هل «الله مع الصابرين» أم مع «صاحب المدفع الأكبر»؟
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: شهرين و 8 أيام
الخميس 05 سبتمبر-أيلول 2024 06:40 م
 

كان قدر جيلنا أن يأتي إلى الحياة في قاع الزمن. للزمن مسارات مدهشة، هو كالشمس، يصعد إلى أن يستوي على قمة العالم، ثم يهبط إلى أن يصل إلى القاع، ثم يتصاعد مرة أخرى، وهكذا، إلى أن يصل إلى منتهاه، يوم يطوي الله الزمان والمكان.

أما عن جيلنا فقد جاء في منحنى الزمن الأصعب، نحن جئنا في لحظة القاع، أو في لحظة الزمن التي وصل فيها القاع، لحظة فيها الكثير مما في القاع من أتربة وغبار وروائح وإحباطات وهزيمة.

وبفعل هذا القاع الذي وُجدنا فيه، حاول بعض هذا الجيل الصعود، حاولوا البحث عن طريقة معينة لـ«استدارة الزمن» كنت أقرأ حديثاً نبوياً يقول إن «الزمان استدار» ولم أكن حينها أعرف معنى الحديث، معنى أن يستدير الزمن، أن يلتفت أن يصعد أن يأخذنا معه إلى رأس العالم، لكنني الآن أدرك حركة الزمن، أعرف جبروت هذا المخلوق الذي يستطيع الوصول إلى القمة، ثم يعود إلى القاع.

وفي إطار محاولاتنا البحث عن المخرج، البحث عن المعنى ضل الكثيرون الطريق. ذهب الكثير إلى الثورة على الموروث، الخروج على الدين، التمرد على الإله، على الأسرة، على التقاليد، على كل ما ظننا أنه هو ما أوصل إلى هذا القاع، وظن هؤلاء أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بها الخروج من هذه الشرنقة، من هذا التابوت، من هذا القاع الذي وصلنا إليه.

شيء ما ينقصنا، نبحث عنه منذ غروب شمسنا ذات مساء بعيد، وهذا الشيء جعلنا دائمي القلق والغضب والإحباط واليأس، دائمي البحث عنا، عن المعنى الذي ضاع في غبار كثيف من الخطابات والمقولات والأفكار والفلسفات التي لم توصلنا إلا إلى مزيد من القاع الزمني الذي وصلنا إليه، وظللنا نتخبط «كالذي يتخبطه الشيطان من المس» على حد وصف القرآن الكريم.

ولأننا في القاع نقلق، ونصاب بالإحباط، ثم نقوم ونحاول الخروج من هذا القاع، منا من يرى الخروج عبر التمرد على الحاكم، ومنا من يراه أبعد من ذلك بالخروج على الإله، والسير في طريق فيلسوف ألمانيا فريدريك نيتشه الذي قتل الإله، والبحث عن القوة بعيداً عن الخضوع للإله، الذي حدث نابليون أنه «مع صاحب المدفع الأكبر» ومنا من يرى بداية الطريف في الخروج على «العقل العربي» سياسياً وثقافياً، والخروج على ميراث القبيلة، وتقاليد عبس وذبيان، وبكر وتغلب، وعقلية قريش، وصراعات الهاشميين والأمويين، والسنة والشيعة، ومنا من يرى الخروج من هذا التابوت بالبحث عن الذات، عن المعنى، معنى وجودنا، معنى حياتنا، معنى أن نكون.

فريق آخر ذهب بعيداً بنفسه عن كل ذلك، وسلم لقدره، ورضي بالقاع قدراً، ورأى أهمية ألا يبدد طاقته في محاولات يائسة للخروج من القاع، وحاول التعايش مع الألم بتناول بعض المهدئات التي تطورت إلى تعاطي الأفيون والكبتاغون وأنواع المخدرات الروحية والفكرية التي تعينه على تحمل الواقع الذي يعود ثقيلاً كثيفاً إلى روحه وفكره وقلبه وشعوره وضميره بعد أن يذهب مفعول «الكيف» اللعين.

كنا في حاجة إلى حدث جلل، إلى شغف جديد، إلى نوافذ أخرى نحو الأفق، غير هذه الثقوب السوداء المفتوحة على أعماق الظلمات التي تعيش فيها أجيال تقتات الوهم، وتعيش حالة من الإدمان على هذا الوجع الكبير الذي عاشه أجدادنا في 1948، وعاشه آباؤنا في 1967 وعشناه بجرعات قاتلة في 1982 و1990 و2003 و2006 و2011 وما بعدها من جرعات أثقلت ضمائرنا وأرواحنا، دون أن نتمكن من الخروج من تبعاتها.

