المجالس الرئاسية في حكم اليمن.. حلول مؤقتة لحروب مؤجلة!
بقلم/ توفيق السامعي
نشر منذ: 5 ساعات و 23 دقيقة
الخميس 13 فبراير-شباط 2025 05:05 م
 

قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: لا يصطلح سيفان في غمد واحد!

كان هذا اعتراض من عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في أول منازعة على الحكم والسلطة بعد وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار لإدارة شؤون الدولة الإسلامية، في سقيفة بني ساعدة، والذي كان كل فريق يرى أنه الأحق بخلافة النبي –صلى الله عليه وسلم-، كما هو مشهور.

 

بعد طول منازعة وخلاف بين المهاجرين والأنصار اقترح الحُباب بن المنذر: منا أمير ومنكم أمير، فرد عمر: "لا يصطلح سيفان في غمد واحد"، فما بالنا اليوم بثمانية سيوف في غمد واحد!!

 

في علوم السياسة والإدارة والدولة والجيوش يتم تهيئة الأرضية السياسية الصلبة التي تنطلق منها أية دولة أو إدارة ناجحة لامتلاك القرار بيد صاحب السلطة للمضي ببرنامجه في إدارة شؤون الدولة حتى لا تتعثر ولا يتم النهوض بها، تحقيقاً للمبدأ الرباني (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).

 

تعدد الرؤوس في إدارة الدولة يعني تعدد القرارات، وتنازع الصلاحيات، لا يؤدي إلى شللها وتخلفها وتعطيل قراراتها وحسب، بل يؤدي إلى الاحتراب والمنازعة؛ إذ لا يستطيع أي رأس اتخاذ القرار بنفسه دون الرجوع إلى الآخرين، وقد يكون هؤلاء أصحاب مشاريع متعددة وأفكاراً متباينة، ولكل رأس منهم أسلوبه الذي يسوس به الدولة، ومن هنا تُشلُّ قرارات الدولة، ويتم التنازع فيها، وتركد الحياة السياسية وتتعطل، وتكون البلاد عرضة للتباينات والتقاسم والاقتتال.

 

إن تركز القرار بيد حاكم واحد من بديهية الأمور في الحكم، حتى في أكثر الدول ديموقراطية وتداولاً ومؤسسات، ولا تحتاج إلى تفكير عميق، ولا إلى فلسفة حكيمة لإدراك مآلاتها ونتائجها؛ فهي من الوضوح بمكان كوضوح الشمس في رابعة النهار، ولنا في التاريخ عبر ودروس كثيرة.

 

حينما تحدثت قريش عن تعدد الآلهة، كان الرد الإلهي مبيناً صور ومآلات ونتائج هذا التعدد على الكون {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}الأنبياء22 ، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}المؤمنون91؛ لأنه ستكون هناك نتائج حتمية للنزاعات والدمار والفساد، ولا يكون التنازع إلا في تعدد الرؤوس.

 

حصل أول تقاسم لإدارة الدولة بين ولدي هارون الرشيد؛ الأمين والمأمون، حينما عهد إليهما أبوهما بالخلافة، وأدى ذلك الاقتسام إلى التنازع والاختلاف ما لبث أن تحول إلى حروب مدمرة بين الأخوين دفع ثمنها الأمة الإسلامية بشكل عام، فاستعان الأمين بالعرب واستعان المأمون بأخواله الفرس، وسرعان ما تحول الأمر إلى اقتتال قوميتين بدعوى الأحقية بالحكم، وحب التفرد بالقرار والتوسع، إلى أن تغلب المأمون على أخيه الأمين، لكنه سرعان ما أفضى إلى استقرار الحكم بعد ذلك وسكنت الفتنة بانتهاء أحد رؤوسها.

 

وهكذا كان الأمر مع كثير من أئمة اليمن؛ يخرج سبعة أئمة بدعوى واحدة في إطار الإمامة الواحدة، والأسرة الواحدة، وكل إمام يجيش له أتباعاً من اليمنيين وتتقاتل تلك الأطراف برؤوس اليمنيين، حتى شاع المثل المعروف (الحجر من القاع والدم من راس القبيلي)، مما أدى إلى تخلفها كل هذا التخلف.

