركيز المقاومة ضد الاحتلال كما أن دعمها للصعود السياسي القوي للشيعة في العراق أعطى ضوءًا أخضر لأقليات شيعية أخرى بالتحرك للمطالبة بحقوق سياسية الأمر الذي أدى إلى تحذير البعض من خطورة ما يسمى بـ " الهلال الشيعي " خصوصًا في ظل التنسيق الإيراني السوري، وفي ظل الدعم الإيراني لحزب الله في لبنان، مما أعطى انطباعًا بأن هذا الخطر موجود فعلاً ومتصاعد ويمتد من إيران إلى العراق إلى سوريا إلى لبنان، والتحذير من أنه يعد خطرًا على أمن واستقرار ومصالح الدول السنية المجاورة.

هذه التطورات تزامنت مع تطورات أخرى مهمة أبرزها الانقلاب الأمريكي على إيران في الخليج وتحميل واشنطن إيران مسؤولية الأوضاع المتأزمة في العراق ولبنان وفلسطين بالتضامن مع كل من سوريا وحزب الله، كما تزامن مع دعوة وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس في أوج سخونة الحرب الإسرائيلية على لبنان (يوليو – أغسطس 2006) إلى قيام شرق أوسط جديد يولد من رحم هذه الحرب، وكانت تعني بهذا الشرق الأوسط الجديد أنه سيكون ثمرة الإجهاز الإسرائيلي على " حزب الله " في لبنان وثمرة إجهاز الحصار الاقتصادي على نفوذ حركة " حماس " في فلسطين، وسيكون مقدمة لإحكام قبضة الحصار على كل من سوريا وإيران بما سيؤدي إلى خلق واقع سياسي إقليمي جديد له ثلاثة معالم: أولها: أن تتراجع أهمية الصراع العربي – الإسرائيلي كمحدد للعلاقات الإقليمية أي لا يكون نجاح أو فشل عملية السلام معيارا للعلاقات بين الدول العربية وإسرائيل بمعنى ضرورة أن تعجل الدول العربية بعقد اتفاقيات سلام مع إسرائيل بغض النظر عن حال عملية السلام، وثانيها، أن يحل في المنطقة صراع إقليمي جديد هو الصراع العربي – الإيراني كبديل للصراع العربي –الإسرائيلي بما يعني أن تصبح إيران هي العدو للعرب وغيرهم في المنطقة بدلا من إسرائيل التي يجب أن تتحول إلى صديق. وثالثها: أن الصراع الطائفي السني – الشيعي يجب أن يسود العلاقات داخل دول المنطقة بما يؤدي إلى تفاقم الصراع مع إيران وبما يساعد على فرض مخطط إعادة ترسيم الخرائط السياسية في المنطقة على أسس طائفية ومذهبية وعرقية.

والآن وفي ظل إستراتيجية الرئيس الأمريكي جورج بوش الجديدة في العراق التي تعطي الأولوية لتوسيع العمل العسكري لقوات الاحتلال في العراق وزيادة عدد القوات الأمريكية بدلاً من وضع جدول زمني لانسحابها والتي تتعمد مواجهة النفوذ الإيراني والسوري عسكريًّا في العراق دون قيود على إمكانية ملاحقة أي وجود إيراني في العراق إلى داخل الأراضي الإيرانية، وفي ظل الضغوط الأمريكية على الدول العربية المعتدلة لدعم هذه الإستراتيجية والمشاركة فيها وهو ما تحقق بالفعل على الأقل من الناحية المبدئية بعد اجتماع كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية مع وزراء خارجية ما تسميه رايس بـ " محور الاعتدال " أ " مجموعة 6 + 2 " أي دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن في الكويت لمواجهة ما يسمى في أدبيات الدبلوماسية الأمريكية بـ " محور الشر " الذي يضم إيران وسوريا مع كل من " حزب الله " في لبنان وحركة " حماس " في فلسطين . في ظل هذا كله بات ممكنا الحديث عن وجود حالة استقطاب إقليمي جديدة.

هذا الاستقطاب له وجهين: الأول سياسي، والثاني أيديولوجي طائفي، فإقليم الشرق الأوسط يتجه في ظل أخطاء السياسة الإقليمية الإيرانية وفي ظل احتدام المواجهة الأمريكية الإيرانية حول البرنامج النووي وحول الدور الإقليمي الإيراني الداعم لمنظمات المقاومة في لبنان وفلسطين إلى التورط في حالة استقطاب سياسي تسعى الولايات المتحدة إلى فرضها على دول المنطقة بالترغيب والترهيب معا بين ما يسمى بـ " محور الاعتدال " أو محور " الخير والسلام " ويضم دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن وتقوده الولايات المتحدة ومن خلفها إسرائيل في مواجهة " محور الشر " الذي يضم إيران وسوريا ومنظمات المقاومة في فلسطين ولبنان.

