فعلها الشيخ الزنداني
بقلم/ صحفي/عبدالله السالمي
نشر منذ: 13 سنة و 7 أشهر و 29 يوماً
الجمعة 11 مارس - آذار 2011 05:07 م

  بدا الحرص واضحا، إن في تونس أو مصر كتجربتين ناجزتين، على استبعاد فكرة "الدولة الدينية" من الهيمنة نظريا على اشتغال شباب التغيير، ومن لحق بهم على درب الثورة من قوى وفعاليات سياسية ومدنية وحتى دينية، ومن ثم عملياً بالنظر إلى أجندة ما بعد رحيل "بن علي" و"مبارك" التي تكشّف بعضها عن تجليات مطمئنة بكون الدولة المدنية هي الغاية والمراد لدى المحسوبين على تيارات "الإسلام السياسي"، أما ما عداهم فمن دون ريب ..

  ومع أنها على شيء من المفارقة تلك الصورة التي تنطوي على فاعلية شباب التغيير بآليات الحداثة في صنع الثورة وريادتها، وفي الوقت نفسه تجلّي المشهد في الإطار العام عن ما يمكن تسميته بالحنين إلى مباركة القوى التقليدية الدينية منها والسياسية، إلا أن غلبة المكون الديني في الشارع العربي ربما تبرر حاجة صناع التغيير، لاسيما وهم من الشباب، إلى مؤيدين لهم، يجيدون استدعاء ما يستنهض الهمم ويقوي العزائم دينياً على وجه الخصوص .

  هكذا جاء الدور الذي لعبه على سبيل المثال الشيخ يوسف القرضاوي بتكثيف متعمد، وبدرجات متفاوتة علماء دين آخرون.. بيد أن الوعي السياسي بلغة الخطاب المعاصر، حتى في السياسة الشرعية، لدى هؤلاء جنّبهم الوقوع في فخ إشهار، مجرد إشهار، الحلم بدولة دينية تحت أي مسمى كانت، وذلك لما قد يترتب على هذا النوع من التفكير بصوت مسموع استعادة مخاوف ما تفنن في إذكائها نظاما تونس ومصر والسائرون على دربهما من أن رحيلهم يؤذن باستطالة الأصولية الدينية حدّ استحواذها على الحكم بالكلية، ومن ثم إقامة ما تنشده من دولة دينية ينوب فيها "رجال الله" عنه في الحكم باسمه على طريقتهم !!

عابرٌ من غير عابر

  في اليمن لم يكن الشيخ عبدالمجيد الزنداني على حصافة الدكتور القرضاوي، أو راشد الغنوشي، أو المتحدث باسم جماعة الإخوان المسلمين في مصر، في الحد أو امتصاص أو تقليل المخاوف من أن "جماعات الاسلام السياسي" تسعى إلى تأكيد فكرة الدولة الدينية مطلبا وحلما تشد الرحال إليه ..

  ولربما أمكن أن يُفهم تبشيره معتصمي ساحة التغيير أمام جامعة صنعاء بـ "الخلافة الإسلامية" القادمة كما لو كان كلاما عابرا أفرزته نشوة التخاطب إلى جمع مهيب، لولا أنه ساق له من الاستدلالات غربا وشرقا ما يقطع بتبييت النية مع سبق الإصرار والترصد .

  مقدمات "الخلافة الإسلامية" التي عناها الشيخ الزنداني ليست في أغلبها - ويستحسن حتى اللحظة الاكتفاء في الاستشهاد بثورتي مصر وتونس لاعتبار سيق سابقا – سوى تحركات شباب استبد بهم الشوق إلى العدل والحرية والكرامة والمساواة، فلم يجدوا في سبيل بلوغ مراتبها الأولى، أو مقدماتها، سوى خيار الشارع طلبا لإزاحة أرباب الظلم والكبت والقهر والإذلال لشعوبهم ..

  لم تكن أية أطر ايديولوجية وراء هؤلاء في رحلة البحث عن العدل والحرية والمساواة والكرامة، ذلك أن هذه المطالب في الأساس تطلعات الفطرة الصادقة التي جُبل عليها الانسان مهما كان دينه أو مذهبه أو لونه أو عرقه أو لغته.. فـ أليس من الظلم أن يأتي أحد رجال الدين ويجيّر التطلعات العفوية لكل أولئك لصالح حلم يعتور أذهان نفر من المسكونين بهاجس الدولة الدينية أو الخلافة الإسلامية؟ !

  لقد تحوب الشيخ الزنداني واسعا وتحجر كثيرا حين أسقط تطلعاته وما يحلم به على جهد شباب التغيير، إذ ليس من الإنصاف في شيء بعد أن يستنفد الثوار جهدهم ومنهم من ضحى بنفسه في سبيل إسقاط أنظمة القمع والجور والاستبداد، أن ينز من بين المتفرجين أحدهم ليقول لسان حاله والمقال لم يكن ما قدّم هؤلاء من أعمال جبارة وتضحيات عظيمة إلا مقدمات لتحقيق حلم يعشعش في ذهني أنا وما فتئت أتمناه وأتطلع إليه ..

