مذيخرة.. العشاء الأخير للرفيق الأول عليّ بن الفضل

السبت 09 أكتوبر-تشرين الأول 2010 الساعة 05 مساءً / مأرب برس- استطلاع/ صلاح الدين الدكاك:
عدد القراءات 21600
يضعك الطريق المعبد على امتداد حوالي 35 كيلومتراً شمال غرب تعز، في قلب مذيخرة، وفي بؤرة مراوح خضرة العدين ومهب ريحها الجلاَّب غير أنه لا يضعك في قلب أحداثها ومهب حكاياتها.. من اليسير أن تلحظ كم هو المكان كتوم ومتحفظ، رغم دفق نوافير الخضرة ومسامات الجبال المتفصدة عشباً وندى ونسائم تتكسر فوق غلالتها أشعة الشمس لتنهمر على الأحياء برفق وفتور..!
أجد صعوبة في ولوج المكان بذاكرة عزلاء من تصورات مسبقة، هي حصيلة خبرتي النظرية به، وحدها عين الكاميرا بوسعها أن تعكس المشهد بحياد، أما عيني فمهووسة بالنبش عن اللقطات المحذوفة التي أتلفها أكثر من مخرج، لأكثر من سبب! أسير على تربة زلقة للغاية في أحد أكثر مسارح التاريخ العربي ازدحاماً بالأحداث التي تشظى حولها الرواة والمؤرخون والتبس الواقع بالخيال، لا يفصح السكون الكثيف للمكان، عن صخب الدور الذي لعبه، وضجيج الروايات المقتتلة حول طبيعته، هل كانت مذيخرة خاصرة ثورة فريدة في سبيل العدالة الاجتماعية ضربها خصومها باكراً؟! أم معقلاً للزندقة كان ينبغي أن يهدم على رؤوس دعاته؟!.. هل كانت حلماً نبيلاً في المساواة وتكافؤ فرص العيش؟! أم غولاً يفترس الأطفال والنساء ويهدد السلم الاجتماعي والنواميس المقدسة؟!
- يخطئ من يعتقد أن بمقدوره تحاشي إثارة أسئلة كهذه، في الكتابة عن مذيخرة!! ويخطئ في المقابل من يتصور أنه بإثارتها يثير حكاية ماضوية منسية لا تعني أحداً، إنك لا ترفس تاريخاً ميتاً في مذيخرة، بطبيعة الحال، فتراب الأحداث لا يزال ساخناً هناك والدماء المسفوحة عليه لا تزال لزجة ودافئة..
تفتح أمامك الطبيعة الفاتنة الممتدة على نطاق بضع مديريات، بوابة واسعة للاستجمام، فيما يفتح البحث عن السراديب المطمورة عمداً، بوابة جحيم، وصندوق شرور، من غير الآمن أن تتعرض له ولا تصيبك اللعنة التاريخية الشهيرة... لعنة القرامطة.
***
تمثل الملكية الواسعة للأراضي الخصبة، والمتمركزة في أيدي شريحة جهوية صغيرة مؤلفة من عدة أسر، مصدراً للاستقرار ـ من جهة ـ وسبباً رئيسياً كامناً للصراع، من جهة مقابلة.
يذهب معظم ريع هذه الأراضي الوفير لصالح عدد محدود من الناس هم ملاكها، فيما يعمل القطاع العريض من الفلاحين بنظام “الاشتراك” لديهم، مقابل حصة من الريع، وفي الغالب، فإن ملكية الأرض التي يقيمون عليها منازلهم، تعود للجهويات الآنفة نفسها.
إن تراتبية القيمة الاجتماعية صعوداً من الأدنى للأعلى قيمة، تنبني على تفاوت مساحات الأرض المملوكة لشخص أو أسرة ما، ضيقاً واتساعاً، وبناءً عليه فإن الفلاحين يمكثون في ذيل السُّلَّم الاجتماعي، بحساب معيار الملكية، وفي صدارته بحساب حجم العرق المسفوح.
حتى حين يشق أبناء الفلاحين طريقهم بعيداً عن العمل في الأرض، ويحصلون على مستويات تعليمية عليا، أو مواقع حزبية ومدنية مرموقة، أو يثرون من التجارة والاغتراب، فإن القيمة الخفيضة الجائرة تلاحقهم، لذا فإن اكتساب مكانة مغايرة، يبقى مرهوناً بالذهاب أقصى المستطاع بعيداً عن دائرة هيمنة هذا الفرز، دون عودة..
إن مناعة هذه التراتبية أمام المتغيرات، لا يتيح تحولاً في البنية الاجتماعية أو تداولاً للمكانة، لكنها تبقى على الأراضي الزراعية متماسكة ومزدهرة ووفيرة المحصول، كما تضاعف قدرة الأسر المالكة لها، على امتصاص كلفة الانتقال بين عهد سياسي وآخر، من هذه المناعة والسكون، فملاّك الأرض ومشائخها هم ذاتهم باختلاف مذاهب دول الحكم المتعاقبة!
