مذكرات الشيخ عبد الله الأحمر: الشباب والمسؤولية والاعتقال حتي نشوب الثورة (2 ـ 10)

الأحد 11 نوفمبر-تشرين الثاني 2007 الساعة 06 صباحاً / مأرب برس
عدد القراءات 5490

الشيخ عبدالله الاحمر احد فصول تاريخ اليمن الحديث. فليس بالامكان تقليب صفحات هذا التاريخ دون التوقف عند شخصه، واسرته، وقبيلته، في عهد الإمامة كما في الجمهورية. انه فاعلية سياسية واجتماعية كبيرة في العهدين.

شيخ مشايخ قبائل حاشد، رئيس مجلس النواب ورئيس حزب التجمع اليمني للاصلاح المعارض، عبدالله بن حسين الاحمر، بلغ الرابعة والسبعين. ورغم تقدم السن، والمرض، فان الشيخ الذي تبندق في الخامسة عشرة، يرفض نزع السلاح ، ويخوض معركة جديدة، لكن هذه المرة مع التاريخ، من خلال مذكراته هذه التي خص القدس العربي بحقوق نشرها.

وهذه المذكرات سيرة رجل، بقدر ما هي سيرة بلد، تعكس شاشتها مرحلة انتقال اليمن من طور خالص الانتماء الي القرون الوسطي، الي طور هجين تتصارع فيه الأزمنة التقليدية والحديثة. وهي بذاتها علامة تحول او تغير: فمذكرات أسلافه كانت روايات شفاهية في الدواوين، بينما تميز عنهم بنقلها الي عصر التدوين .

انها ذكريات غنية بالتاريخ لرجل ينتمي الي أحد أثري البلدان العربية تاريخاً.

عهد الإمام أحمد

بعد أن فشلت ثورة 1948م وكان موقف الوالد ـ كما ذكرنا سابقاً ـ متباطئاً في الاستجابة لطلب الإمام أحمد، دخل إلي صنعاء متأخراً ومعه مشائخ العصيمات وعدد قليل من بني صريم وخارف، وبعد ثلاثة أشهر تقريباً استدعي الإمام أحمد الوالد، فنزل الوالد ومعه مشائخ وعقال العصيمات وعدد قليل من مشائخ بني صريم وخارف وعذر إلي تعز، وقد استقبلهم الإمام أحمد في تعز استقبالاً جيداً وصافحهم فرداً فردا وأمر بتسكينهم.

وبعد عدة أيام اختلق الإمام أحمد مبرراً بسيطاً لحبس الوالد، حيث كان الشيخ (باقي بن ناصر النقيب) من أصحاب العصيمات وكان معظم أوقاته مع الوالد، وكان الإمام أحمد يعلم أنه كان وكيلاً للوالد في بعض القضايا التي كانوا يختلقونها، ولما قامت ثورة 1948م كان الشيخ باقي في صنعاء وكيلاً للوالد في قضية اختلقها له الإمام يحيي مع السيد محمد عباس المتوكل، وكان الشيخ باقي تربطه علاقة صداقة مع بعض المشائخ المؤيدين للثورة، وقد أيد الثورة مع الكثيرين ممن أيدوها من صنعاء. وبعد فشل الثورة خرج من صنعاء يتوجس خيفة بعد أن ألقي القبض علي مؤيدي الثورة وقتل منهم من قتل وسجن الآخرون، فكان خروجه واختفاؤه مبرراً للإمام أحمد ليقوم بسجن الوالد حتي يأتي بالشيخ باقي وفعلاً تم حبس الوالد تحت هذه الذريعة، وقال الإمام لبقية المشائخ الذين كانوا مع الوالد مثل عبدالله فيشي وأبو شوصا هذه مصاريفكم وسيروا ابحثوا عن الشيخ باقي النقيب، فقال له أحد المشائخ: لماذا تبحث عن باقي وهو بدوي في الجبال لا يتبعه أحد؟

وخرج من بقي من المشائخ ومعهم أوامر للبحث والقبض علي باقي النقيب وعندما وصل المشائخ المكلفون بالقبض علي باقي إلينا في الخمري جمعنا معهم جيشاً من العصيمات وتقدمنا علي قبيلة ذو خيران التي ينتمي إليها باقي. وصلنا إليهم، فقالوا لنا: الشيخ باقي لم يصل إلي هنا وقد اختفي منذ أيام ولا ندري أين ذهب، فتفرقنا في أودية ذو خيران وشعابها حتي وصلنا وادي الوشخ عند الشيخ علي بن ناجي اللعصة والشيخ هادي بن أحمد الزجر والشيخ علي بن صالح خميس والشيخ صالح بن علي بن مطري وجلسنا عندهم خطاط (اي باقون بينهم وعليهم مؤونتنا من الاكل والشرب) مصممين عليهم أن يأتونا بالنقيب مهما كان الأمر، وكانوا يستحون منا ويذبحون لنا الذبائح وقالوا لنا أنه قد هرب وكان فعلاً قد هرب ودخل السعودية وكان الناس في ذلك الوقت يدخلون بدون جوازات.

وبعد مرور فترة وإصرار الإمام أحمد علي استبقاء الوالد حتي نوصل له الشيخ باقي، فكرنا في الدخول إلي صنعاء بعقائر وذبحها فوق قبر الإمام يحيي حتي نستعطف الإمام أحمد لإطلاق سراح الوالد، وفعلاً تحركنا من حصن حبور باتجاه صنعاء عبر السودة والصرارة وعمران حتي وصلنا قرية القابل بعد ثلاثة أيام سفراً، وحينما علم سيف الإسلام الحسن نائب الإمام في صنعاء أرسل لنا مبعوثاً إلي القرية لكي يبلغنا بمنعنا من الدخول إلي صنعاء وتنفيذ فكرة العقير فعدنا أدراجنا.

وبعدها بأشهر قررنا التوجه إلي مقام الإمام أحمد في تعز للمراجعة ومعنا عدد من الأقارب والوالد لا يزال في السجن التحفظي في مقام الإمام في غرفة خاصة من مرافق القصر وعين عليه اثنين من حرسه كحراس ومرافقين له وكان يصرف له الأكل من مطبخ الإمام مع خمسة ريال فرانصي (تسمية محلية لريالات ماريا تريزا النمساوية) يومياً، وبعد سنه كاملة من المراجعة وتقديم العقائر ومعنا عدد من مشائخ القبائل الذين كانوا في مقام الإمام، وافق الإمام أحمد أن يعطيه رخصة لزيارة البلاد شريطة أن أبقي أنا بدلاً عنه، فخرج الوالد وكانت رخصته ثلاثة أشهر فقط وكنا نجدد الرخصة إلي أن بلغت سنة.

وعند عودته إلي تعز أقيمت له حفلات الضيافة من قادة الجيش البراني والنظامي والحرس الملكي ومن الشيخ يحيي المحجاني ولا بد أن ذلك الاحتفاء وحفلات الضيافة كانت بمباركة الإمام لغرض في نفسه.

وبعدها رجع الوالد إلي معتقله في تعز في قصر صالة وبقيت سنه تقريباً أراجع علي حميد حتي استخرجنا أمراً من الإمام إلي المسؤولين في حجة بأن يرخصوا له لمدة ثلاثة أشهر ليتزوج، وسافرت من تعز إلي حجة وكان حميد حينها محبوسًا في حصن مسور ولم نلتق مع حميد إلا في الأشمور عند أخوالي، وتوجهنا قبل عيد الأضحي بأسبوع إلي الخمري وفعلاً تزوج حميد في العيد ولم نلبث سوي شهرين أو ثلاثة أشهر وإذا بالأمر من الإمام إلي نائب حوث محمد ساري لإلزام حميد ليعود إلي سجنه فجاؤوا لحميد وأنا كنت أحصد الدخن والذرة في البطنة فذهبت لأودعه وإذا به يقول لي : لقد قررت أن لا أعود إلي حجة وأري أن تعز أفضل فما رأيك؟ قلت: توكل علي الله.. وصل حميد إلي تعز، وقد أصبح شخصية أخري حيث كان قد استفاد في سجن حجة من العلماء والأساتذة والمفكرين (عشرة علماء وأساتذة أو أكثر كانوا في سجن حجة ومعهم طالب واحد) الذين أعطوه كل ما معهم فما خرج من حجة إلا وقد أصبح مفكراً وأديباً وسياسياً ثائراً وقد أصبحت طموحاته كبيرة وتفكيره في شيء أكبر.

وأول ما قابله الإمام رحب به وبدلاً من أن يذهب به إلي السجن استبقاه في القصر بالعرضي في المقام الذي يجلس فيه أولاد الإمام والأمراء من بيت حميد الدين، وكان يحضر جلسات المقيل مع الإمام التي كان يحضرها العلماء والأمراء في العرضي أو في صالة فمكنه ذلك من الالتقاء بالمشائخ الكبار من جميع أنحاء اليمن وبالمفكرين والعلماء والأساتذة، وكان القاضي عبدالرحمن الإرياني يقوم بدور الزعيم الروحي، كما بدأ حميد يبني علاقات فيها مع العلماء ومع الأمراء من بيت حميد الدين وحاول الارتباط أكثر بالبدر حيث كانت قضية ولاية العهد موجودة وتبناها حميد مع القائمين بهذا الدور. استمر حميد منذ أن وصل تعز مع الإمام أحمد الذي بدأ يقربه منه حتي أنه عندما طلع صنعاء لاستقبال الملك سعود سنة 1954م أخذه معه وأسكنه عنده في بستان الخير، وعندما عاد إلي تعز عاد حميد معه وبعدها سافر الإمام إلي جدة وأخذه معه. وعندما قامت حركة الثلايا في 1955م كان حميداً موجوداً مع الإمام وكان مناصراً له في إحباط انقلاب الثلايا؛ لأن تلك الحركة لم تكن معروفة للناس ولم يخطط لها ولم تكن معروفة أهدافها، فكان من الطبيعي أن يقف حميد ضدها، كما وقف ضدها القاضي عبدالرحمن الإرياني والأستاذ أحمد محمد نعمان الذي تحرك من الحديدة إلي حجة مع البدر وخطب خطبة في الناس مطالباً بالوقوف ضد الذين قاموا بالانقلاب.

