نحو إعادة هيكلة القطاع غير الربحي في اليمن 2
بقلم/ شوقي عبد الله عبّاد
نشر منذ: ساعتين و 38 دقيقة
الأحد 29 سبتمبر-أيلول 2024 09:46 م
 

تحدثنا في الجزء الأول الحاجة إلى إعادة هيكلة للقطاع غير الربحي في اليمن نظرا أن الناتج من معظم المنظمات التي تنضوي تحت هذا القطاع لم يحقق الحد الأدنى المطلوب، واقترحنا أربعة آليات في هذا الخصوص: (1) العمل على إلغاء بعض المؤسسات من القطاع بشكل رسمي (2) دمج لبعض الجهات غير الربحية المتقاربة في أهدافها وهذا منهج إداري معروف (3) ضبط العلاقة بالمنظمات الدولية لما تلعبه مثل هذه المنظمات في الدول المنكوبة (4) الانفتاح بين المنظمات بمختلف أشكالها والتعاون حيث أن ثمة مشاريع لا يمكن لمؤسسة واحدة أن تنفذها.

إن الأمثلة التي ذكرت سابقا والمتمثلة في الحد من تعاطي الشبو أو من البطالة وكذلك تسهيل تكاليف الزواج إنما كانت على سبيل المثال لا الحصر، ويمكن استبدالها بأمر آخر يؤدي إلى النفع العام، وأركز على أربعة أمور يحتاجها اليمنيون وذلك لأهميتها:

أ) العمل على محو الأمية بين الجنسين، ونسبتها في اليمن مرتفعة جدا، إذا كانت نسبة الأمية بين الذكور في اليمن عام 2009 حوالي 35% و أكثر منها بين الإناث ، فماذا ستكون النسبة هذه الأيام؟ إذا كانت الدول الأخرى أصبح الأمي عندهم من لا يجيد استخدام الحاسب الآلي فإن الأمي في اليمن هو نفس الأمي قبل عشرات السنين، هو من لا يجيد القراءة والكتابة، مثل هذا العمل لا يحتاج كبير دعم مالي، لكنه يحتاج أناس صادقين في تقديم النفع للمجتمع، هل سمعتم عن منظمة دولية أو محلية، سعت في هذا الاتجاه أعني (محو الأمية)؟ يزداد الأمر سوءا مع الإضراب الذي يتبناه المعلمون في المناطق الجنوبية وتحديدا في حضرموت بين فترة وأخرى مما يوقف العملية التعليمية برمّتها، فأصبح ملايين الأطفال في سن التعليم هم خارج مقاعد الدراسة بسبب الاضراب (في الجنوب) وبسبب تجنيدهم في جبهات القتال (في الشمال)! ولو اطلع الواحد على الأنشطة التي تتبناها بعض الجمعيات الخيرية في اليمن، لن يجد مشروعا واحدا يعني بمحو الأمية.

ب) تنبي مشاريع ومبادرات تهتم بأصحاب الاحتياجات الخاصة (المكفوفون، البُكم، التوحد، تخلف عقلي، ... الخ)، ونسبة هذه الفئة في ازدياد ليس في اليمن فقط بل على مستوى العالم.

جـ) المحافظة على البيئة: المشاكل البيئية تزداد مع غياب الدولة ومع عدم وجود جهة تحاسب الجناة، للأسف أصبح اليمنيون يعرفون المخاطر البيئية في بلادهم عن طريق منظمات المجتمع المدني ليست المحلية بل الخارجية، أنظر كيف تقاطر العالم لتفريغ الناقلة (صافر) حتى لا تؤدي إلى كارثة بيئية في البحر لأن الضرر سيصل إلى مناطق وبلدان أخرى، لكن مشاكل البيئة التي تولدها شركات الطاقة في اليمن وخاصة في حضرموت، والتي سممت المياه الجوفية فلم يلتفت لها أحد من أولئك الذين التفتوا إلى (صافر)، و لا يتوقع أن يلتفت لها أحد ما لم يلتفت لها أهل البلد أنفسهم . العجيب في شأن تفريغ الناقلة (صافر)، أنه تم بتعاون الأمم المتحدة مع الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا وحكومة صنعاء غير المعترف بها دوليا، مما يدل على أن التعاون بين الأطراف المتناحرة ممكن إذا أرادوا ذلك أو بالأصح إذا أريد لهم ذلك.

د) العمل على إنشاء مكتبات أو مراكز ثقافية حقيقية، ولا نقصد بها تلك المكتبات التقليدية التي لا تعدو أن تكون طاولات وكراسي وكتب موجودة في رفوف، لأن هذا النوع من المكتبات اندثر أو في طريقه للاندثار لكن المقصود أن المكتبات التي فيها –إضافة إلى الكتب الورقية- الكتب الإلكترونية وأجهزة الحاسب المختلفة وشبكة النت مع اشتراك في مكتبات خارجية تمكّن مرتادي المكتبة من قراءة كتب عن بعد، بالإضافة إلى عقد الفعاليات الثقافية والتربوية التي تتبناها المكتبة. وطالما إن الدولة قد تخلت أو -كادت- عن دورها في هذا الجانب، فلتكن هذه المكتبات أهلية، مدن كثيرة في اليمن لا توجد بها مكتبة واحدة أو مركز ثقافي حقيقي، وهذه إحدى الحقوق لكل مواطن، والسبب عدم وجود سلّم الأولويات لأن الواقع يشهد إن الدولة أو من يمثلها من وزارة أو هيئة أو حتى تجار يصرفون مبالغ طائلة من أجل حفل غنائي قد يتخلله ألعابا شعبية ، كيف يرجى من شعب أن ينهض ونحن لا نوجهه إلى طريق النهضة الصحيح، بل قد نكون بقصد أو بغير قصد نوجهه إلى طريق الجهل والانحراف/ والمرء يتأسف أشد الأسف على ما آلت إليه (دار الحكمة) في صنعاء، تلك المكتبة التي أنشئت في بداية السبعينات الميلادية على نفقة دولة الكويت، والتي كانت في يوم من الأيام خلية نحل من كثرة مرتاديها بسبب الأعداد الكبيرة من الكتب فيها بمختلف مجالات المعرفة، وقد أصبحت اليوم خاوية على عروشها! لقلة مرتاديها بسبب عدم مواكبة التطورات في (شؤون المكتبات)، والخلاصة أن زيادة جرعة الثقافة العامة من المشاريع التي ينبغي ان تنشط فيها منظمات المجتمع المدني.

هناك آليتان، تضافان إلى الآليات الأربع المذكورة في الجزء الأول من هذا المقال، وهما البعد عن الاستبداد المدني والعمل على أتمتة العمل الإداري داخل القطاع غير الربحي.

فإن جهات القطاع غير الربحي في اليمن لم تسلم من داء الدكتاتورية والاستبداد، ويبدو أن العدوى تنتقل من القطاع الحكومي إلى هذا القطاع، وإلا كيف يستطيع الواحد أن يبرر عدم وجود أي تغيير في إدارات مؤسسات هذا القطاع الكثيرة. أكثر هذه المنظمات تطالب الحكومة بالشفافية في الانتخابات إن وجدت، لكنها لا تسأل نفسها أين هي الانتخابات في قاموسها! فضلا عن الشفافية! كيف سيتغير هذا القطاع بما يخدم الشعب ويلبي احتياجاته ويقوم بمهامهم التي جاء من أجلها ورئيس المنظمة هو نفسه منذ إنشاء المنظمة، ونائبه هو نفسه كذلك والأعضاء من باب أولى! لماذا إذن ننزعج عندما لا يُخْرِج الحاكم من الكرسي إلا ملك الموت طالما إننا نحن مثله لا يخرجنا من إدارة المؤسسة والمنظمة إلا ملك الموت! وقل مثل ذلك في نوع فساد آخر وهو (التوريث) فهو الآخر حاضر في قاموس الجهات التابعة للقطاع غير الربحي! وقد شاهدنا –كما يقول أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط- "من كان موصوفاً عند الناس بالديانة والورع، فحين لاح له منصب وتولاَّه، استناب من يلوذ به من أولاده وأقاربه، وإن كان بعض من استنابه صغير السن قليل العلم سيئ الطريقة"، ولا أدري –حقيقة- هل هذا الخبط المتمثل في عدم وجود (مفهوم الشورى) أو (مفهوم الديمقراطية) أو (التبادل السلمي للسلطة) –سمها ما شئت- عدم وجوده داخل أروقة جهات القطاع غير الربحي، هل يعد مخالف لأنظمة (الشؤون الاجتماعية والعمل) وإن الدولة تغض الطرف عن هذا بسبب أوضاع البلد الحالية، وأن الأمر سيكون على خلاف هذا فيما لو انتهت الأزمة اليمينة، أم إن الأمر موافق للأنظمة واللوائح! وسواء كان مخالف أو موافق، فهو وضع غير سوي!