 

منذ أن تفجرت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر في اليمن، لم يكن لها من رأس واحد يحسم الأمر ويمضي في طريق الثورة حتى النهاية، بل تم تكوين أول مجلس جماعي لإدارة الدولة هو مجلس قيادة الثورة، ومع اختيار الجميع الرئيس عبدالله السلال أولاً وفرضه من القيادة المصرية ثانياً كحليف للثورة، إلا أن قيادة الثورة كانت جماعية، وبدأت الكثير من النزاعات، مع أن هدف الجميع واحد، وهو المضي بالثورة حتى النهاية، في إطار واحد وجيش واحد ومشروع واحد، ولكن كان لكل رأس في قيادة المجلس الجمهوري أسلوب في الإدارة ورؤية في التصور والأساليب كانت من أهم اختلالات الثورة، لم تفضِ بها إلى النجاح الكامل، فما بالنا بثمانية رؤوس ولكل رأس جيش مستقل ومصادر دعم وتمويل مستقلة، وتعدد ولاءات خارجية! 

هذه الثغرة التي تسلل منها الإماميون بعد ذلك إلى محاولة وأد الثورة في حصار السبعين يوماً، ويتسلل منها الإماميون الجدد (الحوثيون) اليوم لضرب استقرار البلاد والتحريش بين المكونات، وإعادة الإمامة مجدداً.

 

تم الانقلاب على المجلس الأول في 5 نوفمبر 1967، وتم تشكيل المجلس الجمهوري برئاسة القاضي عبدالرحمن الإرياني، وهو ثاني مجلس جماعي ورئاسي للبلاد، لم يتمكن أيضاً من الاستقرار ولا بناء الدولة البناء الأمثل الذي تطلع إليه اليمنيون، حتى تم الانقلاب عليه من الحمدي والاستفراد بالحكم، ومع تفرده بالقرار والحكم فقد شهد عهده استقراراُ نسبياً وتنمية أفضل.

 

كان على اليمنيين أن يعوا الدروس الثورية جيداً، والانتقال من عهد الظلام إلى عهد النور، لكنه كان نصف انتقالة، لم تتم القطيعة الكاملة مع العهد البائد، ومن هنا أبقى الجميع جمرة التمرد الإمامي متقدة تحت رماد اشتعلت مؤخراً فأحرقت اليمن.

 

في عام 1990 تمت الوحدة اليمنية، وتوافق اليمنيون مجدداً على إدارة جماعية لليمن مكونة من خمسة أعضاء هو المجلس الرئاسي الذي كان يرأسه الرئيس صالح ونائبه علي سالم البيض، وعضوية كل من سالم صالح محمد والشيخ عبدالمجيد الزنداني وعبدالعزيز عبدالغني، ليكون المجلس الرئاسي الجماعي الثالث، لكن أدى الحكم الجماعي إلى شلل الإدارة، ودخلت البلاد في فترة انتقالية شهدت الكثير من تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية والمماحكات بين أعضاء المجلس، وصولاً إلى تفجر الصراع في حرب صيف 1994، مع أن الوضع العسكري كان منقسماً فقط بين طرفين؛ طرف الشمال وطرف الجنوب وبجيشين اثنين لا ثمانية جيوش.

 

هنا أمسك الرئيس صالح زمام الأمور واستفرد بالقرار الرئاسي، وتم إلغاء المجلس كنتيجة حتمية لنتائج الحرب وتغلب المنتصر، وتم بعد ذلك دمج الجيشين وتوحيدهما، لتشهد البلاد استقراراً محدوداً ومرحلياً حتى عام 2004 وبداية حروب صعدة الستة، ثم أزمة 2011، ثم كارثة وعودة الإمامة وانقلابها على الدولة في 21 سبتمبر 2014. 

 

تجاربنا مع المجالس الجماعية لإدارة الدولة غير ناجحة البتة، بل تزيد الطين بلة، ينبغي اليوم إعادة النظر في تكوين المجلس الرئاسي، وليكن مكوناً من الرئيس العليمي ونائبين له يمتلك فيه الصلاحيات الكاملة مع التشاور مع نائبيه، وبدعم حزبي وشعبي كامل لكي تنبعث اليمن من رقدتها، ولتمضِ الإرادة والإدارة إلى غايتها، وهي التحرير والتخلص من حالة الركود القائمة اليوم، وهذا لن يتأتى إلا من خلال قوة عسكرية مسيطرة على الأرض وموارد الاقتصاد وبدعم التحالف العربي.

لا يمكن أن يجتمع سيفان في غمد واحد أبداً، وغالباً تحرير البلدان تحتاج قائداً واحداً شجاعاً ومؤهلاً وصاحب إرادة ومشروع، يعمل لتحقيقه، وسيجد الشعب من خلفه، خاصة في هذه الظروف التي تتحرر فيها البلدان ويتطلع فيها اليمنيون إلى الخلاص من كابوس الإمامة الجاثم على صدورهم؛ فأزمة اليمن اليوم هي أزمة قيادة.