تعبئة للتغيير

أما الوالد فقد ظل خلال هذه الفترة تارة في الإقامة الجبرية وتارة يرخص له الإمام بالخروج وعندما قامت حركة الثلايا كان الوالد في البلاد، وبعدها بفترة طلبوا الوالد فنزلت أنا تعز بدلاً عنه وحميد كان هناك أيضاً، وسافر حميد البلاد وأنا موجود في المقام وعاد وأنا موجود، وكانت العلاقة بين الوالد والإمام قد تحسنت من خلال حميد. أما بالنسبة لي فقد كانت نظرة الإمام نحوي جيدة من خلال بقائي تلك المدة الطويلة وأنا أراجع لدي الإمام وأدخل عليه من أجل الوالد، وكذلك عندما بقيت بدلاً عنه ما كان يسمع عني شيئاً يسوؤه منه. المهم أن علاقة حميد توطدت مع الإمام وأولاده وبالذات ولي العهد البدر الذي أصبحت ثقته بحميد كبيرة، لأنه كما قلنا قام بدور كبير في أخذ البيعة لولي العهد، تلك البيعة التي ظلت تتفاعل علي مدي سنين، وبعدها ارتبط حميد بالبدر وكان البدر يظهر لحميد كل احترام وتقدير، وعندما سافر الإمام أحمد للعلاج في روما سنة 1958 كان حميد والوالد متواجدين في تعز في مقام الإمام، كان الوالد في إقامته الجبرية وحميد ضمن حاشية الإمام وجلسائه من العلماء والمثقفين، فرأي الجميع أنها فرصة لعمل شيء وبدأوا التحضير، وكان دور حميد أبرز دور وحركته أكثر من غيره وضوحاً وشجاعة واحتواؤه لمشائخ القبائل من أجل التغيير، وقد كان عند الناس وحميد والمجموعة أن الإمام لن يعود فهو إما يموت أو يطول بقاؤه هناك. وعندما استقر البدر في صنعاء بعد سفر الإمام أحمد استدعي حميد للبقاء معه، والوالد طلب من ولي العهد السماح له بالذهاب إلي البلاد، فأفرج عنه وسافر من تعز إلي صنعاء بنية التوجه إلي البلاد، وقبل أن يعود إلي البلاد كان العسكر قد قاموا بحركة احتجاجية بسبب المعيشة الصعبة وضآلة المرتبات والمعاملات القاسية وخربوا بيت القاضي يحيي بن أحمد بن حسين العمري، (وهو ابن أخ القاضي عبد الله بن حسين العمري الذي كان رئيس وزراء الإمام يحيي وقد قتل مع الإمام يحيي في منطقة حزيز في الضواحي الجنوبية للعاصمة صنعاء) وكانت حركة العسكر المشار إليها هي من أجل مطالب بسيطة حيث لم تكن حركتهم سياسية ولا منظمة أبداً فطلب البدر من الوالد أن يقوم بدور لتهدئتهم وفعلاً ذهب الوالد لهؤلاء العسكر في العرضي وهم قبائل فهدأهم، كما قمنا نحن بتجميع القبائل في حاشد استعداداً للدخول إلي صنعاء لدعم ولي العهد إذا اقتضت الحاجة وكان ذلك بطلب من ولي العهد، وقد أرسلت للوالد رسالة إلي صنعاء تشرح استعدادنا.

