عندما يصطف المُعارِض خلف النظام
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: ساعتين و دقيقة
الإثنين 03 فبراير-شباط 2025 04:39 م
 

من جديد، عاد الحديث مؤخرا عن صفقة القرن، التي ظننا أنه قد أُغلق الحديث عنها بعد مفاوضات وقف إطلاق النار، التي فرضت فيها المقاومة الفلسطينية شروطها على حكومة نتنياهو.

دونالد ترامب الرئيس الأمريكي الذي تسلم السلطة رسميا منذ أيام للمرة الثانية، أعاد الصفقة إلى الواجهة، بدعوته دولتي مصر والأردن للقبول بهجرة سكان غزة إليهما بشكل مؤقت أو دائم، بدعوى أن غزة لم تعد صالحة للحياة في الوقت الراهن، وهو ما اعتُبر استئنافا لجهوده في تنفيذ صفقة القرن، وهو كذلك ما لاقى ترحابا واسعا في أوساط اليمين الإسرائيلي المتشدد. الدعوة كانت لها تداعيات وأصداء واسعة في الأوساط السياسية والإعلامية كافة، وأَضْحت موضع تناول إعلامي واسع النطاق.

وفي هذا المقام أود الحديث عن أحد المواقف الإعلامية المتعلقة بدعوة ترامب، وهو موقف الإعلامي المصري محمد ناصر المعارِض للنظام والمقيم خارج مصر، الذي فاجأ الجميع – وهو المعارض الشرس- بإعلان اصطفافه خلف القيادة المصرية في رفض تهجير سكان قطاع غزة، بدافع حرصه على الأمن القومي المصري، كما صرح.

 

هذا التصريح المفاجئ، أثار موجة من ردود الأفعال التي تدور في فلك اتهامه بالتزلّف للنظام المصري، لتقديم نفسه بصورة جديدة تكفل له الأمان والعودة إلى وطنه، يشترك في هذا الظن الموالون والمعارضون للنظام المصري معا، وبعضهم رأى أنه بداية مراجعة شاملة لجميع آرائه وتوجهاته، والبعض ممن أحسنوا الظن بالرجل قالوا إنه أساء تقدير الموقف، وقليلٌ هم الذين استحسنوا صنيع محمد ناصر، واعتبروه نزاهة وموضوعية وصدقا في موافقة نظام بلده في مسألة تتعلق بمصالح الوطن العليا.

خلافا لرأي الأغلبية في هذا الشأن، أرى أن الإعلامي المصري محمد ناصر، أعاد بموقفه هذا مفهوما للوطنية يكاد يكون مندثرا بفعل الموازين المختلّة وأنماط التقييم المعيبة، التي لا تستند إلى أسس صحيحة، وإنما ترتكز على الأهواء والأيديولوجيات والأجندات. الزوبعة كشفت ثقافتنا العربية التي انحدرت، في عدم تقبّل فكرة النسبية في المواقف، والإلزام بحتميات الكراهية المحضة لكل ما يأتي ممن نعارضه. الخائضون في هذا الشأن يبررون هجومهم بأن المبادئ لا تتجزأ، وبناء عليه ينبغي على المعارض أن ينبذ كل ما يأتي، أو يصدر عن النظام الذي يعارضه، لكن هذا وهم كبير، فالمبادئ تختلف عن المواقف، الأولى تتسم بالثبات، والثانية متغيرة، تحقيق العدالة مبدأ، وكيفية تحقيقها، أو التعبير عنها مواقف قد تختلف من شخص لآخر ومن وقت لآخر، وعلى المنصف أن يعترف ويقر بالمواقف الإيجابية للمخالف، بصرف النظر عن موقفه النفسي منه. هذا هو نهج القرآن في التعامل مع المخالف، حيث شهد لبعض اليهود بأداء الأمانة رغم أنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا بالرسالة المحمدية، ومع ذلك أنصفهم وشهد لمحسنهم بالإحسان، وهو مبدأ العقلاء في التعامل مع مخالفيهم، كما أنه يعبر عن ثقة عالية بالنفس لا تتزعزع بمدح المخالف، وتأييده في ما أحسن فيه. الإعلامي المصري أصّل لفكرة إعلاء مصالح الوطن العليا ووضْعها فوق الخلافات، وهذا هو الرأي السديد، وإلا كانت معارضته لنظام بلده مجرد هوى وأطماع ومآرب، لأنه من المفترض أن يعارض رغبة منه في تحقيق مصالح الوطن، فماذا لو جاء النظام الذي يعارضه بما فيه مصلحة الوطن، هل يؤيده ويتوافق معه لمصلحة الوطن؟ أم يُعرِض ويصمت لأنه فقط معارِض؟

ولا يتحدث أحد ها هنا عن النوايا، فأنا أكتب عن موقف وتصريح معلن من الرجل، ولست هنا بصدد الدفاع عنه، بقدر ما أحرص على تناول هذا المبدأ والأصل الغائب الذي أصّلَه. كما لا يتحدث أحد ها هنا عن النظام المصري بأنه كما قال البعض يعارض صفقة التهجير صوريا طمعا في رفع الثمن على حد قولهم، فالنظام أعلن بشكل رسمي رفضه للتهجير، وأنه لن يشارك في هذا الظلم، وهذا يكفي، أما البحث في النوايا والخضوع لنظرية المؤامرة مع كل ما يأتينا من المخالفين، فليس ذلك نهج المنصفين العقلاء.

غياب هذا المبدأ أو هذا الأصل يجعلنا ننبذ كل مراجعة وكل مصارحة وكل تغيير في المواقف، وهي طامة كبرى، تنم عن تردي ثقافتنا في التعامل مع المخالفين، وكأننا نتعامل مع تماثيل جامدة لا تُعدّل من وضعيتها.

لماذا نقابل كل تغيير في المواقف بالهجوم؟ لماذا لا نتقبل فكرة أن التموضع من المخالف يكون حسب المواقف وليس وفقا لكونه مخالفا؟ ولماذا لا نقول للمحسن الذي ننتقده أحسنت ولو أحسن في واحدة طالما أنه قد أحسن فيها بالفعل؟ تقديم مصلحة الوطن المتفق عليها هو الأساس، وهي الأرضية التي يمكن أن يلتقي عليها الجميع المؤيد والمعارض.

أعلم يقينا أن هذه الكلمات لن ترضي الكثيرين ممن يتعاملون مع الأنظمة التي يعارضونها وفقا للعاطفة، وأنا على أتم الاستعداد لتحمل تبعات ما أقول، طالما أن قلمي يكتب وفقا لما أراه من حق. لكن على المعارض أن يعلم بأنه لو كان قد واتته الشجاعة لأن يقول لنظام بلده أسأت عندما أساء، فإنه يحتاج إلى شجاعة مضاعفة، لكي يقول له أحسنت إذا أحسن، تلك الشجاعة التي تفرضها النظرة إلى المصالح الكلية للوطن، فليعارض متى كانت المعارضة تصب في مصلحة الوطن، وليصطف خلف النظام متى كانت مصلحة الوطن تقتضي ذلك، ولا يعيبه أن يخالف ويُعارض في مسألة أو مسائل ويتفق ويتوافق في أخرى أو أخريات، تلك هي القاعدة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون