بأيِّ ذنبٍ سُلِّعَتْ
بقلم/ أمين اليافعي
نشر منذ: 16 سنة و 8 أشهر و يوم واحد
الأربعاء 12 مارس - آذار 2008 11:06 م

مأرب برس -خاص

كعادته، يأتي اليوم العالمي للمرأة ويذهب دون أن يُحدث شيئاً يُذكر بخصوص موضوعه الأصلي عدا فرقعة الاحتفالات والنداوت التي تُقام هنا وهناك لذر الرماد في عيون المرأة! بينما يبقى واقعها المزري كما هو، وتبقى الإشكالية التاريخية حول طبيعة وهدف وجودها الإنساني محط للكثير من التساؤل والنقد!وعلى الرغم من تعدد بيئات وثقافات وحقب الحضارات الإنسانية، إلا أنها توصلت إلى ما يشبه الإجماع بشأن كينونة المرأة ( نستطيع أن نتفهم هذا الإجماع على خلفية أن الحضارات الإنسانية في الأخير هي حضارات ذكورية)، صائغة "المقولات الكبرى" على طول إرثها العقائدي والقومي المقزمة لدور المرأة، والمختزلة وجودها إلى كائنٍ هامشيٍّ وأداة للترفية والإنجاب!.

وأصبحت هذه المقولات ـ بفعل توجيه الرجل لمسار التأريخ والثقافة ـ أقدس من المقدس، والمحدد الأوحد لتعاملاتنا ونظرتنا إلى المرأة بالرغم من الجهود التنظيرية الكثيفة التي قدمتها التشريعات السماوية والبشرية للحيلولة دون هذه المقولات، وللتعامل مع المرأة كمضمون لا كسلعة، ووضعها في المكان اللائق باعتبارها القطب الآخر في نظام ثنائي القطبية، ولا يستقيم هذا النظام بالشكل الصحيح إلا بتواجد كلا القطبين تواجدا أساسيا.

وما يدعو إلى الكثير من التحيّر أن الإنسان على امتداد تأريخه مرّ بتبدلات شتى، بدّل إلهه ودينه وثقافته وواقعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والجغرافي، بدل ربما كل شيء، عدا تعامله ونظرته إلى المرأة التي وإن شهدت تحسناً خلال فترات نادرة وصغيرة جداً نتيجة لتدخل السماء أو للتنوير البشري، فإنها سرعان ما تنزلق عن سياقها، لتدخل في سياق جديد يُفصّل ليناسب خصيصاً ما تدعو إليه المقولات الكبرى سالفة الذكر! وكما يخبرنا القس "أوستن" في فيلم "أن أكون جين Becoming Jane " أن أقصى ما يمكن للمرأة أن تمثله هي الجاذبية الناعمة، والحب والهدوء والطمأنينة في الصباح، والمرح وخفة الظل.. لكن أن تتمتع بالذكاء، أو تتفوق في مجال ما، فإنها الموهبة الأكثر لعنة عليها، ومن الأفضل أن تبقيها "سراً عميقاً"!.

 وعلى أساس هذا الوميض الماكر حاول الرجل الترويج لأكبر كذبة في التأريخ عن فهم تضليلي متعمد لفكرة نقصان عقل ودين المرأة ، حتى صارت هذه الكذبة في كل ثقافات العالم بمثابة الحقائق المطلقة غير القابلة للنقاش أو للنزول ولو لدرجة واحدة إلى ما أثبتته الأديان السماوية والأبحاث العلمية الحديثة من زيفها تماماً!..

فسادية الرجل ـ المتحكم في مصيرها ـ لن تسمح بوجود مراكز منافسة له، وربما تسحب البساط من تحت أقدامه، متكئاً على تفسيرٍ ماديٍّ لمفهوم "القوامة" باعتبارها "التفوق" وليس "الرعاية"، حاصراً التفوق في حدود القدرات الجسدية فقط، وحاصراً دور المرأة ـ التي يبلغ بها التعقل مراتبه ـ في دور وضع السكر على كل ما تقوله للرجل، وتنزع الملح عن كل ما يقوله لها الرجل ـ كما تخبرنا الحكمة الشهيرة، تماما كمحلّيّة مياة البحر أو كأي آلة أخرى!..

