هل كان الحوثي ثائرًا.. أم متربصًا بثورة فبراير؟
بقلم/ صهيب المياحي
نشر منذ: 4 ساعات و 31 دقيقة
الثلاثاء 04 فبراير-شباط 2025 08:35 م
 

حين انطلقت ثورة فبراير، لم تكن مجرد انتفاضة ضد نظام حكم، بل كانت لحظة استثنائية تخلّقت فيها روح جديدة، روح تسعى لالتقاط المعنى الأكثر نقاءً للحرية، للعدالة، للمواطنة المتساوية. كان المشهد أشبه بانبثاق فجر لم يره اليمنيون من قبل، حيث ذابت الفوارق، وامتزجت الأصوات، وتماهت الأحلام في صورة واحدة: يمن جديد يتسع للجميع.

 

في ذلك الفضاء المفتوح، دخل الحوثي. لكنه لم يدخل كمؤمن، بل كطامع، لم ينضم إلى الثورة، بل جاورها متربصًا. لم يكن يرى في فبراير ثورة تحررية، بل لحظة اضطراب يمكن استغلالها. لم يكن ينتمي لأفقها الأخلاقي، ولا لنشيدها الوطني، ولا حتى لمخاوفها العميقة. كان كيانًا غريبًا، مغلقًا على ذاته، يمارس طقوسه الخاصة وسط الحشود، كما لو أن الزمن لديه يتحرك في اتجاه مختلف عن الجميع.

 

في ساحات الثورة، كنا نحاول اختراع وطن جديد بالكلمات، بالأغاني، بالدموع، بالموت أحيانًا. كنا نؤمن أن الحلم، حين يصبح مشتركًا، يلتهم كل الجراح، حتى تلك التي خلّفتها الطوائف والجماعات الضيقة. كان فبراير أشبه بعملية تطهير جماعية من كل الأوهام القديمة، لكن الحوثي كان استثناءً، كان يقف في قلب الحدث وهو محصّن ضد تأثيره. لم يتشرب قيم الثورة، لم يخضع لفكرتها الكبرى. ظل عنصرًا منفصلًا، محاطًا بجدرانه الخاصة، كأنه يخشى أن يتسرب النور إلى داخله فيكشف هشاشة مشروعه أمام وهج الفكرة العظيمة.

 

كان فبراير لحظة انصهار، والحوثي كيان غير قابل للذوبان. كل الحركات السياسية، بكل تناقضاتها، وجدت لنفسها مكانًا في ساحة التغيير، إلا الحوثي. لم يكن ذلك لكون الثورة أغلقت أبوابها، بل لأنه لم يملك الجرأة على خلع عباءته القديمة. لم يكن مستعدًا ليكون فردًا بين الأفراد، مواطنًا بين المواطنين، إنسانًا بين البشر. كان يحتاج إلى أن يكون "سيدًا"، يحتاج إلى مسافة تفصله عن البقية، يحتاج إلى فكرة اصطفائية تُبقيه فوق الجميع، حتى وهو يرفع ذات الشعارات معهم.

 

لم يكن ما حدث بعد ذلك مفاجئًا. لقد ألقى الحوثي بكل ثقله على الثورة حتى انكسرت، ثم أجهز عليها كما يجهز الورثة على جثة الميت. لم يكن يسعى لإصلاح الدولة، بل لاستبدالها بنسخة أشد قتامة. لم يكن يريد الحرية، بل كان يسعى لإعادة اختراع الاستبداد على مقاسه الخاص. كان الثوار ينظرون إلى الأمام، نحو مستقبل مفتوح، بينما كان الحوثي ينظر إلى الوراء، نحو ماضٍ مغلق يريد إعادته إلى الحياة.