عاد الوالد إلي البلاد وحميد بقي مع البدر فترة، ثم استأذنه بالذهاب إلي البلاد ليقضي إجازة العيد ويتزوج الثانية، فقد كنا مهيئين لزواجه بابنة عمي في العيد فأذن له البدر، وأثناء العيد قام العسكر بحركات جديدة في صنعاء وفي تعز، إذ ادعوا أن بيت الجبري أخذوا حقوقهم وقتلوا اثنين إخوة منهم، وحتي في مدينة إب قام العسكر بمثل هذه الحركات، مما جعل البدر يتخوف منهم فعلاً وكتب لنا ولغيرنا من مشائخ القبائل أن نعجل بدخولنا صنعاء، وخلال شهري ذي الحجة ومحرم توافد مشائخ القبائل علي صنعاء من كل مكان، وفتح البدر خزانة الدولة وكان يصرف لهم ولقبائلهم بسخاء واستغل حميد الفرصة بتواجد المشائخ الذين أقبلوا من كل مكان ومعه الشيخ سنان أبولحوم، والقاضي أحمد السياغي الذي كان رئيس المجلس النيابي ومشائخ آخرون فقاموا بتوعية هؤلاء المشائخ وتعبئتهم وتهيئتهم للتغيير، وقد لعب القاضي عبدالسلام صبرة دوراً عظيماً حيث مثل القاسم المشترك أو همزة الوصل بين المشائخ والعلماء والمثقفين والضباط واستمر المشائخ علي هذا الحال والبدر يهيئ لهم الفرصة إلي أبعد الحدود وكان مطمئناً أنه محل رضي لدي المشائخ لأنه قد أبدي استعداده للتغيير وفعلاً كان يعد بهذا.

الخلاف مع الإمام أحمد

أثناء غياب الإمام أحمد في روما كان قد جعل له مخبرين ممن كانوا مرتبطين به ارتباطاً مصيرياً من السادة الأشراف والقضاة والضباط والمشائخ، وكانوا يوافونه بكل شيء ويربطون ما يجري من تحركات برأس حميد ويؤكدون للإمام أن كل هذه الحركات المتزعم لها فعلاً هو حميد بن حسين الأحمر والسياغي، ويبدو أنه كان يغيظهم ما رأوا من شعبية حميد والتفاف المشائخ حوله، حتي انه عندما وصل مع مشائخ لواء صعدة استجابة لطلب ولي العهد البدر جري له استقبال كبير إلي الحصبة أو شعوب، ودخلوا بعرضة كبيرة وهو فوق الحصان وتم إطلاق الرصاص في الهواء وحتي الزغاريد من النساء والناس يزملون تجاهه بمختلف الزوامل.

كل هذا جعلهم ينقلون الأمور إلي روما مضخمة للإمام ضد حميد ومن جملة ما نقل إليه أنه عندما استقبلوا حميد كانوا يرددون في زواملهم:

سلام ياحاشد ويا صُبَّة بكيـل ** من بعد هذا تسمعون اخبارها

إمامنا الناصر ومن بعده حميد ** سبحان من ردَّ العوايد لاهلها

وأنه وراء هذه التجمعات وقد أصبح مهيئاً نفسه للزعامة فأصبحت القناعة لدي الإمام أحمد وهو لا يزال في روما أن حميد هو المحرك الرئيسي وبعده القاضي السياغي فلم يعد حقد الإمام علينا كما كان في الماضي من أجل الزعامة القبلية فقد أصبح علي شيء آخر، فحركة حميد حركة من أجل التغيير، وهذا شخص بدأ ينازعه ملكه، هكذا ردد الإمام هذه النغمة علي حميد وعلي الوالد وعلي الأسرة وكل من كان معنا ليرتكب تلك المآسي بعد رجوعه من روما حيث طرد من طرد واعتقل من اعتقل من المشائخ الذين كانوا حول حميد، وطارد المشائخ من كل قبيلة من دهم وبرط (بيت أبورأس) ونهم وخولان وأرحب ومراد وسحار وحاشد، وخرب بيوتهم في كل مكان، وعمي سنان أبو لحوم هرب، وأرسل الجيوش لهدم بيوتنا وإتلاف أشجار البن في حجة وانتهي بقتل الوالد وحميد والشيخ عبد اللطيف بن راجح لأنه كان له علاقة بحميد، وأنا كنت في مقامه في السخنة أراجع، وانتهي الأمر بحبسي. هذا ما واجهناه من الأئمة إلي أن قامت الثورة.

عودة الإمام أحمد من روما

عاد الإمام أحمد من روما بداية علي متن طائرة وعندما وصلت الطائرة فوق البحر الأبيض المتوسط قرر الإمام أحمد العودة إلي روما والسفر بحراً؛ لا أدري هل وصلته معلومات معينة؟ أم أنه كان يتوجس خيفة من عبدالناصر فقد أشيع أن عبدالناصر كان عازماً علي حجز الإمام في القاهرة.

