حزب حركة السفهاء
بقلم/ سليم عزوز
نشر منذ: 6 سنوات و 4 أشهر و 6 أيام
الثلاثاء 26 يونيو-حزيران 2018 07:33 م
 

لم تكن الدبة التي قتلت صاحبها تود إيقاع الضرر به، فقد كانت مخلصة في الدفاع عنه. فبدلاً من أن تهش ذبابة حطت على وجهه، ألقت عليها حجراً، ليلفظ صاحبنا أنفاسه الأخيرة في التو واللحظة. ومثلت "الدبة" بما فعلت، مثلاً لمن في حكمها!

وبقيام رئيسة الإذاعة المصرية نادية مبروك (62 عاماً) بوقف مذيع صلاة الفجر "حمدي عبد المجيد" وإحالته للتحقيق القانوني، أساءت إلى أهل الحكم الذي منّوا عليها مرتين، الأولى بتعيينها رئيسة للإذاعة، والثانية بالمد لها في موقعها لعام آخر في نيسان/ أبريل الماضي، وما أظنها إلا مخلصة إخلاص "الدبة" سالفة الذكر لصاحبها، بغض النظر عن النهاية الأليمة!

فإذا كان صاحب "الدبة" لقي مصرعه في الحال، فإن "صاحب نادية" وقف العالم كله على أنه يدرك في قرارة نفسه، ما يدركه من حوله أنه المقصود بمنجاة المذيع لربه: "اللهم عليك بالظالمين، وإذا كنا أيدينا ظالماً في هذه الدنيا فإنا نبرأ اليك من هذا، ربنا لا تولي علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا"!

لم أستمع للدعاء، بيد أني قرأته مكتوباً بعد قرار الإحالة للشؤون القانونية باتحاد الإذاعة والتلفزيون. فمنذ أيام الشيخ أحمد فرحات، إمام مسجد الحسين، لا أظنني صرت حريصاً على سماع صلاة الفجر في الإذاعة. وقد كان الشيخ رحمه الله علامة من علامات شهر رمضان، ففي هذا الشهر، كانت الإذاعة المصرية تنقل صلاة الفجر من المسجد الحسيني، وكان صوت الشيخ مميزاً، يذكرنا برمضان، قبل أن تنقل الإذاعة صلاة الفجر يومياً. ولم يعد النقل قاصراً على مسجد الحسين، فأصبحت تنقله من مساجد أخرى، كمسجد السيدة زينب. وحدث هذا في حياة الشيخ فرحات، الذي صار صوته أهم ما يميز صلاة الفجر، وأتذكر أنه في غيابه كان الإمام هو الشيخ "نجدي صالح"، ولم يكن يملك جمال صوته أو عزوبته، رحم الله الجميع!

"نادية مبروك" بما فعلت ذكرتني بواقعة مشابهة ارتبطت عندي بذكرى حزينة، كما روى لي أحد الأئمة في جولاتي الانتخابية التي سقطت فيها بإرادة الجماهير (وهذا هو المحزن وليس الراوية نفسها!).. الشيخ كان خطيباً تقليدياً بوزارة الأوقاف، وخطبته لا تخرج خارج إطار الموعظة الدينية، ولا يتعدى ذلك إلى السياسة أو ما يمت لها بصلة، وكانت مفاجأة له بعد أكثر من ثلاثين عاماً من عمله في الدعوة أن يتلقى استدعاء من أمن الدولة، وعند مثوله أمام الضابط فوجئ بما لم يكن على البال أو على الخاطر، فقد واجهه الضابط بتقرير يشير إلى أنه لوحظ بأنه يكثر من الدعاء على الظالمين، وما أدهش الرجل أنه لم يدع سوى بالأدعية المتوارثة والمحفوظة، التي يرددها الخطباء ربما بدون إدراك، فيأمن خلفهم المصلون ربما دون أن يعقلوا الدعاء أو يفكروا فيه، فالأمر أقرب إلى "الروتين"!

سأل الضابط الشيخ: إن كان يقصد بالظالمين من يحكمون مصر؟ وانزعج الشيخ وهو ينفي عن نفسه تهمة كارثية، وقال: مستحيل وهل ولاة أمورنا من الظالمين؟.. لينظر إليه الضابط بريبة، وقد ظن أنه بهذا النفي يسخر منه: فاذا لم يكونوا هم الظالمين، فمن يكونوا يا ترى؟!

استمعت والوفد المرافق لي إلى الحكاية وضحكنا، ونسيتها حتى ذكرتنا بها الأخت "مبروك"، وهي توقف مذيع الفجر عن العمل وتحيله للتحقيق لأنه دعا على الظالمين، وابتهل إلى الله ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وكأن القوم صار لهم حزب وحركة، تنتمي إليها رئيسة الإذاعة، أو تعبتر نفسها مكلفة من قبل قياداته وأعضائه بالحفاظ على قيم الحزب، وعدم النيل منه!

 

   عندما سألت زملاءه عنه، قالوا إنه مثل كثيرون تقربوا للنظام الإخواني، ثم انحاز للانقلاب العسكري، وبالغ في تأييده، وقالوا إن صفحته على "فيسبوك" تشهد بهذا الولاء

ليس عندي دفاع عن المذيع المذكور، فلم يكن لي سابق معرفة به، وأعتقد أنه مدين بالفضل لرئيسة الإذاعة لأنها عرفت الناس بوجوده على الخريطة الاعلامية، فلم ينل الشهرة بعد سنوات من عمله في الإذاعة، والآن بات كثيرون يعرفون اسمه، ويحاولون التعرف عليه في مجالسهم الخاصة!

