سباعياتٌ في وداع المجدد عبدالمجيد الزنداني
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 5 أشهر و 28 يوماً
الجمعة 03 مايو 2024 10:21 م

لم يعش كغيره من الدعاة والعلماء والمصلحين، بل تفرد بسباعياتٍ فقهيةٍ وإيمانيةٍ وسلطانيةٍ، لا أظنها تتكرر، إلا أن يشاء الله رب العالمين، منها :

١. حياته الباذخة والسلطانية والملكية، التي لم تمنعه يومًا ما أن ينام في خيمة من خيام طلابه، أو يأكل معهم، أو يجالس ويؤانس الفقراء والمعوزين، وبات قلبه ومجلس داره ومائدته مأوىً لكل ذي بأساء أو ضراء، فتجد في مجلسه روح الإسلام الحق العالمُ والعامي، والدبلوماسي والسياسي، والتاجر والحزبي، والاشتراكي والمؤتمري، والسلفي والإخواني والتبليغي، فكان كهفًا لكل من يقصده، من عبادالله.

٢. عيشه المستمر والدائم لكل هموم أمته وشعبه، ولم يكن ينام من الليل إلا قليلاً، وربما ظلّ في مسامرةٍ وحديثٍ ومذاكرةٍ، لهموم أمته ومشكلاتها، إلى ما بعد منتصف الليل، وينصرف الجميع إلى نومهم، وينصرف هو إلى ربه -ولو كان على سفر- واقفًا تالياً قانتًا خاشعًا دامعًا بين يدي ربه، وفي السابعة صباحاً، يكون في درسه وتدريسه، وحينًا آخر على منبر الجمعة، يتفجر علمًا وحكمةً، كغيثٍ نزل على أرضٍ جدباء، وبلا كراريس ولا حتى قصاصة أوراق.

٣. إجادته لعددٍ من العلوم واللغات والمواهب، وحين يتحدث في فنٍ من الفنون يسبق أهل ذلك العلم والمختصون فيه، بسبب اهتدائه دومًا بأنوار الكتاب والسنة وسلف الأمة، كما في علوم الأجنة والبحار والفلك والزراعة والتجارة والتنمية والسياسة والثقافة والإعلام، بل يتحول دومًا أكابر العلماء سواء كانوا كونيين أو شرعيين إلى تلاميذ بين يديه، كالبروفيسور كيث إل مور، العالِم العالمي بعلم الأجنة وإلفرد كورنر، وغيرهم من مشاهير الدنيا.

٤. للشيخ الزنداني عاطفةٌ نادرة وقلب فريدٌ، وذكاءٌ خارقٌ، وبديهةٌ سريعة، قلّ بل ندر أن تجد له مثيلًا أو نظيرًا، رآني مرةً وأنا على بعدٍ منه، في نهاية التسعينيات وقد ازدحم العالم من حوله، من طلاب وأساتذة وإعلاميين، فعرفني وناداني ، قائلاً، محمد تعال تعال، وأخذني على انفراد، في حديث أبوي ماتع، رحمه الله رحمة واسعة، وأذكر مرةً أنه كانت لي معاملةً معقدةً، لدى إحدى الجهات التعليمية، أرهقتني لبضعة أشهر، فعززني بخطابٍ من سطرين، ورفع الله البلاء بتلك السطرين، في أقلّ من يوم واحد.

٥. للشيخ الزنداني إرادة صلبة وقوةٌ خارقة، جعلت الكثير يحار في تلك الروح الصلبة والقوية والنادرة، أتعبت كل من كان معه من الأقران، والدعاة، حتى أنه في بعض أزماته، وقد تكالب عليه الأعداء والخصوم والإحن داخليًا وخارجيًا، وقريبًا وبعيدًا، حتى أن المرء ليقول أما هذه فهي نهاية الرجل أو مهلكته، كتلك العواصف الإعلامية أو السياسية، أو الحزبية والفكرية، ومما لا يدركه الكثير أن السبب في ذلك الثبات والإصرار والثقة، لعلها صلاته التي يفزع إليها عند كل ملمّة، وما أكثر الملمات في حياة الرجل، وأحسب أن سر تلك الدموع التي تنهمر عنه، كلما وقف بين يدي ربه خاشعًا متذللا، فقهه العميق لكلام الله عزوجل، وتلك الدموع هي وراء ذلك الرجل الأسطورة، الذي ظلت تطارده دول وأحزاب وأحلاف، وحاولت اغتياله مرارًا وتكرارًا، ولكنه ينجو، بل ويخرج منتصرًا، دون أن يتنازل أو يتراجع أو ينحدر أو يضعف أو يستكين، وهذه الصلة بالله جعلته يتصدر كل مجلس، ببيانه وخطابه، وتأنس إليه وإلى كلامه القلوب والأفئدة، حتى في أحلك القضايا والمشكلات والأزمات الوطنية،
ولقد كان رحمه الله بعلمه وقلبه كان رافعةً لكل مؤسسة أو ميدان ينزل فيه، وهو ما جعل بعض صحبه، يتعب أو يَكَل، في السير معه.

٦. للشيخ الزنداني رحمه الله، منطقة من جمجمته أشبه بمنطقة المصب، الذي كان يحدّث عنه في محاضراته، وأن لهذا المصب خصائص منها أن الكائنات الحية لا تغادره إلى غيره، كذلك كان الشيخ الزنداني رحمه الله، له منطقة من ذاكرته، مَن دخلها لا يكاد يخرج منها، فإذا أحب شخصًا أو وثق فيه، لا يقدر أحد أن يزعزع هذه القناعة، وقد كنا ربما نحدثه عن بعض الحالات المشكوك فيها، فيقول "هاتوا برهانكم" ولذا ربما أجاد البعض التصنع، وحسن الحبْك والتلبيس، وأولئك هم سبب بعض الأغلاط واللغط، ولكن الله يكفيه شرورهم وكيدهم، بقدرته، عزوجل، ثم بإخلاصه. وكما قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين).

٧. تميزه رحمه الله رحمة واسعة بحياديته وسلامة وِجهته، فلم يكن مطلقًا يتعامل مع أحد، من منطلق حزبي، بل كان يبغض الحزبية، وإذا ذكرت له تمعر وجهة وغضب جدًا، لما للحزبية من خطايا وخطيئات من الفرقة والشتات، مع عضويته للهيئة العليا للإصلاح، إلا أنه كان -رحمه الله- لا يتعامل مع الناس من منطلق حزبي، بل من منطلق إيماني، وقد قال له مرة علي عبدالله صالح، كما نقل هو ذلك في غير ما مرة، " كل الناس حزبيون إلا أنا وأنت والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر" .
رحم الله الجميع، وتغمدهم بواسع رحمته ومغفرته، وليهنك شيخنا الجليل هذه النهاية المجيدة وهذا العرس التاريخي المهيب، وألحقنا بك غير فاتنين ولا مفتونين.
وكما قال الإمام الشافعي، يرحمه الله:
قد مات قومٌ وما ماتت فضائلهم.
وعاش قوم وهم في الناس أموات.

كتبه ا.م.د / محمد معافى المهدلي.
أستاذ الفقه المقارن المشارك.