المهم أنه عاد من الجو وركب علي الباخرة إلي الحديدة وقد استقبله الرئيس عبدالناصر في قناة السويس ودخل له إلي الباخرة ليدعوه لاستضافته لكنه رفض وواصل المسير إلي الحديدة، وما إن وصل الحديدة، حتي أطلق تلك الصرخة المدوية والخطاب المجلجل الذي أسماه الصرخة الكبري والذي هدد فيه وتوعد وقال: لن يخيفني أخضر ولا أحمر، وهذا الفرس وهذا الميدان ومن كذب جرب وما عارض أحد أحمد إلا وشرخت رأسه بالسيف واستشهد بأبيات قالها وكان شاعراً:

ماذا يريدونها لا دَرَّ دَرُّهُمُ

إن الإمامة لا يُطْوَي لها عَلَمُ

وقد أذيعت هذه الصرخة المدوية فأرعبت كل من كان يحس أنه قد أسهم بأي نشاط سواء من المشائخ أو من غيرهم.

كنت في تلك الليلة متواجداً في صنعاء مع حميد ومعظم مشائخ القبائل لاسيما القبائل الشرقية والشمالية، فقد كان البدر كما قلنا قد انفتح لهم انفتاحاً كبيراً، وكان يعطيهم بسخاء وكل شيخ كان معه مجموعة من أصحابه، وعندما سمعوا تلك الصرخة المدوية خرج الكثير منهم فوراً من صنعاء والبعض تأخروا قليلاً وقام الأخ حميد باستدعاء المشائخ الموجودين للاجتماع في قبة المهدي، واجتمع كبار المشائخ وطرح عليهم حميد أن الإمام قد عاد بعد غياب طويل ومرض وله حق علينا أن ننزل إلي الحديدة التي نزل فيها لنهنئه بسلامة العودة وفي ذلك أيضاً إشعار بأن الناس ليسو خائفين وأن مشائخ القبائل عندهم مَنَعة ربما كان الهدف هذا أو شيئًا آخر كان يخطط له حميد.

وافقوا جميعاً ولم يعترض إلا الشيخ عاطف المصلي قائلاً : أبداً لا يصح نزول المشائخ هكذا مباغتة بدون أخذ موافقة مسبقة من الإمام، ورأي بأن نكتفي ببعث برقية للإمام فقط، فقال حميد: من الطبيعي إذا أخذنا رأي الإمام أن الإمام سيقول لا وسيمنعنا من النزول ولهذا ليس هناك داع للاستئذان، ولا ضرورة أيضاً للبرقية، ننزل نسلم علي الإمام كما هي العادة، فالناس قد تعودوا أن يزوروا الإمام في المناسبات وهذه أكبر من أي مناسبة أخري.

وافق المشائخ كلهم علي رأي حميد وكان منهم مشائخ من خولان وبرط متحمسين وأقوياء، لكن الشيخ عاطف أبرق للإمام باسمه، يعني كمعلومة، وكان الإمام فور وصوله قد عزل السياغي وكلف السيد علي زبارة كنائب له، كما كان من قبل، وقد أبرق للنائب علي زبارة أن يبلغ جميع المشائخ الموجودين في صنعاء بسرعة خروجهم منها وأنه لا داعي لنزول أحد منهم إلي الحديدة، وعند وصوله صنعاء سيطلبهم وحذرهم وأنذرهم بهذا، فبلغ زبارة المشائخ وأول من بلغ حميد، التقي الوالد والأخ حميد والشيخ سنان والمشائخ المترابطين ترابطًا عضويًا ورأي الوالد أن أنزل أنا برسالة منه إلي الإمام.

فحملت الرسالة ونزلت إلي الحديدة، وما وصلت إليها إلا وقد خرج الإمام إلي السخنة فلحقته وسلمت عليه واستقبلني استقبالاً طيباً، وسلمته رسالة الوالد وفيها ترحيب بالإمام واعتذار عن عدم نزوله لأنكم تفضلتم وأعفيتمونا من النزول لزيارتكم وقد أرسلت الولد عبدالله لزيارتكم بالنيابة عني... الخ سلمته الرسالة وتكلمت معه وقبل عذر الوالد وقال لي : جوب لوالدك أنه ليس هناك مانع أن يعودوا إلي بيوتهم وليس هناك ضرورة الآن لوصولهم إلي هنا. وجلست في مقام الإمام كما هي العادة ضمن الحاشية،وعندما كانوا يخرجون أخرج معهم.

إلقاء القبض علي حميد

لم يمض علي وجودي مع الإمام في السخنة سوي أسابيع، وإذا به يستدعيني ويسمعني تهديدًا ووعيدًا ضد الوالد وحميد ويطلب مني إبلاغهم بسرعة وصولهم حيث إن البالغ لديه أنهم يقومون بتشجيع القبائل علي التمرد وتعبئتهم ضد الإمام، كتبت للوالد ولم يكتف الإمام بكتابي، فكتب لنائبه في صنعاء أن يبلغ الوالد عن طريق نائبه في حوث محمد ساري، كما بعث الوالد ببرقية من السودة يعتذر عن الوصول وأنه مشغول بالثمرة فرد الإمام عليها بخطه مفيداً بأنه ما كان يحسن تأخر الوالد بعد الطلب، ثم أعقب بجواب ثانٍ في نفس البرقية بسرعة الوصول للمراجعة.

