رمضان في مواجهة «تسليع» الإنسان
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 16 ساعة و 29 دقيقة
الخميس 06 مارس - آذار 2025 01:54 ص
 

رمضان والرمضاء مشتقان من الفعل الثلاثي «ر م ض» الذي يحيل على شدة الحرارة، أو الحريق المادي الذي يشعله في الجسد الجوع والعطش، لينبعث بسببه حريق روحي يضيء البصيرة، حسب أهل العرفان الذين ربطوا شفافية الروح برقة الجسد، وارتواءها بعطشه، وامتلاءها بجوعه، وحيث ارتواء الروح يعني تفجر جداول الحكمة، وامتلاؤها يعني مقاومة الطين.

ليس الهدف جوع الجسد وعطشه، بل تقوية مقاومة الروح، إحداث نوع من التوازن بين غذاء الروح وطعام الجسد، وهذه فلسفة لا بد منها لمواجهة طغيان الفلسفة الرأسمالية والثقافة الاستهلاكية.

عندما زار الكاتب اليهودي ليو بولد فايس الذي أسلم وأطلق على نفسه اسم محمد أسد، عندما زار القاهرة، سجل في كتابه «الطريق إلى مكة» بعض الملاحظات، منها ما ذكره في قوله: «خلال هذه الأيام (أيام الصيام) ينبض الناس في شوارع القاهرة بوميض خاص في عيونهم، كما لو كانوا قد رفعوا إلى مرتبة سامية 30 ليلة».

وفي زمن طغيان المادة وفلسفة الاستهلاك المدعومة بأنياب شركات التكنولوجيا الحديثة يصبح الكلام على الروح ضرباً من الأحاديث الهزلية، لأن فلسفة الاستهلاك تريد مجتمعات مدجنة، يمكن توجيهها عن طريق أمعائها إلى الوجهة التي يراد للغرائز أن تتسع لتلتهم ما تبقى من إنسانية الإنسان، ليحصل أغوال المال على مرادهم في اختصار المجتمع في الفرد، واختصار الفرد في الجسد، وتسليع الجسد، من خلال مجموعة من الغرائز التي انتهت بالإنسان إلى تقديس التفاهة، في عالم يلهث وراء البريق الخاطف، و«التفاهة المقدسة».

ولكيلا نقع أسرى للغريزة التي يراد لنا أن نتقولب لإشباعها كان الصوم ضرورة، قبل أن يكون فريضة في معظم الأديان، لكي نتحرر من سطوة الغريزة، حيث يمثل التحرر من سطوتها بداية الطريق لمقاومة هذا الزيف المخيف الذي يلف العالم.

الصيام – إذن – فلسفة مغايرة لفلسفة الاستهلاك الرأسمالية، إنه ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب من الفجر إلى غروب الشمس، بل هو روح مقاومة، تقاوم بها القيمُ الروحية فلسفةَ الاستهلاك الرأسمالي التي تسعى لتحويل الإنسان إلى سوق، الصوم حركة مقاومة لتسليع الإنسان، لحبسه في معدته، لاختصاره في أعضائه الجنسية، إنه محاولة لتحرير الإنسان من سطوة الغريزة، ومن ثم انعتاقه من حبال الرأسمالية التي تلتف حوله بوماً بعد آخر، والتي تحاول خنق أشواق روحه بأمعائه، وهذا هو معنى حديث نبي الإسلام عن أن «الصوم جُنَّة» أو وقاية من سطوة الغرائز والماديات.

 

وبنظرة على تاريخ الأنبياء والفلاسفة والمفكرين والمعلمين الروحانيين نجد أنهم قاوموا مد الغرائز، وسعوا لتقنينها – وليس لإلغائها ـ إذ لا بد للتاريخ من غريزة لكي يتحرك، ولا بد للغريزة من تقنين، لكي تسير حركة التاريخ في مسار صحيح، حيث الغرائز المنفلتة تعني تاريخاً منفلتاً، والبطون الممتلئة تعني نهماً لا حدود له، وحيث التحول من فلسفة رمضان إلى فلسفة الاستهلاك يعني إطلاق العنان للشركات العابرة للحدود، وتجار الحروب وأغوال الفساد، لتدمير حضارة الإنسان، لنصبح في زمن تقول الرأسمالية فيه إنها ستشتري الأوطان، لتحولها إلى منتجعات ومكب غرائز تملأ الجيوب بدماء الناس، وتعمر ناطحات السحاب من عظام البشر، وتقتات على التطهير العرقي والإبادة الجماعية، وامتصاص أرواح وأجساد الشعوب، في فجور لم نشهد له مثيلا.

