|
اعتصم اليمنيون كما اعتصم المصريون بل أكثر. وصمد اليمنيون أمام عصابات البلطجية مثل المصريين بل أكثر. لا القناصة أرهبوهم ولا مصفحات خراطيم مياه المجاري أوهنت عزائمهم. بل على العكس خرج الشباب وتلقى الرصاص الحي بصدورهم العارية فسقط منهم أكثر من أحرار تونس ومصر. ومع ذلك، وبرغمه، لم يسقط الرئيس بعد!!
لم يستقل من نظام زين العابدين ومبارك مجتمعين نصف من استقال من نظام صالح. كما لم يكن لدى المصريين والتونسيين عوامل تعجل نجاح الثورة كما لدينا: فلا قناة فضائية ثورية لهم كـ"سهيل"، ولا ألوية منشقة من الجيش كالفرقة الأولى مدرع، ولا تكتل سياسي معارض موحد بقوة أحزاب المشترك. لا احتجاجات شعبية تعم الجنوب ولا 6 حروب في الشمال. ولا أدري ما أقول؟ هل أسرعوا هم أم أبطأنا نحن؟ لسنا أقل كرامة وشجاعة من ثوار تونس ومصر، لكن من المؤكد أن رئيسنا أشد مكراً وأقوى شكيمة من رؤسائهم. وأن جارتنا السعودية تفزع من التغيير عند سابع جار فكيف باليمن؟
ينقصنا عن المصريين والتونسيين شيء واحد: الهوية الوطنية. أنا مصري قالها ثوار ميدان التحرير وقالها أيضاً مجدي الدقاق وأزلام النظام. الولاء لمصر قبل الولاء للهويات الصغيرة. وفي تونس أيضاً. أما عندنا فالأمر آخر: أنا حاشدي، أنا إصلاحي، أنا حوثي، أنا جنوبي، أنا بكيلي، أنا من أصحاب منْزل. ما يفلج الصدر أن لجنة النظام المتشددة في مسائل الاختلاط والمنشورات تساهلت إلى أقصى حد فيما ينبغي الحزم فيه: لقد سمحت بتكريس المناطقية عالآخر على حساب الهوية الوطنية اليمنية الجامعة، فتقرأ على أكثر من نصف خيم الساحة يافطات تختزل اليمن في عزلة أو منطقة أو قبيلة أو محافظة. وتلك كارثة.
كيف يمكن خلق تعايش بين يمنيين فرّقهم النظام 33 عاماًً إذا كان أصحاب مأرب يقضون معظم أوقاتهم مع أصحاب مأرب فحسب. وأبناء البيضاء مع أبناء محافظتهم في خيمهم، وخولان لخولان. وبهذا فهو تعايش بين متجانسين والأصل أن يكون بين مختلفين: اختلاف جغرافي وثقافي وإيديولوجي.
إن أعظم قيمة ينبغي تكريسها في ساحات التغيير والحرية هي الاختلاط: المنظم والعفوي. اختلاط الحوثي بصاحب جامعة الإيمان، المدني بالقبيلي، والشمالي بالجنوبي. ولا أكتمكم (بل طزّ في كلام الرئيس) لقد شعرت لأجزاء من الثانية أن الوعي الاجتماعي في اليمن سيتغير، كلياً أو جزئياً، مع الثورة حين رأيت العزيزة سامية الاغبري تتعشى في مطعم الشيباني في القسم العام دون أن يرمقها أحد بنظرة مقت أو استغراب.
كانت الهوية الوطنية اليمنية الجامعة بدأت تتخلق فعلياً في ساحات الاعتصام. الجميع على مدى شهرين يقول كلنا واحد. لا أحقاد ولا ضغائن. لا أحد جاء إلى الساحة ومعه حقيبة الذكريات السيئة إلا قلة متعصبة مأزومة من كل الأطراف. إن يمناً جديداً كاد يخلق. رأيت اليمنيين يتفننون في ابتكار لحظاتهم الثورية. رأيت فتاة تتنقّب بالعلم الوطني. ورأيت شاباً عاري الصدر في مجتمع كان ينظر بالأمس إلى فعله على انه "عيب". رأيت النساء المسنات يقفن أمام عدسات التصوير بفخر وعزة ودون اضطراب بينما كانت والدتي يرحمها الله ترفض أن نتصور معاً وسط البيت!! ياااااه.
يمن عظيم هذا الذي يصلّي فيه الحوثي ومجند الفرقة أولى جنباً إلى جنب وقد كانا بالأمس يتقاتلان. السلفي وخريج جامعة الإيمان يصلّي المغرب والعشاء جمعاً على مذهب الإمام زيد. طه المتوكل يؤم القميري، وزوامل أحمد المنيعي تتجاور مع شباب الراب والجيتار. إنه يمن مختلف. يمن حقيقي. حتى القبائل الذين قل ما ينسون ثاراتهم قدموا النموذج الأعظم لدرجة أن المسافة بين مخيم العصيمات ومخيم حرف سفيان، وبينهما دم وعداوة، لا تتعدى 25 متراً.