وقد شرحت أنا أيضاً برسالة بخطي للإمام ظروف الوالد في البلاد وصحته. لكن الإمام لم يقبل العذر وهدد وتوعد وجهز الجيش ليخرج علي مناطقنا، وصلتني برقيات من الوالد، أن نكرر المراجعة للإمام وجمعنا المشائخ الذين كانوا هناك وجئنا بعقائر تلو العقائر وزوامل بعد زوامل نترجي الإمام في إيقاف الجيش وإعطاء المهلة للوالد، ولكن الإمام كان يصر علي وصوله ويهدد وكنت قد وصلت إلي مرحلة اليأس في تراجع الإمام عن قراره بعد أن حاولت معه بكل الوسائل، حتي إنه في يوم من الأيام أذن لي ودخلت عليه ومعي صهرنا السيد ناصر الغيلي ذبحنا العقائر وطرحت جاهي وقبلت ركبته وحاولت أستعطفه لكنه رد عليَّ بكلام أقسي من الحجارة وقال : قسماً ما أبقي رأسًا من بيت الأحمر ولا أترك بيتاً إلا وهدمته ولا أترك شجرة بن إلا وقلعتها، كتبت للوالد وحميد بهذا وحذرتهم وأنه لا فائدة أبداً بعد قسم الإمام. وبعثت بالرسالة مع الشيخ علي شويط الذي أخذها وتوجه فوراً مع سيارة البريد من الحديدة إلي صنعاء ومن صنعاء أخذ موتور سيكل وخرج إليهم ووصل في نفس اليوم الذي وصل فيه الجيش، ووصلت الرسالة للوالد لكنه تجاهل ولم يقرأها، وكان مطمئناً ويحسن الظن بالإمام فبالنسبة له فهو رجل كبير السن وما أساء إلي الإمام بشيء، وبالنسبة لحميد الذي عليه العين الحمراء فقد سافر من البلاد متجهاً إلي بيحان عبر الجوف ومأرب.

الوالد رفض المقاومة

أما الوالد وعند وصول الجيش إلي حوث فلم يكن خائفاً إلا علي حميد، وقد كان مطمئناً أن حميد قد اتجه شرقاً لدي أهل برط وأن قبائل برط سوف يتجاوبون معه، وخاصة أن هناك نخبة من المشائخ فعلاً كانوا مع حميد، وأنه إما أن يظل عندهم فترة أو أنهم سيخرجونه. أما بالنسبة له فقد كان مطمئناً لأنه ما قام بأي حركة، وبمجرد أن وصل الجيش ومعه المدافع رأي الوالد أنه لو حصلت مقاومة فسيحل الخراب والدمار، وكان الناس في العصيمات متحمسين ومصممين علي الوالد أن لا يدخل صنعاء وأنهم علي استعداد أن يقاتلوا علي مناطقهم، وفعلاً لو أنهم قاتلوا لربما تراجع الجيش، فلم يكونوا جادين لو وجدوا مقاومة، لكن الوالد رفض وقال لهم: لا أريد أن أعرضكم للخطر فحاشد العلو خارف وبني صريم فتحوا بلادهم ما تبقي إلا أنتم. وأصر علي أن يدخل صنعاء خاصة بعد أن أرسل البدر القاضي علي بن عبدالله اليدومي والشيخ عبدالله بن يحيي بدر الدين وأعطي الوالد وجهاً وأماناً أن يدخل عليه صنعاء، ولكن بعد أن دخل الوالد صنعاء بدأ الإمام بأخذ المشائخ كلهم وسجنهم وخرَّب بيوتهم.

وبعد إلقاء القبض علي حميد وذهاب الوالد إلي دار البشائر لدي ولي العهد البدر، رجعنا بالأغنام والأبقار إلي أبواب الإمام نترجاه في رفع الجيش ووقف الخراب وقلع الأشجار ووقف سجن المشائخ. وكان معي عمي غالب أثناء مراجعتنا للإمام لكن الإمام لم يتفاهم معنا ولم يقبل رجاءنا أبداً وقال لنا عبدالملك العمري: لقد شغلتم الإمام عودوا إلي بلادكم، قلت له : لن أرجع وحميد مسجون وأبي في قصر البشائر. أما عمي غالب فتعب وعاد إلي البلاد وأنا بقيت في مراجعة يومية للإمام.