 

لكن فبراير لم يكن مجرد حدث سياسي، بل كان لحظة وعي، لحظة اكتشاف عميق بأن الشعب أقوى من الطغاة، وأن فكرة الحرية، حين تولد، لا يمكن قتلها بسهولة. الحوثي، كأي مشروع استبدادي، قد ينجح في القمع، قد يفرض سلطته بالقوة، لكنه لن يستطيع إطفاء ذلك الشعاع الذي أضاءته فبراير في قلوب الناس. فقد خرج مارد فبراير من قمقم الجميع، ولن يعود إليه أبدًا. ما عجز النظام السلطوي عن قتله، ستعجز السلالة عن وأده. فبراير لم يكن حلمًا طارئًا، بل كان ولادة جديدة لليمن، ولادة لا يمكن التراجع عنها.

  

أما الآن، فقد صار الحوثي أداة ضد ثوار فبراير، لا يكتفي برفضهم، بل يطاردهم كمن يطارد ذكرى يخشى أن تعود للحياة. أصبح يطارد حتى الكلمات، حتى الألوان، حتى الأغاني التي كانت ذات يوم تنشد لليمن الجديد. لم يعد يواجه خصومًا سياسيين، بل يواجه فكرة فبراير ذاتها، كأنها تهديد شخصي لوجوده.

 

كانت ثورة فبراير بالنسبة له مجرد موجة عابرة، صعد عليها لا ليحملها إلى برّ الأمان، بل ليغرقها حين يحين الوقت. بينما كنا نهتف ضد الحاكم المنتهية ولايته، كان هو يخطط لانتهاك الدولة بأكملها، كان يرفع شعاراته لا ضد الاستبداد، بل ضد خصومه وحدهم، لا من أجل الحرية، بل من أجل استبدال الاستبداد باستبداد آخر أكثر ضيقًا وأكثر ظلامًا. كان فبراير للجميع، أما الحوثي، فلم يكن يرى اليمن إلا ملكية خاصة، مشروعًا عائليًا مقدسًا، لا يحق لغيره حتى أن يحلم به.

 

لقد كان بيننا بجسده، لكنه لم يكن معنا بروحه، لم ينتمِ إلى نشيدنا، ولا إلى دموعنا، ولا إلى خوفنا وأملنا. كان يبث مشروعه الطائفي في ساحة التغيير كما يبث السم في النهر، يتظاهر بالسير معنا بينما كان يشق طريقًا آخر، طريقًا يعيده إلى الماضي الذي كان يحلم باستعادته. وحين حانت لحظة الحقيقة، تنكر لفبراير كما يتنكر الغزاة للمدن التي احتلوها، لم يعد شريكًا في الثورة، بل صار جلادًا لمن تبقى من الثوار، مطاردًا لكل من تجرأ أن يقول: كان لنا حلم، وكان اسمه فبراير.

 

صار الحوثي الآن السجن الذي أرادت فبراير أن تفتحه، القيد الذي أرادت أن تكسره. لم يكتفِ بوأد الحلم، بل صار يجرّم حتى الحنين إليه. صار كل من يحتفي بفبراير في مناطق سيطرته مهددًا بالاختفاء، بالسجن، بالموت البطيء في زنازينه. لم تعد فبراير مجرد ثورة في نظره، بل تهمة، جريمة تستحق العقاب، كأن الحرية هي العدو الأكبر الذي لا يمكن التسامح معه.

 

لم يكن الحوثي يومًا ثائرًا، بل كان متربصًا بثورة فبراير منذ اللحظة الأولى، ينتظر لحظة سقوطها ليكون أول من يطعنها. والآن، بعد أن طعنها، يحاول محو كل أثر لها، لكنه لا يدرك أن الثورات الحقيقية لا تموت، بل تتحول إلى جمر تحت الرماد، تنتظر الريح القادمة. والسؤال الذي يبقى: هل يمكن لمن خان الثورة أن يدّعي يومًا أنه كان جزءًا منها؟ أم أن الخيانة، حين تتجذر، تمحو حتى ذاكرة الادعاء؟