 

إنه طريق آلام طويل أشبه بالطريق الجبلي الدامي الذي يدحرج فيه سيزيف صخرته نحو القمة، فإذا ما اقترب منها تفلت الصخرة من بين يديه إلى القاع، ثم يهبط لأخذها مرة أخرى، ثم يعاود الصعود، لتعاود الصخرة الإفلات ويعاود هو الهبوط، في طريق آلام لا تبدو له نهاية.

وجاء يوم السابع من أكتوبر، ليشكل محاولة أخرى للخروج من الشرنقة، الخروج من تابوتات سياسية وثقافية وحضارية وروحية وفكرية ومادية لا حصر لها، مجموعة من الشباب ضاق بهم الحال وراء جدران «السجن الكبير» الذي ظلوا فيه سنوات طويلة، ومع طول فترة السجن تعلموا الصبر والسكينة والهدوء، ومع السجن صنعوا أدوات هدم الجدار ومهاجمة السجان.

كان الذين خارج السجن منا يعيشون في قاع الزمن، أما الذين كانوا داخل سجن غزة فيبدو أنهم تربعوا على قمة الزمن، ونظروا إلى الأبهاء البعيدة من رأس العالم، وانطلقوا مغامرين بأرواحهم في سبيل خروجنا نحن من القاع السحيق، قبل أن يكون خروجهم هم من السجن الكبير، كان الفارق كبيراً بينهم وبين الذين رددوا مع نابليون أن «الله مع صاحب المدفع الكبير» لأننا سمعناهم يرددون آية من القرآن تقول «إن الله مع الصابرين».

إنها بداية الطريق في البحث عن المعنى، التحول من قول نابليون: «إن الله مع صاحب المدفع الكبير» إلى قول الله «إن الله مع الصابرين». لم يكن نابليون نبياً حتى يمتلك الحق في الحديث عن الله، وحدهم الأنبياء يملكون هذا الحق، لأنهم هم المخولون بالإخبار عمن يكون الله معهم، ومن لا يكون معهم، ولو كان نابليون نبياً لما قال تلك العبارة الحقيرة، ولو كان صادقاً فيها لما رأيناه ينهزم ويموت ذليلاً، رغم كل المدافع الكبيرة التي كان يمتلكها.

أكبر خساراتنا على الإطلاق خلال الحقب المتأخرة هي ضياع المعنى، عندما يضيع المعنى في نفوسنا فإننا لن نجده في كل اللغات التي نحاول أن نفتش في قواميسها عن معنانا المفقود، ضياع المعنى هو ضياع التاريخ والحاضر، ضياع الوطن والمأوى، ضياع الثقافة والهوية، ضياع القيم والدين، ولذا ليس غريباً أن نجد كثيرين من أهل «السجن الكبير» يطلون علينا بوجوه راضية، رغم أن إسرائيل صبت على أهل السجن أهوال يوم القيامة.

ربما يرجع ثبات هؤلاء في سجنهم – رغم تلك الأهوال ـ إلى أنهم متدينون يؤمنون بأهوال يوم القيامة، وعاشوا على الخشية من تلك الأهوال، ونمت في نفوسهم ملكة مواجهة أهوال الهولوكوست الإسرائيلي ضدهم، طمعاً في النجاة من أهوال يوم القيامة.

هؤلاء القابضون على الجمر، على الدين، على الوطن، على القيم، هؤلاء الذين يتحدثون لغة غير لغتنا، ويقولون كلاماً لا نقرأه إلا في كتب التاريخ، ويفكرون بطريقة مدهشة تصدم أجيالنا التي هبطت مع الزمن إلى هذا القاع السحيق من المهانة والذهول والذل والتشتت والحيرة والإدمان.

وقد أسقطوا بالفعل مقولات وفلسفات وأفكاراً وفرضيات كثيرة وكبيرة، ليس أقلها «الله مع صاحب المدفع الكبير» بل أسقطوا فكرة المدفع «الذي لا يهزم» والمدفع «الأكثر أخلاقية في العالم» وأسقطوا فكرة «الإرهاب الإسلامي» و«المقاومة العبثية» و«الشرق الأوسط الجديد» وأسقطوا كذبة الحلول السلمية والتفاوضية، ووهم «التعايش مع العدو» وأعادوا الاعتبار للمقاومة والعروبة والإسلام، وأعادوا تعريف الإرهاب، وانتصروا للدلالات الحقيقية للكلمات، بعيداً عن تزوير اللغة وبهارج الكلام، وأسقطوا أقنعة النفاق عن وجه هذا العالم، وضربوا الإعلام العالمي، أو «الأعور الدجال» في عينه، وأسقطوا – وذلك هو المهم – الكثيرين من أولئك الذين يعيشون في قاع الزمن، في قاع العالم، ممن يقتاتون على أنواع من الأفيون الفكري والروحي الذي يحاولون من خلاله التربع على قمة الشهوة، في حين ينزلقون معه إلى أسفل السافلين.

و«لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم».

صدق الله العظيم