فشل خطة اغتيال الإمام

أثناء هذه الفترة كانت هناك خطة للقيام بشيء ضد الإمام في السخنة، وكنا ننتظر لتنفيذ الخطة وصول سعيد حسن فارع (إبليس) صاحب الحجرية، من صنعاء ومعه القنابل، وكان سعيد فارع من أعضاء جبهة التحرير في عدن، وكان معه سيارة ومكتبة في الحديدة، لم تكن هناك قنابل إلا مع عبدالله اللقية الذي كان أمين مخازن الكلية الحربية، ذهب إليه فأعطاه ثلاث قنابل ونزل والمعنيون بالعملية قد تواصلوا من صنعاء وكانت العملية مخططاً لها من قبل، وعمي سنان هو الذي يتعاون معنا ويدفع بالعناصر المعنية من صنعاء، وهناك مراسلات من الوالد ومن حميد للشيخ سنان في هذا الاتجاه نشرها في الجزء الأول من كتابه (اليمن حقائق ووثائق عشتها)، كما كنت أنا علي اتصال ومراسلة معه ووجهت له عدة رسائل حول الموضوع. وكان هناك محمد القيري وعبدالولي القيري ومجلي القيري ومحمد أحمد الحباري وعلي أبو لحوم ومن حاشد: عبده كامل وعلي ناصر شويط وقاسم القطيش، وأناس من برط: حمود ابو راس وعبدالله مرشد المعالم وغيرهم، ومن سحار: حمود مجلي وحيدر الصربي ومن مراد كلهم متواجدون في السخنة ما كانوا منتظرين إلا سعيد حسن.

ووصل سعيد حسن إلي السخنة ومعه رسالة من حسين المقدمي وأمين عبدالواسع نعمان ورزمة منشورات لنوزعها إذا تمت العملية، وسلمها لي وقال لي الوديعة مخبأة في دكان، وقال لي أيضاً أنه معه رسالة إلي محمد يحيي منصر صاحب الزرانيق الذي كانت له علاقة بالسيد حسين المقدمي ومحمد عبدالله هبة، وكان تاجراً من بيت الفقيه، وقال سوف أمرٌّ علي محمد يحيي منصر ووالده لأن معهم رسالة من المقدمي كما أن بينهم وبينه كلامًا : قلت له: لا تذهب إليهم فقد أصبحوا الآن من عكفة الإمام، وأنا كنت قد جسيت نبضهم من قبل وقالوا لي: إن الإمام قد أخذ عليهم عهوداً، لكنه ما قبل نصيحتي وذهب إليهم وأعطاهم الرسالة وأفشي لهم السر، فقبضوا عليه وذهبوا به للإمام.

كنت قد تواعدت معه علي أن نلتقي بعد العصر، وأنا سوف أذهب للأشخاص الذين كانوا معنا في السخنة علي أن نلتقي جميعاً بعد عصر ذلك اليوم إلي سائلة الوادي لنتدارس الخطة، وكان الأمر سهلاً وميسوراً تماماً، فقد كان الإمام سيخرج ليواجه الناس، ولم يكن هناك ازدحام أو أسوار أو شيء، خرجت علي الموعد بعد العصر، وبينما أنا في الطريق إذ لقيني أحد أفراد العكفة فقال لي اليوم قبضوا علي واحد كان معه قنابل، الملعون ابن المعلون، كان يريد يقتل الإمام. فقلت له: الله أكبر عليه من هو هذا الكلب؟ قال: واحد من الحجرية قلت: وأين هو؟ قال: هو ذاك مربوط في الكاوش (عنبر العساكر). قلت: لا بد لي أن أذهب لأراه وأتأكد من شخصيته، نظرت إليه فعرفت أنه هو، فانسحبت ثم عدت أبحث عن الناس الذين كان لديهم خبر أن نلتقي معهم لأقول لهم إن الخطة قد فشلت والرجل قد ألقوا القبض عليه وضربوه حتي أخبرهم أين القنابل وذهبوا فأخذوها من صاحب الدكان وهو من التربة.

اجتمعت معهم في المساء وأخبرتهم أن الخطة قد فشلت، قالوا: إذاً نخرج من السخنة، ونتوكل علي الله فالإمام سوف يلقي القبض علينا جميعاً، وهو يعرفنا جيداً، وأين نتجه؟ قالوا: نتجه البلاد ـ مناطقهم ـ ونمر من الطرق المعروفة وغير المعروفة حتي نصل خولان، وأهل خولان كانوا مصممين علي الانتفاضة، وقاموا بحركات أفضل من حاشد، قلت لهم: أنتم توكلوا علي الله أما أنا فلا، لأن حميد محبوس في قلعة الحديدة والوالد موقوف في دار البشائر في صنعاء.