عندما سألت زملاءه عنه، قالوا إنه مثل كثيرون تقربوا للنظام الإخواني، ثم انحاز للانقلاب العسكري، وبالغ في تأييده، وقالوا إن صفحته على "فيسبوك" تشهد بهذا الولاء. ثم إنه لم يأت أمراً غير مألوف بهذا الدعاء المتوارث عن الظالمين والبراءة من السفهاء، فما الذي جعل النظام ومندوبيه في الأمصار صدرهم ضيقاً حرجاً، إلى حد أنهم يحسبون كل صيحة عليهم؟ أم أنه عدم التوفيق الإلهي الذي دفع رئيسة الإذاعة إلى هذا الإجراء، فيصبح اعترافا ضمنياً منها ومنهم أنهم المعنيون بهذا الدعاء، فتصرفت كما تصرف رئيس الإذاعة في السابق، عندما وصف أحد المذيعين الرئيس السادات بـ"الرئيس المدمن"؟!

الحكاية رواها لنا صديقنا الراحل الإذاعي "رجب حسن"، الذي كان يعمل قارئ نشرة بشبكة البرنامج العام عندما وقعت الواقعة!

كان السادات قد اتخذ لنفسه لقب "الرئيس المؤمن"، حيث لا ينطق اسمه في الإعلام إلا مسبوقا به. "الرئيس المؤمن قرر"، "الرئيس المؤمن نام"، "الرئيس المؤمن قام"!

   ربما لم يكن السادات متسامحاً إلى هذه الدرجة، لكنه تصرف بعقلية فلاح، فقد لا ينتبه المستمعون لهذه القراءة، وقد يتشكك بعضهم، فالتحقيق الرسمي في الأمر واتخاذ اجراء قانوني ضد المذيع من شأنه أن يؤكد شكوكهم

وقرأ "رجب حسن" النشرة كالعادة، لكنه في هذه المرة لم يكد ينتهي منها حتى فوجئ برئيس الإذاعة "محمود سلطان" فوق رأسه؛ وهو يطلب منه أن يعيد القراءة بعيداً عن الهواء: "قام الرئيس المؤمن"، صاح اقرأ من جديد: "قام الرئيس المؤمن".. إذن المذيع ليس عامداً ومتعمداً، فطلب من مساعديه أن يأتوه بالشريط، ليعيد سماعه وقد سمعها: "قام الرئيس المدمن"، وأراد "سلطان" أن يخلي مسؤوليته، فأخذ الشريط وطار إلى الرئاسة، وروى للسادات ما جرى، والذي طلب أن يستمع إلى النشرة بفعله، فلما سمع اسمه مسبوقا بالرئيس المدمن راح في الضحك، وقد أخذ الرئيس الموقف ببساطة وعلق: "يبدو أن المذيع أخذ حجر كبس على مراوحه"، يقصد "حجر تبغ مخلوط بالحشيش"!

ربما لم يكن السادات متسامحاً إلى هذه الدرجة، لكنه تصرف بعقلية فلاح، فقد لا ينتبه المستمعون لهذه القراءة، وقد يتشكك بعضهم، فالتحقيق الرسمي في الأمر واتخاذ اجراء قانوني ضد المذيع من شأنه أن يؤكد شكوكهم، ومن لم يكن قد سمع النطق سيعرف الحكاية ليصبح اللقب كما ذكره المذيع شائعاً بين الناس ولدى شعب ساخر بطبعه!

وكذلك فعل عبد الناصر عندما منعت الرقابة عرض فيلم "شئ من الخوف"، باعتبار أن "عتريس" يرمز إلى عبد الناصر، وأن "فؤادة" هى مصر، ويصح فيه هتاف "زواج عتريس من فؤادة باطل"!

 

   في اعتقادي أن عبد الناصر لم يكن متسامحا أيضاً، لكن منع الفيلم بعد عرضه، سيجعل من لا يعرف بما جرى سيعرف، ويصبح في يقين الناس أن عبد الناصر هو عتريس، حتى وإن لم يشاهدوا الفيلم!

 

اهتمام عبد الناصر بالأمر دفعه لمشاهدة الفيلم بنفسه ولم يوكل هذه المهمة لأحد، لكنه بعد ذلك أمر بالأفراج عنه ونقل عنه قوله لو كنا هكذا لكان من الواجب قتلنا حرقاً!

 

في اعتقادي أن عبد الناصر لم يكن متسامحا أيضاً، لكن منع الفيلم بعد عرضه، سيجعل من لا يعرف بما جرى سيعرف، ويصبح في يقين الناس أن عبد الناصر هو عتريس، حتى وإن لم يشاهدوا الفيلم!

وهذا سلوك أناس لديهم الحد الأدنى من الرشادة الذهنية، لكن الإجراء الذي اتخذته رئيسة الإذاعة، ومن المؤكد أنها رفعت الأمر لجهات أمنية وغيرها فوافقوها عليه، يؤكد أننا أمام افتقاد للرشد والتقدير، فاعترف القوم على أنفسهم أنهم ظالمون، وسفهاء، والاعتراف سيد الأدلة!

صباح الخير أيها السفهاء!

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "عربي21"