 

بالعودة إلى تاريخنا العربي والإسلامي، نجد أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلكم القائد العظيم والحكيم الأول، كان يركز على موضوع القيادة أيما تركيز، وكان يشرِّع للأمة ويُنَظِّر لها في هذا الإطار، حتى لا يتم التنازع بينها، وحتى يتم حسم الجدل في أية خطوة من الخطوات التي تهم المسلمين.

 

لذلك نجد له نصوصاً تحث على هذه الأمور فيقول: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم"، وهو يشير إلى أن ولاية الناس من أعظم واجبات الدين، وأن المسلمين لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض دون تنازع صلاحيات، حتى قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لثلاثة نفر يكونون بفلاة من الأرض إلا أمّروا عليهم أحدهم" رواه أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو.

وبعد أن يحسم أمر تولية الولاية يمنحهم الصلاحيات ويحث على طاعتهم أيضاً، فقد روى الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي -ﷺ- أنه قال: «مَن أطاعَني فقدْ أطاع اللهَ، ومَن عَصاني فقدْ عَصى اللهَ، ومَن أطاع أمِيري فقدْ أطاعني، ومَن عَصى أمِيري فقدْ عَصاني».

 

ففي غزوة مؤتة مثلاً حدد الرسول -صلى الله عليه وسلم- قيادتها بثلاثة أمراء، إلا أنه كان تحديداً فردياً يحسم القائد، أولاً أمَّر زيد بن حارثة، فإن قتل قال فجعفر ابن أبي طالب، فإن قتل قال فعبدالله بن رواحة.  

 

كذلك في بلادنا فقد كانت تجربة اللقاء المشترك ظاهرها إيجابية لكنها قيادة كانت سلبية أيضاً في عدم الأخذ بزمام الأمور وتعطيل اتخاذ القرار، اتحدت أحزابها فقط على معارضة صالح، بينما لكل طرف منها رؤيته وتوجهه وأسلوبه ومعتقده، فَشُلَّ القرار السياسي في التعامل مع مواجهة الانقلاب الحوثي، وسرعان ما انقلب بعضها على بعض؛ الأحزاب الإمامية انحازت للانقلاب الحوثي كمشروع إمامي متكامل، واليسار والقوميون انقسموا بين مؤيد للانقلاب ومعارض على استحياء والكل متربص بشريكهم الإصلاح، وشهر عنهم مقولة "عملية قيصرية للتخلص من الإصلاح وجامعة الإيمان والعودة إلى صعدة"؛ فوضعوا قدماً في السلطة وأخرى مع الانقلاب.

 

هذا التباين جعل الجميع يتفرج على الانقلاب وكأن الأمر لا يعنيهم؛ وضعوا كل بيضهم في سلة هادي، وهادي منحها الحوثي وسلم الجمهورية لهم، ووجد الباقون أنفسهم تائهين لا قرار لهم من ناحية، ومن ناحية أخرى كانوا هم المستهدفين من كل هذا الانقلاب.

 

اليوم في المجلس الرئاسي يكرر الأمر ذاته؛ كل رأس له مشروعه ومكبل بقيد إلى معصم الآخر، والكل متشابكون في هذه القيود، لا يستطيع أحد منهم التفرد بالقرار ولا المضي نحو التحرير والخلاص، وركدت الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية، ومن هذه الثغرة يستفيد الإماميون مجدداً كما استفادوا في ستينيات القرن الماضي، ولذلك اليد العليا لهم على الأرض.

 

ليس في بلادنا وحسب كانت القيادة الجماعية سبب شل القرار في الدولة والتنازع الداخلي؛ ففي لبنان نصلاً مثل هذا الامر ةابوساً للدولة إلى درجة انه لم يتم التوافق على رئيس جمهورية، وظل منصب الرئيس شاغراً مدة ست سنوات، لم يحسم الا مع هزيمة حزب الله مؤخراً الذي دفع إلى توافق رئاسي.

 

هو ذات الأمر في سوريا مع المجلس الوطني السوري الذي شكله السوريون المنتفضون ضد نظام بشار الأسد، وظل كل شيء مجمداً حتى حسم الأمر محمد الشرع، وتغيرت كل الأمور في غضون أسابيع معدودة.

 

وكذلك كان الأمر في عراق ما بعد صدام، فأدى الأمر في نهاية المطاف إلى تغول شيعي أزاح المكون السني بقوة السلاح، مع بعض التوافق الكردي، لكن هذا الأخير كان بسبب تعادل القوة على الأرض.