بيت القيري والذين من مراد وغيرهم كلهم رحلوا حتي وصلوا بلادهم، بعدها خرجت عليهم جيوش ما عادوا إلا بتعهدات ولم يحتبسوا ولكن بعضهم خربت بيوتهم ـ مثل بيت القضاة ـ قضاة السهمان ـ وبيت الزايدي رغم أنهم قاتلوا أكثر من غيرهم أما أنا فبقيت حتي قرر الإمام سفك الدماء.

مقتل الوالد وأخي حميد

عندما قرر الإمام سفك الدماء وعقد العزم علي قتل الوالد والأخ حميد أمرني بالذهاب من السخنة إلي الحديدة. وقد طلبني عبد الملك العمري سكرتير الإمام وقال لي: إن الإمام قد أمر بأن تدخل الحديدة عند حميد ولن تدخل السجن وحميد سوف يطلقه من السجن ويخرجه إلي عندك، والوالد قد طلبه من صنعاء لتلتقوا جميعاً في الحديدة، قلت له: ما الذي جعل الإمام يتغير هكذا، لقد بقيت هنا من أجل المراجعة أما وقد أمرتم بدخولي الحديدة ومنعتموني من المراجعة فأرجو أن تسمحوا لي أسافر البلاد، ولم يجب علي العمري، ودخل علي الإمام ثم عاد إلي وقال : عد إلي مكانك وانتظرني إلي قبل المغرب حتي أري جواب الإمام، دخلت محل إقامتي وبعد المغرب إذا بالعمري يرسل لي أن آتيه فجئت إليه فقال لي : الإمام لم يسمح بسفرك وقال لا بد أن تدخل الحديدة.

ركبت مع العمري في سيارته وتحركنا الحديدة وقد شعرت بالقلق واليأس وقلت في نفسي: ما يدخلني الإمام الحديدة إلا وقد نوي شراً، وكانوا قد أخذوا الوالد علي متن طائرة من صنعاء إلي الحديدة وأبلغوا الإمام بوصوله. وبعد استبقائه في القلعة لفترة وجيزة أمر الإمام بنقله إلي حجة، وحميد أخذوه من حبس القلعة في الحديدة إلي حجة.

وصلت الحديدة فسألت أين الوالد؟ قالوا يبدو أنه خرج السخنة، وربما أنكم اختلفتم معه في الطريق قليلاً، ثم قالوا لي: يقول لك الإمام انزل إلي عند حميد في القلعة، نزلت ووصلت القلعة ولم أجد حميد، وفي اليوم الثاني قتلوا حميد وعبداللطيف بن قايد راجح، والوالد خبأوه في سجن لا يعلم عنا شيئاً ولا يدري أين حميد ؟ وهل لا زال حياً أم قتلوه؟ ويبدو أنهم أبقوا قليلاً علي الوالد ترقباً لحدوث أي رد فعل من حاشد قد يحدث عند قتل حميد، بينما كانوا قد أخضعوا القبائل وسجنوا من سجنوا ولم يعد هناك أي رد فعل.

اعتقالي

تركوني في الحديدة قرابة اثني عشرة يوماً مغلقاً عليَّ، ثم قرروا نقلي إلي سجن المحابشة حيث أمر الإمام بحبسي مع السيد هاشم عبادي ومحمد أحمد جرانع وسجن المحابشة لم يكن سجناً للسياسيين، وكان المسؤولون هناك والموظفون وكذلك مشائخ البلاد والقبائل كانوا كلهم طيبين معي، وكان خبر قتل الوالد وحميد قد انتشر وهم متعاطفون معي، وعندما وصلت إلي المحابشة أدخلوني بني هبة بزامل لأن شيخهم كان هو المستلم لي من الحديدة وفي السجن والناس اصطفوا يتفرجون عليّ بعطف، وكنت أري بعضهم يبكي.

أطلعوني من الحديدة إلي سجن المحابشة في سيارة واحدة مع السيد محمد هاشم عبادي ومحمد أحمد جرانع، وهذان الرجلان كانا مسجونين من أجل أولادهما الذين كانوا نشطاء سياسياً وقبلياً، وقد ظل جرانع معنا قرابة عام وأطلقه الإمام ولما وصل تعز قتلوه بيت الدهبلي لأن ابنه قتل الدهبلي وهو تاجر من ماوية، والسيد هاشم عبادي بقي معي في السجن حتي مات قبل الثورة بسنة، وكان رجلاً كبير السن في الثمانين من عمره تقريباً وكان ناقماً علي الإمام والإمامة، رغم أنه كان من شيعة الإمام وإنما سجن من أجل ابنيه عبد الله ومحمد هاشم اللذين كانا فعلاً ثائرين وسياسيين.

وبقيت في سجن المحابشة قرابة ثلاث سنوات حتي قامت ثورة السادس والعشرين من ايلول (سبتمبر) سنة 1962م.