غريزة الغزو بين القبيلة القديمة والدولة الحديثة
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 3 ساعات و 32 دقيقة
الخميس 13 فبراير-شباط 2025 08:43 م
 

القبيلة هي مجموعة من العشائر التي انتسبت إلى، أو اخترعت لها جداً واحداً لغرض الحفاظ على وحدتها وتماسكها، واجتمعت حول الماء والمرعى، لتعيش على الرعي والصيد والغزو، مبتكرة لها عُرفاً تعارفت وتواثقت عليه، أو «قانوناً قبلياَ» ينظم جوانب حياتها الداخلية، وعلاقاتها مع القبائل الأخرى، من تجاور وتحالف وخصومة وعداوة، وغيرها من العلاقات.

ومع الزمن تحول «مجتمع القبيلة» إلى «مجتمع الدولة» وتطور العرف إلى قانون، لكن، وحسب مسلمات التطور الطبيعي والبشري الذي بموجبه تمارس المادة والفكر أنواعاً من التحولات، حيث تذوب الأفكار القديمة في الجديدة، وتأخذ المادة أشكالاً مختلفة، حسب مسلمات التطور تلك فإن القبيلة عندما تتحول إلى دولة لا تفقد – نهائياً – سماتها الأساسية التي هي أقرب إلى الغرائز البشرية في طورها الوحشي.

لا ننسى هنا أن معظم الدول والحضارات القديمة والوسيطة أسستها قبائل كانت تبحث عن مصادر القوة في الماء والأرض وطرق التجارة والسلطة والثروة بشكل عام، ينطبق ذلك على الدول التي أسستها القبائل العربية والتركية والمغولية والجرمانية والإسكندنافية وقبائل المايا وغيرها، وهي الدول التي تحولت إلى حضارات ممتدة، لا تنتهي إلى لتدس بذورها في تربة حضارية جديدة.

وعلى هذا فإن الدولة هي القبيلة الكبرى، أو هي الشكل الذي آلت إليه القبيلة التي سادت في مرحلة ما قبل اكتشاف الزراعة، والرحيل إلى ضفاف الأنهار، بدلاً من تتبع مساقط الأمطار للرعي والصيد، ولكن أية دولة، مهما بلغت من مراحل التطور الحضاري، لابد أن يظل داخلها «الجذر القبلي» الكامن وراء مظاهر التمدن والعمران المختلفة. وبما أن القبيلة والدولة هما منظومتان بشريتان، أنشأهما الإنسان، فإنه يظل داخل هذا الإنسان المتحضر «بدوي صغير» هو الأقرب إلى المرحلة الغريزية منه إلى الاحتكام للأعراف والقوانين، وهذا ما يجعل بعض الدول تسلك – أحياناً – سلوكاً قبلياً، بمجرد أن تتاح لها الفرصة، في مخالفة للمسار الطبيعي لتاريخ البشرية، وهو المسار الذي فيه تتحول القبيلة إلى دولة، والدولة إلى حضارة، وتمتد الحضارة في الزمن.

يحدث – إذن – أن تكون هناك ردة في سياسات الدولة، فتعود إلى سلوكيات القبيلة، وذلك حين تتصحر الحياة السياسية، وتزحف سلوكيات الريف على المدن، وتسيطر على الدولة فكرة العصبية العرقية التي هي فكرة قبلية خالصة، حيث تتقدم الأفكار اليمينية المتطرفة، متشحة بالدين «المُعرقن» والتاريخ «المؤسطر» والعرق «المقدس» مثلما أن فكرة العصبية القبلية تعتمد على ضخ التواريخ الطوطمية للأجداد، وعلى المعتقدات التي يقوم على حراستها كهنة القبيلة، وعلى النسب الذي يعد عمود الوحدة والتماسك القبلي.

واليوم نرى كثيراً من الدول تعتمد الأساليب القبلية في علاقاتها الدولية، وهي الأساليب التي تعتمد على الغزو والسلب والنهب والإجلاء، وهي المصطلحات التي لا يغير من طبيعة مفاهيمها كونها اتخذت تسميات أخرى، وتحت مبررات أو مسوغات مختلفة.