أما موضوع الأتمتة، فالمقصود به الاعتماد الكامل على التقنية الحديثة في سير العمل داخل المؤسسات المدنية، وهذا لا يفيد المؤسسة في الإنجاز السريع وتوفير الجهد والوقت فحسب بل يضبط أي تلعب بالمال العام للمنظمة، وهذا موضوع يحتاج إلى تفصيل حول "التحول الرقمي" وكيف للمنظمات المدنية الاستفادة من هكذا تقنية، تجده في مقال سابق للكاتب . مثل هذا التحول يأخذ المنظمة نحو تطبيق مفهوم "الاستدامة" والتي هي بأمس الحاجة إليه.

ختاما.. فإن إعادة الهيكلة لجميع مؤسسات القطاع غير الربحي أصبحت ضرورة وإلا فسوف تشيخ ثم تموت، إذ يستطيع الأفراد النشيطين أن يقوموا بنفس المهام التي تؤديها هذه المنظمات بوضعها الحالي، إن كانت لا تعدو أن تكون أنشطة تعتمد على تبرعات المحسنين مثل توزيع التمور في شهر رمضان أو توزيع حقائب مدرسية بداية العام الدراسي، أو حتى عقد ندوة سياسية، لكن الذي يُحْدِث فرقا هو الاحترافية في العمل، فوجود 50 هيئة أو جمعية تعمل بمهنية عالية في محافظة واحدة أفضل من وجود مئات المؤسسات والمنظمات التي تعمل بطريقة فوضوية! إن ما سبق هو جزء من الحد الأدنى المطلوب من هذا القطاع، وإلا فإن مهمته أكبر من هذا، إن أدى مهمته كما ينبغي فإنه يستطيع أن يقود حراكا مجتمعيا كبيرا، لأن الدستور يخوله من عمل هكذا حراك، فإن منظمات القطاع غير الربحي في اليمن هي حلقة الوصل بين الدولة والشعب من أجل إيصال صوت كل الناس لاسيما الفئات المغلوب عليها، إيصال صوتهم إلى السلطة للمطالبة بحقوقهم التي كفلها النظام والدستور، هناك مقولة تنسب إلى المحلل البريطاني الشهير روبرت فيسك، يقول فيها: "إن القرار الآن لم تعد تتخذه الحكومات ولا وزارات الخارجية بل النشطاء والمنظمات الأهلية".

كما ينبغي أن يشارك القطاع الخاص فيما سبق من أعمال، لأن القطاع الخاص هو الآخر عليه دور لا يقل عن دور القطاع غير الربحي، فعليه واجبات تجاه المجتمع ينبغي أن يقوم بها، وإن غياب الدولة لا يخوّل للقطاع الخاص أن ينأى بنفسه عن المشاركة المجتمعية الحقيقية، والواقع يشهد إن كثير من أرباب هذا القطاع لم يقدموا أي خدمة تذكر لمجتمعهم، ذلك المجتمع الذي كان له دور في نماء ثرواتهم، أقل هذه المبادرات التي يطمح الناس أن يتبناها القطاع الخاص هو الاهتمام بالبيئة والمتمثل في التشجير، أو مد يد العون فيما يتعلق بالمساعدات الإنسانية في القطاع الصحي الذي أصبح هو الآخر تجاريا، و الإسلام عندما حث أتباعه على عمل الخير، طلب منهم أن يحتسبوا الأجر عند الله حتى يُجعل ما يعملونه في ميزان حسناتهم يوم يلقوا ربهم، (وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم) سورة البقرة 215.