ولو رجعنا على سبيل المثال إلى إرثنا الإسلامي(باعتبار نصه المقدس أنضج ما توصلت إليه التشريعات في هذا الخصوص) لاستكشاف العلاقة بين النّص والممارسة المبنية على تأويل النّص، للمسنا حجم ما حدث من تطويع للمعنى ليناسب ما كان متداولاً عن المرأة قبل النزول، ولكن هذه المرة كان باسم الدين عوضاً عن عادات الجاهلية. فالنّص الذي وازى بين دور المرأة الرئيسي والمهم في الحياة، وبين خلق نموذج أخلاقي عالي للمجتمع المسلم يحرسه من الوقوع في المنكر، دون أدنى تداخل بين الدور والنموذج.. سعى الرجل ـ الموكل إليه أمر القوامة بمعناها المغلوط كما بينّا سابقاً ـ على امتداد التأريخ الإسلامي إلى وأد هذا الدور تحت الذرائع الأخلاقية، مروجاً ـ بغرض طمس قيمة المرأة وتسليعها ـ بأنها مستقر الشهوة و مصدر الرذيلة!.. وحتى السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ التي اكتسبت وضعاً خاصاً، وكانت المرجعية الشرعية في عصرها كما نلحظ ذلك مما ذكره ابن أبي مليكة عن الاختلاف الذي حدث بين ابن عباس وابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ بشأن حديث "أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه"، وعندما اعترض ابن عباس على صيغة الحديث، ناسباً اعتراضه هذا إلى السيدة عائشة، لم يقل شيئاً ابن عمر تعليقاً على كلام عائشة ـ رضي الله عنهم أجمعينـ كما ذكر ابن أبي مليكة في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم.. وهذا التسليم للمكانة الفكرية العالية للسيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ من قبل الرجال لم يأت من فراغ، بل جاء بعد وصية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم بأن يأخذوا نصف دينهم عن هذه الحميراء(أي عائشة)، وأيضاً الحصانة التي أطرّها بها القرآن ساداً في ذلك كل منافذ الشهوة المزعومة التي يتذرع بها الرجال لسحق المرأة بقوله تعالى: (وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً)(سورة الأحزاب الآية 53).. وربما تتضح الصورة أكثر في الموقف الذي تحرج فيه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عن ذكر اسم المرأة التي أصابت وأخطأ هو، واكتفى بقوله "أصابت امرأة"!.. وإن كان هذا الموقف، فهو لا يقلل من التطور الكبير الذي حدث للصحابي الجليل(ولمجتمع المدينة) في تعامله ونظرته إلى المرأة.. والفرق شاسع بين هذا الموقف، وموقفه المعترض على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمشاورته زوجاته، متذكراً ما كان يفعله أهل مكة قبل الإسلام في سياقٍ كهذا! ولم تختلف الثقافات الأخرى في رؤيتها العامة للدور المنوط بالمرأة..

حتى الحضارة الغربية التي حملت مشعل التنوير في العصور الأخيرة، وعمدت إلى تحرير الإنسان، وفكه عن قيوده التاريخية والثقافية، كافلة له كل حقوق المشاركة والإسهام في شتى مجالات الحياة.. انزلقت هي الأخرى إلى حفرة التعامل التقليدي مع موضوع الغاية من الوجود الإنساني للمرأة!..فربما يكون قد أعطتها الحقوق الشخصية وحرية تحديد المصير، ولم تتعامل معها بطريقة التهميش البدائية( وهو جزء من رؤيتها العامة؛ المقتضية مركزية الإنسان في الوجود).. لكنها في الناحية الأخرى، تعاملت مع المرأة كسلعة ترفيهية لا أكثر!.

وتوجد هناك الكثير من الإحصائيات( منها إحصائية قامت بها شبكة الـ CNN الأمريكية في عام 2001م) تشير إلى انتشار ظاهرة تجارة الرقيق من النساء في الغرب لاستخدامهن في الأعمال الجنسية!!.. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى التعامل مع المرأة كشكل بعيداً عمّا يكونه المضمون! فالكثير من الدول والمؤسسات في الغرب لا تزال تعمل على استبعاد المسلمات (المحجبات) من المشاركة والإسهام في الحياة بدعوى ارتدائهن الحجاب!!( وربما يكون هذا ـ تجارة الرقيق ورفض الحجاب ـ مردّه إلى الطريقة التي تتعامل بها الدول الغربية مع العالم الخارج عن شرطها الحضاري، فالكثير هناك لا يرى الإنسان إنساناً إلا إذا التزم بمنطه الغربي في تسيير شئون حياته!).

أما أكثر الشواهد على موضوع تسليع المرأة، فيأتي من الدراسة التي نشرتها مجلة "مور" مؤخراً، وتشير إحصائياتها إلى أن النساء يفكرن في شكل أجسادهن كل 12 دقيقة! بينما ثماني نساء من كل عشرة يفكرن في أن حياتهن بأكملها يمكن أن تتغير إذا كن أكثر سعادة وقناعة بجمال وتناسق أجسادهن وبجاذبية شكلهن عموماً!!..

هذا التسليع، وإن حدث في الدول المتقدمة، إلا أنه لا يُبعد كثيراً ـ من حيث المضمون ـ عن عادات وتقاليد مجتمعاتنا المحافظة حين يرهن الخطيب موافقته على من سيتقدم إلى أهلها لخطبتها برؤيته لها! وفي المقابل يشترط الأهل مبلغاً مالياً كبيراً حتى يضمنوا عدم نكوص المتقدم لخطبة أبنتهم بعد رؤيته لها، ويسموا هذا العادة بـ"حق الفتّاشة"! (تتسبب هذه العادة بحوادث مؤلمة، أخرها ما ذكرته بعض المواقع الإلكترونية اليمنية قبل أيام قليلة من يوم المرأة العالمي بمفارقة الشابة هديل للحياة جراء نوبة قلبية حادة على إثر طلب والدها من العريس دفع مائة ألف ريال مقابل "حق الفتّاشة"، وعندما رفض أبو العريس حالفا بالطلاق ثلاثاً بأن تصبح العروس محرمة على أبنه نهائياً في حال لم تخرج وتزف إلى أبنه. لم تتمالك هديل روحها أمام يمين الطلاق، ففارقتها إلى الأبد!..).

يبدو لي أن وضع المرأة لن يتحسن كثيراً إلى نهاية البشرية، فالتأريخ سيظل مُسيّراً بيد الرجل، وكل من التقدم والتخلف اثبتا جحودهما للدور وللغاية الحقيقية من وجود المرأة، ولن يُسمح لها أن ترتقي إلى مرتبة إنسانية متقدمة، فهذا سيجلي عن مضمونها، والمضمون ـ كما يقول القس "أوستن " ـ الأكثر لعنة إذا امتلكته!!كل عامٍ والنساء بخير.