 

ألم يكن الاستعمار الأوروبي للشرق العربي ضرباً من غزوات القبائل الإسكندنافية والجرمانية لبعض مناطق أوروبا الوسطى والجنوبية؟ ألا يشبه الاحتلال الإسرائيلي لأراضي الشعب الفلسطيني تلك الغزوات التي كانت تقوم بها القبائل الإسرائيلية البدوية القديمة، ضد الكنعانيين أو ضد بعضها البعض؟

ألا تعد الإبادة الجماعية لسكان غزة بواسطة آلة الحرب الإسرائيلية التي قدمتها لها الدول الغربية، ألا تعد ـ في حقيقتها ـ ضرباً من ضروب غزوات القبائل القديمة، لأراضي ومساكن القبائل الأخرى، وهو الغزو الذي تتم فيه عمليات الحرق والهدم والسلب والنهب والقتل والاستئصال، وغيرها من أعمال سجلتها لنا كتب الملاحم القديمة؟

ألا يتطابق التخطيط لإجلاء سكان غزة منها إلى شتات جديد، ألا يتطابق ذلك مع ما تخبرنا به كتب الملاحم والقصص الشعبي عن أحكام أصدرتها بعض القبائل على قبائل أخرى بالجلاء عن مرعاها، والبحث عن مرعى آخر، في مؤشر على «الجذور الوحشية» لدى الإنسان، وهي الجذور التي جعلت المدافع مكان السيف، في تغير شكلي في الوسائل والأدوات، لا يمس جوهر الإنسان المعاصر الذي أرجعته الآلة المتقدمة إلى عصور الغزو والنهب.

وما الفرق بين القبيلة التي كانت تضع عينها على مرعى قبيلة أخرى فتشن عليها الغارة لتنهب أرضها ومواشيها، وبين الدولة التي تغزو أرضاً وموارد أخرى، تخص شعباً آخر، لغرض السيطرة على وطنه ونهب موارده؟!

الإنسان هو الإنسان في جوهره، سواء كان فرداً في إحدى قبائل الإسكيمو، أو كان محاضراً في هارفارد، هذا الإنسان هو جسد وروح، غريزة وضمير، حيث الروح تروض الجسد، والضمير يوازن الغرائز. الروح تعمل بواسطة الدين والضمير يعمل بمساعدة التمدن، ويظهر توازن الروح والجسد والضمير والغرائز في السلوك، حيث السلوك هو التجلي الحقيقي للعلاقة بين الروح والجسد أو الضمير والغريزة.

وإذا كان الدين – في هدفه الروحي – يهذب غرائز الإنسان، ويقوي روحه، فإن الحضارة ـ في هدفها المدني ـ تهذب سلوك الإنسان، وتحاول الارتقاء به من مرحلة الغابات والبوادي إلى مرحلة المدن. ومع ذلك، وكما يكون هناك «نفاق ديني» يوجد كذلك «نفاق حضاري» حين تختبئ تحت البدلة الأنيقة سيوف الغارات القديمة، ووراء البسمات الدبلوماسية «نيوب الليث» وحين تأتي موجات الغزو الاستعماري تحت شعارات «نشر الديمقراطية» أو يأتي الاحتلال تحت مسمى «التحرير» في حين أن الهدف هو ذاته الهدف الغريزي الذي عاش به الإنسان في بوادي بلاد العرب، قبل الإسلام، ويعيش به الإنسان في ناطحات السحاب في نيويورك، في القرن الحادي والعشرين.

إنها قصة الإنسان الذي اعتنق الأديان، والذي اخترع القوانين والقيم والأعراف والأخلاق، من أجل أن تنقله من طور التوحش الغريزي الذي رافقه أثناء رحلته من الغابات والكهوف والصحارى والبوادي، إلى الأنهار والمنتجعات، إلى أن وصل إلى المدن وناطحات السحاب، وهو الإنسان الذي حول ما وصله من رسالات روحية وقيم أخلاقية إلى وسائل، لا لتهذيب غرائزه، ولكن للتستر عليها، وممارسة تلك الغرائز باسم الأديان والقيم والقوانين