ومع هذا، وبرغمه، ما يزال السؤال ملحاً: لماذا طالت الثورة اليمنية؟
قلنا من أجل التعايش، ورب ضارة نافعة إنما يبدو هذا على أرض الواقع مقلقاً. فالذين في الساحة يغرقون كل يوم في قضايا الساحة وخلافاتها والرئيس يستجمع أنفاسه وقواه، كل يوم، ويوسع هامش المناورة لديه. والدليل أن ثورتنا تحولت في المبادرة الخليجية إلى أزمة سياسية.
لماذا طالت الثورة اليمنية؟
اهتديت إلى إجابة مقنعة، أقلها لي شخصياً، وأنا استعيد ألبرت اينشتاين الذي قال: "إن أصغر ثقبٍ قادر على إفراغ أكبر كوب". نعم هذه هي العلة. لقد اكتملت أسباب نجاح الثورة اليمنية ولكن هناك ثقب يُفرغ الكوب كلما أوشك على الامتلاء. وبالأحرى هي 3 ثقوب: الأول سياسي وجوهره أن أداء المعارضة وإن كان جيداً إلا أنه ليس بمستوى الثورة ومدِّها العالي، ولا بمستوى خبث ودهاء نظام علي صالح. وبالتالي على اللقاء المشترك وشركاؤه (أقصد على اللجنة التحضيرية والمشترك حتى لا يقال قدمت المبتدأ على الخبر!!) أن يدركوا أنه لا يفلُّ الحديد إلا الحديد.
الثاني تنظيمي، داخل الساحات، يختزله وعي عامة الناس والأغلبية الصامتة والمحايدة من الشعب بتفكيرهم الفطري في مثال بسيط: "إذا لم يتفقوا على المنصة فهل سيتفقون غداً على البلاد ومقدراتها"؟ وقد والله صدقوا.
الثالث إعلامي: أن يستطيع علي عبدالله صالح جمع هذه الحشود، وقد كان قاب قوسين أو أدنى من السقوط، فهذا يعني أن الرجل قد امتص الصدمة ولو لبعض الوقت، وأن الأداء الإعلامي للثورة غير ناجح (حتى لا أقول فاشل).
لقد أنجز اليمنيون جميعا أكثر من 75% من ثورتهم. بقيت تكتيكات صغيرة الحجم كبيرة الأثر. كنا حماسيون إلى أقصى حد وهذا خدم الثورة. الآن وقت الذكاء والحنكة. لكن بدلاً من أن يقوم الخطاب الإعلامي للثورة بتطمين المؤتمر والقوى الفاعلة في البلد لتفكيك من حول الرئيس يقوم بالعكس: يدفعهم للاستماتة حوله والذوذ عنه حتى آخر لحظة. بدلاً من أن يقوم خطاب ساحة التغيير باستعطاف من هم في السبعين، وإغرائهم بأخلاقها وتنوعها وتسامحها نقوم بالعكس: نصف تلك الحشود الكبيرة بالمرتزقة والبلاطجة (وفيهم بلاطجة ومرتزقة طبعاً لكن التعميم كارثي ومعيب). بل والأسوأ قيام مراكز القوى بتصفية حساباتها مع الخصوم. على سبيل المثال: عندما وقعت مجزرة ملعب الثورة وسالت دماء الشهداء الطاهرة التي ستحرر اليمن، بث شريط قناة سهيل الإخباري إن جليدان محمود جليدان، الذي كان سينافس الشيخ عبدالله في الانتخابات البرلمانية، هو من يقود البلاطجة بينما كان الرجل يومها "مخزن" في مقيل رئيس منتدى التنمية السياسية علي سيف حسن مع رئيس تحرير النداء سامي غالب وبرفقة الزملاء ماجد المذحجي ومحمد العلائي وسامي نعمان وآخرين: ترى هل من اللائق تصفية الحسابات باسم الثورة؟ أحسب أن هذه القصة مثلها مثل قصة شيكات ياسر العواضي بالضبط. وللأمانة أنا شخصياً ومنذ الأربعاء الفائت بدأت أتعامل بحذر شديد مع أخبار سهيل. الأمر متعلق بنزاهة المعلومة ودقتها.
يجب أن يدرك حميد الأحمر وكافة إخواننا وشركائنا في ساحات التغيير أن الثورة على علي عبدالله صالح ليست ثورة على نظامه السياسي فحسب وإنما هي ثورة بالمقام الأول على سلوكياته برمتها.
في الثلاثاء 03 مايو 2011 03:37:30 م