والهدف من هذا الاستقطاب هو فرض الصراع العربي الإيراني كصراع إقليمي بديل للصراع العربي الإسرائيلي وتمكين إسرائيل من القيام بدور الدولة الإقليمية العظمى.

يأتي الاستقطاب الأيديولوجي الطائفي كاستقطاب مواز للاستقطاب السياسي هدفه تفجير الصراعات الطائفية والمذهبية والعرقية بما يؤدي إلى انكفاء كل دولة عربية على نفسها في صراعاتها الطائفية والعرقية على أمل أن تؤدي هذه الصراعات إلى مزيد من فرض التقسيم والتفتيت على هذه الدول، وبما يؤدي إلى احتقان مذهبي وعلى الأخص بين السنة والشيعة يدعم من تحفيز الصراع بين العرب وإيران.

يبدو أن هذا الاستقطاب تحول من إطار التخطيط إلى إطار التنفيذ بدليل سيطرة المخاوف من الخطر الشيعي على الخطاب السياسي لكثير من مؤسسات الحكم والإعلام العربية لدرجة وصفها البعض بـ " الإيرانو فوبيا "، حيث تصور إيران وكأنها تقود غزوًا عقيديًّا لتشييع السنة في البلاد العربية ضمن مخطط يرمي إلى فرض السيطرة الإيرانية لكن الأهم والأخطر أمران لهما دلالتهما: الأول هو ما جاء على لسان تيري رود لارسن المبعوث الدولي إلى لبنان من أن القلق والخوف العربي المثار من طموحات إيران في الشرق الأوسط يمثل فرصة مواتية للسلام بين العرب والإسرائيليين، ونقلت عنه صحيفة فايننشيال تايمز البريطانية قوله (2 / 2 / 2007) أن هناك فورة للدبلوماسية العربية بدافع الخوف من إيران والشعور بأن عملية جديدة للسلام ستساعد على ترسيخ أجواء الاستقرار في المنطقة. لارسن التقط المعنى والمغزى من الحالة العربية القلقة الآن من إيران والخطر الشيعي وهو أن الفرصة سانحة أمام إسرائيل لتصبح الصديق في وقت بدأت تتحول فيه إيران إلى عدو أو على الأقل إلى مصدر للخطر.

الأمر الثاني هو زيارة ديك تشيني للمنطقة خلال هذا الشهر لهدف محدد هو " الحشد ضد إيران " ديك تشيني حرص قبل الإعلان عن هذه الزيارة على توجيه تحذير قوي إلى إيران بقوله أن توجه حاملة طائرات أمريكية أخرى إلى الخليج يمثل إشارة قوية إلى إيران. وهو هنا أراد أن يدعم الاتجاه الداعي إلى التصعيد مع إيران دون استثناء الحل العسكري لأزمة البرنامج النووي الإيراني.

خبرة المنطقة مع زيارات ديك تشيني لا تبشر بالخير، فقد اقترنت هذه الزيارات عادة وعلى الأخص في أوقات الأزمات، بالإعداد للحرب وبالإعداد لترتيبات إقليمية. حدث هذا مرة عام 1990 عقب غزو العراق للكويت عندما كان وزيرا للدفاع في إدارة جورج بوش (الأب) فقد زار دول المنطقة وخاصة مصر والسعودية وبعض دول الخليج الأخرى وحصل من الملك فهد على موافقة المملكة على استقبال قوات دولية وأمريكية لتحرير الكويت، وزار المنطقة مرة أخرى عقب توقيع اتفاق " إعلان دمشق " الذي جاء ليؤسس لنظام أمن عربي جديد في الخليج بعد حرب تحرير الكويت عام 1991، حيث اعتبرت القوات المصرية والسورية التي شاركت في تلك الحرب نواة لقوة أمن دفاعية عربية تؤسس لنظام أمن إقليمي عربي، لكن زيارة ديك تشيني أنهت وللأبد هذا الطموح العربي، حيث استبدل إعلان دمشق بإطار آخر للأمن حصر في دائرة الاتفاقيات الدفاعية الثنائية (وليس الجماعية) بين كل دولة من دول الخليج الست والولايات المتحدة.

ماذا ستفعل إيران أمام كل هذه التطورات التي تتزامن مع موعد عرض الملف النووي الإيراني مجددًا أمام مجلس الأمن ؟

المسؤولية كبيرة لكن إيران هي المعني قبل غيرها على تحمل تبعاتها فهي حصاد سياسات خاطئة.