تصوروا لو كان أقطاب الرأسمالية الذين يحكمون العالم اليوم، لو كانوا يصومون، لو كانوا يشعرون بفقراء العالم، لو كانت لديهم قيم روحية، لو عرفوا معنى القناعة، معنى السعادة المنبعثة من قوة الروح، معنى الامتلاء والري الروحي الذي يأتي من الصوم، لو كان لديهم رهافة الصائمين، هل كنا سنعيش في عالم تمتلك أدنى نسبة من سكانه أعلى نسبة من موارده، وتعيش أعلى نسبة من سكانه على أدنى نسبة من ثرواته؟!

يقول ابن عطاء الله السكندري: «إذا أردت أن تصفو روحك، فاجعل جسدك يحترق، جوعاً وعطشا، فإن الجوع نار تحرق علائق الدنيا» حيث تنفتح الروح على معان لا تتناهى من الحب والعطف والرحمة والشعور بالقرب والتواصل الفكري والعاطفي، وهي المعاني التي تقدحها نار رمضان التي تصقل الروح لتفتحها على عالم الحب، في فلسفة جلال الدين الرومي الذي قال: «كل نار تحرق إلا نار الحب، فإنها تطهر».

هذه الطهارة هي التي كان يمكن أن تمنع تغول الفلسفة الاستهلاكية التي لا تشبع من دماء وعظام ودموع غالبية سكان الكوكب، وهي الفلسفة التي قسمت العالم إلى عالمين: عالم ينتمي إلى نيويورك ولندن وطوكيو، وآخر ينتمي إلى الأحياء الهامشية، ومدن الصفيح التي تعصف بها الاضطرابات العرقية والسياسية الناتجة عن اختلال الموازين الاقتصادية في عالم لا يعرف معنى رمضان، رمضان الحقيقي الذي هو في الأصل شهر الصوم، وليس شهر الأكل والشرب والموائد العامرة.

ثم إن القضية ليست مجرد امتناع عن الأكل والشرب، ولكن قضية لجم هذه الغرائز المنفلتة في العالم، الغرائز التي دمرت الروح الإنسانية، الغرائز التي لو التزمت الشعوب بمواجهتها من خلال فلسفة رمضان لأرغمت الفلسفة الرأسمالية على التواضع أمام قدرة الروح على المواجهة، وهي القدرة التي تجلت حينها في صيام المهاتما غاندي عن «المنتج الرأسمالي» حتى أرغم بريطانيا على الانسحاب من الهند، حفاظاً على ما تبقى لها من مصالح هددتها قيم الروح التي انتصرت على غريزة الاستهلاك المنفلت.

تحدثنا الأدبيات الإسلامية أن نبي الإسلام عليه السلام لم يكن يشبع، وكان يقول في بساطة متناهية، ولكن بفلسفة عميقة «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع» وهي القيمة التي جعلت النبي يصوم عن الدنيا حتى امتلكها، إذ تحدثنا سيرة هذا النبي العظيم أنه في اللحظة التي كان يشد على بطنه بحزامه من شدة الجوع، كان يبشر أصحابه بفتح دول عظيمة في اليمن وفارس والروم.

وعلى الرغم من أنه مرت عليه سنوات رخاء، بعد توسعه دولته، إلا أنه ظل يصوم عن الدنيا، لأنك لكي تملك الدنيا، يتوجب عليك أن تصوم عنها، حيث يكون حظ الكُمَّل الكبار أن يعيشوا مع المعاني العظيمة والقيم النبيلة والمبادئ الخالدة والعقيدة الراسخة، وهي المعاني والقيم والمبادئ والعقيدة التي لا يؤثر فيها الوجود المادي، إذ يتكثف الزمن في اللحظة التاريخية التي يبدو أن المستوى الأعلى (الروحي المجرد) هو الذي يؤثر في المستوى الأدنى (المادي الملموس) على عكس التصورات المادية التي بلورها كارل ماركس في أفكاره عن التفسير المادي للتاريخ.

وهذا هو المستوى الذي غير مجرى التاريخ بالرسالات العظيمة والفلسفات العميقة، والثقافات الخالدة والآداب الثرية، المستوى الذي بلغه محمد عليه السلام، عندما رفض السلطة والثروة، ومضى يحلب الشاة ويخصف النعل ويحمل الحطب ويرعى الغنم، ويعصب على بطنه ثلاثة أحجار، ويناول الفقراء قدح الحليب إلى أن يرتووا، ثم يشرب هو آخر القوم، ويصوم حتى إذا ما حان وقت الإفطار، أكل تمرات معدودات، وقال: «ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله» ثم مضى يصلي صلاة الشكر لله، وهذا ما نحتاجه اليوم: الصوم كوقاية من جشع العالم المادي، والصلاة كنافذة إلى عالم الروح.

كاتب يمني