هاجسك.. لا هاجسهم

  لا يا شيخنا الفاضل.. فـ "الخلافة الاسلامية" حلمك أنت.. أما أولئك والغالبية العظمى من هؤلاء على امتداد ساحات التغيير والحرية في كبريات المدن وسواها في اليمن ليس لهم من حلم إلا العدل والحرية والكرامة والمساواة في دولة مدنية يكون فيها حملة لقب "الشيخ" من الفئتين "ق/قبيلة" و "ف/فقه" وكذلك مسميات العسكر باختلاف رتبهم، والمسئولون بمستوياتهم أمام الدستور والقانون سواء بسواء مع بقية فئات الشعب، لهم ما للناس وعليهم ما عليهم .

  أزعم أن هذا هو حلم البسطاء وغالبية شباب التغيير في عرض البلاد وطولها، وأن لا هاجس لهم إلا هو.. أما "دولة الخلافة الاسلامية" فلم تكن تخطر لهم على بال، بل وحتى مع استدعائها من قبل الشيخ الزنداني فإنها لديهم لم تكن أكثر من حديث عابر، من قبل رجل دين على حضوره في الساحة اليمنية، دينيا وسياسيا، إلا أن أخذ ما يقوله على عواهنه لم يعد مستساغا حتى لدى العديد من منتسبي حزبه في التجمع اليمني للإصلاح، وأبرز دليل أن إعلام الحزب تجاهل مقولته تلك بخصوص الخلافة الاسلامية بشكل لا تخطئه عين .

  لا شك أن من حق الشيخ الزنداني ومن يشاركونه ذات الرؤية من رجال الدين وعلماء الشريعة أن يتطلعوا إلى "دولة الخلافة الإسلامية" لكن بطريقة لا تظهرهم انتهازيين يركبون الموجة ويقصدون تحقيق غاياتهم على أكتاف الآخرين وجهودهم وتضحياتهم.. بمعنى أن ما يعتمل في ساحات التغيير هو حراك شباب يتطلع إلى دولة تلبي طموح الشباب، ومطلب الغالبية من أناس هذا الوطن.. أما مطلب "الدولة الدينية" فهو مزاج خاص يقتصر على نخبة من رجال الدين، وطالما وهو يقتصر عليهم فتحقيقه منوط بهم ولهم ومن ثم يسري عليهم وحدهم ما يسفر عنه ما داموا ليسوا أغلبية، أي أن عليهم صنع مقدمات تحقيقه ومن ثم جني ثمرة ما كسبت أيديهم، لا القفز على كسب الآخرين واغتصابه، ولو نظريا حتى اللحظة ..

ليس بدعاً من النخب

  صحيح أن الشيخ الزنداني بارك مسلك المعتصمين المطالبين بإسقاط النظام سلميا، غير أن المشكلة تكمن في تصوره للنتائج التي يجب أن تفضي إليها تحركاتهم، فالشيخ ليس بدعا من النخب، سواء كانت دينية أو سياسية أو حتى ثقافية، التي لم تستطع، ولن تستطيع، الفكاك من تصور أن الشباب، فضلا عن السواد الأعظم من المجتمع، بمثابة قطيع لا يمكنه التفكير في ما يريد واتخاذ ما يلزم لتنظيم صفوفه وإدارة شئون حياته ، وإنما يلزمه بالضرورة الرجوع للنخب في بروجها العاجية لتفكر له وتضع خطط سيره وطرق تصريفه لشئونه في المطلق، تماما كمريض يمضي في تناول دوائه وفق "روشته" كتبها له الطبيب .

  وإذا كان الشيخ الزنداني سبّاقا في إسقاط الصورة الذهنية لديه لما يتوجب أن يكون عليه شكل الدولة التي ينشدها شباب التغيير، ليس على سبيل طرحها للتداول والنقاش وإنما الإخبار الحتمي بكينونتها مستقبلا، فإن نخبا أخرى، دينية وقبلية وسياسية، لها أحلام تتفق مع حلم الزنداني في كونها تصورات طوباوية لنخب متخشبة، وتختلف في ما عدا ذلك قلبا وقالبا.. ومن هنا يأتي مصدر التوجس خيفة مما كان الشيخ الأول في إظهاره والإفصاح عنه .

  وبخصوص دولة "الخلافة الإسلامية" والحديث عن أن تطلعات الشباب إلى التغيير، والكلام عن اليمن، بمثابة مقدمات لها فلا يمكن التشكيك في أن لهكذا زعم مردودات سلبية، قلّت أم كثُرت، على سيرورة الاعتصامات السلمية تجاه تحقيق غايتها، وسواء أدرك الشيخ الزنداني أو لم يدرك فإنه بأحاديثه تلك يذكي مخاوف كثيرين في الداخل، فضلا عن الخارج، من هيمنة الديني على المدني في سياق مسارات التغيير الذي ينشده الغالبية هنا، فكيف بالنتائج وتبعاتها .

  وبقصر المخاوف على الداخل مهما كان حجم الذين طرأت، أو يمكن أن تطرأ عليهم أو يمكن أن تتفاقم لديهم، فلا أحد يملك حق تسفيههم، أو اعتبار ما هم عليه أو قد يكونوا عليه، من مخاوف أن يساقوا إلى دولة دينية، حالة مرضية ليس لها ما يدعمهما في الواقع.. فالشيخ الزنداني ليس عابرا في كلام عابر بالنسبة لنخبة تشاطره ذات الحلم على الأقل.. مجرد تنبيه من كاتب شاب يحسب نفسه واحدا من عامة الشباب الحالمين بدولة مدنية تنسيه ما مضى من موبقات دولة العسكر ومشايخ الفئتين: القبيلة وفقه العقوبات .

Assalmi2007@hotmail.com