الشلفي يكتب سلسلة حلقات عن رابعة التي رأى

الإثنين 16 سبتمبر-أيلول 2013 الساعة 09 مساءً / مأرب برس - خاص
عدد القراءات 4681


فجر الاربعاء المذبحة دخلت في نوبة نوم عميقة بعد سهر متواصل استمر لأسبوع لم أكن في الميدان، كنت أنام في أحد الفنادق القريبة من ميدان رابعة، ثم أقضي بقية وقتي في الميدان، لم استجب في ذلك اليوم على غير عادتي لطلب مكتب القاهرة بأن أعود إلى الميدان بعد سريان خبر شبه أكيد أن فض الاعتصام سيبدأ. 
كنت أعود كل مرة يطلبون مني العودة وبدون نقاش لكني اعتذرت في تلك الليلة ودخلت في نوم عميق. 
تركت التلفاز مفتوحًا وصحوت في التاسعة صباحًا على المشهد الدموي، كانت الصور أمامي والشاشة تعرض فض اعتصامي النهضة ورابعة. 
قلبت تلفوني رأيت عشرات الرسائل والاتصالات التي تبحث عني من الدوحة والقاهرة ومن صنعاء. 
ربما كانوا يبحثون عني ويعتقدون أني قد قضيت في المجزرة لم أسَلْهم حتى اليوم، لكني في كل الأحوال اكتشفت أنني أغلقت صوت التلفون فلم أعد أسمع شيئًا وأنا لا أفعل ذلك. 
قلت لنفسي: بعد أيام أغلق القدر كل المنافذ حتى لا أكون في رابعة في ذلك الوقت الرهيب الدامي. 
لكنني قررت أن أعود إلى رابعة. 
اتصلت بزميلي عبدالعظيم محمد الذي كان وصل إلى القاهرة الثلاثاء، سلّمنا على بعضنا في الفندق الذي نسكنه وجلسنا نشاهد بذهول آثار الحريق. 
كان عبدالعظيم خرج من الفندق، حاول الدخول إلى رابعة، لكنه لم يستطع وعاد مرة أخرى.. قلت له: سأذهب وأحاول الدخول فاقترح أن نمضي معًا ورافقنا شخص آخر، وهو صحفي. 
كانت مخاطرة في كل الأحوال لكننا استطعنا قطع المسافة من الفندق إلى أحد المنافذ خلال ربع ساعة. 
منفذ رابعة الذي توجهنا إليه هو في تقاطع عباس العقاد بشارع النصر، وهو أهم المنافذ حيوية هناك، وكنت أتخذه طريقًا دائمًا للخروج والدخول من رابعة.. قطع الطريق وبدت أسلاك شائكة توصد الطريق، ومن خلفها أفراد أمن وجيش، ومن خلفهم مدرعات ودبابات، وعلى بُعد مئتي متر على الأقل كان منفذ رابعة، ومن بعيد شاهدت الدخان يرتفع وسيارات الإسعاف تصدر أصواتها، وكان عندي بعض الأمل من أن الساحة ستقدر على الصمود. 
قريبًا من الأسلاك الشائكة، وعلى امتداد شارع النصر، وبالتحديد عند مبنى كتب عليه الجامعة العمالية كان الآلاف من المتظاهرين يقفون من أولئك الذين أرادوا نجدة المتظاهرين. 
كانت الدماء تملأ المكان، ويبدو أن مواجهات قد تمت بين الجيش والأمن لمنع المتظاهرين الذين يحاولون الدخول إلى رابعة.. نساء ورجال بعضهم لديه قريب في الداخل، أخ، بنت، ابن، أب،... وهكذا.
دم وآثار الرصاص والقنابل المسيلة للدموع، ويبدو الإنهاك على الوجوه لكنهم مستمرون.. استأذن عبدالعظيم بالمغادرة وقررت البقاء.. أجدني مضطرًا للبقاء.. أحاول أن أتشبث ببعض أمل أن تصمد رابعة، وأحاول أن أقول لنفسي: إن السلطات المصريةه لا يمكن أن تقوم بذلك العمل، لكن الأمر تعدى ما حلمت به. 
أنا صحفي غريب، وعليّ المغادرة لحماية نفسي، وهذا ما يحتّمه عليّ المنطق، لكني متمسك برغبتي في العثور على طريقة لفعل شيء. الشعور بالمسؤولية الأخلاقية يقودني، وليس كوني صحفيًّا، وبعض ذكريات تلح على خاطري تجعلني مصممًا على العودة.. أفكر وأنا أرى طفلًا بجانبي مع أمه: ما الذي جاء به إلى هنا.. أجابتني: لا أحد في المنزل. 
ثم بدأ الرصاص ينهمر بعد ساعة إثر قيام المتظاهرين بهتافات ضد الجيش والأمن ومحاولاتهم الدخول.. لم أشأ أن أتراجع.. كان الرصاص والغاز المسيل للدموع ينهمر، وبدلًا من أن تشعر بالخطر كان هناك ما يدعوك للبقاء. 
من الواضح أن نداء داخليًّا كان يطوّق قلبي، ويرغمني على مقاومة فكرة أنْ أُصاب أو أموت على هذا النحو.. قبل نحو عامين من الآن، وللتحديد في 2011 في أحداث الثورة اليمنية التي أطاحت بحكم الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، كان الخطر يدهمني على نحو مؤكد من كل مكان، فقد كنت أغطي الأحداث، وقبل أن أجد مكانًا لأحتمي به، وهو ساحة التغيير بصنعاء، ميدان أشبه بميدان رابعة العدوية اختبأت لدى أصدقاء لأيام عدة بعد أن قام مسلحون بمتابعتي، مكثت في الميدان نحو عام وخرجت منه قد تحقق انتصار جزئي للثوار، ورغم كل المحاولات لفض ساحة التغيير، التي راح فيها مئات القتلى، فلم تُفلح في فض الاعتصام بالقوة.. لذلك يصعب عليّ أن أتخيل أن تُفض ساحة رابعة العدوية؛ لأن ذلك يتطلب وحشية وعملية إبادة قائمة على حس تصفية الآخر نهائيًّا.