تصدق مقولة الزعيم السوفياتي الأسبق، في حال مذيخرة، تماماً فـ “البقرة المملوكة حلوب” بحسب “جوربا تشوف”، الذي رأى في التأميم والملكية العامة، واحدة من أبرز معضلات نظام الحكم الشيوعي السوفياتي.
لكن ما جدوى وفرة الحليب حين تعجز شفاه الغالبية الساهرة على رعاية البقرة، عن لعقه؟! وهل التحدي أن تدر حليباً أم أن يحصل الناس على حصتهم منه، تبعاً لحاجتهم إليه وجهدهم في إنتاجه؟!
لعل أسئلة من هذا القبيل دارت في رأس “علي بن الفضل”، الذي يرى فيه مؤرخو اليسار وكتابه المحدثون، نموذجاً مبكراً لثائر اشتراكي استهدف قلب معادلة الإنتاج القائمة على الإقطاع، عبر حركة جريئة واعية، أقام على إثرها نظاماً عرف بنظام “الألفة الاجتماعي”.
من المؤكد أن رياح “مذيخرة” كانت مواتية لـ “ابن الفضل” أكثر من سواها، وتثبت ردات الفعل الشرسة على حركته أنه وضع يديه على الخاصرة الحساسة حينها لنظام الحكم الذي تعول ماليته - بصفة خاصة ـ على ريع “مذيخرة”.. أسمن البقرات الحلوب!
يشير واقع المكان الآن، علاوة على معطيات تاريخية شحيحة أفلتت من أشداق الرقابة، إلى أن حركة “علي بن الفضل” كانت حركة فلاحين، توافرت لها ظروف الوثوب إلى السطح من أشد نقاطه المكانية والاجتماعية هشاشة واختماراً، إنها حركة تحمل بداخلها مزايا ثورة، وقد تصرفت السلطة السياسية الحاضنة للإقطاع، كما تقتضي طبيعتها فأجهزت عليها قبل أن تستشري على نطاق واسع مقوضة الهرم الاجتماعي.
إن “قرمط” الجذر الذي اشتق منه مصطلح “قرامطة”، لا يعني في إحدى لهجات جنوب العراق سوى الفلاح، لكن تاريخ “القرامطة” المثخن بسوء السمعة جراء روايات خصومهم، جعل من هذا المصطلح مرادفاً للزندقة والإباحة والإلحاد وكل مشين في أذهان الناس حتى يومنا هذا.
لست بصدد غربلة تاريخ الحركة ـ بطبيعة الحال ـ قدر ما أحاول إثارة فضول القارىء لمعرفة المزيد عنها، وسأنصحه في حال تاق إلى قراءة مغايرة، بالإطلاع على أعمال علي محمد زيد، عبدالعزيز المسعودي, حمود العودي، محيي الدين اللاذقاني و.. “الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل” لعبد العزيز المقالح!
***
تركت خلفي مناخ المدينة في أسوأ حالاته، سحب الغبار التهمت زرقة السماء وأحالتها إلى صحراء شاسعة فوق سطوح المنازل، الأمزجة آيلة للعراك، الحلوق صدئه، والناس يتحركون بوجوه متبرمة كمن يسيرون لملاقاة حتفهم، أكره هذا الفصل من السنة، حيث تغدو الحياة في مدينة عزلاء من كل فضيلة بيئية، إلا من الإسمنت والقار، أشبه بالحياة في عنق ساعة رملية، تخنق الكائنات بدوران الوقت!
تدير ظهر القلب للمدينة غير آسف، وكلما تلاشت معالمها الكالحة خلفك، كلما صارت الطبيعة أكثر سخاءً ورضا..
بدت مذيخرة ـ بطبيعة الحال ـ مثل فردوس ممكن وغير متوقع، ينزوي على هامش جهل الكثيرين به، يثير فيك طريق الإسفلت الحلزوني، إذ يتثنى صعوداً وهبوطاً، مراوغاً تضاريس المكان، أحاسيس طفل ينزلق على متن مركبة داخل متاهة لذيذة من السكك، في مدينة ألعاب.
لو أن بشر غابات الإسمنت والقار المجاورة، يبرعون في تمضية أوقاتهم، بالاحتيال على تناقضات الفصول ونشرات الطقس، فسيكونون هنا في هذا المنحنى الحرج من العام تحديداً، لكننا كنا ضيوفاً وحيدين، في كنف طبيعة تملك فائض مباهج، فوق طاقتنا على الانتشاء والاستغراق..
من النادر أن تتوافر الخضرة والماء والكهرباء والطرق المعبدة معاً لمديرية من المديريات، كالحال في في مذيخرة وأخواتها.
أربكتني حقيقة أن ذلك بالإمكان ويحدث، ترى إلى أي مدى أسهم الثقل الاجتماعي لنخبة المشيخ المُلاَّك، في توافر هذه الحزمة من المزايا؟! وهل هي فضيلة البقرة الحلوب ذاتها؟!
في الآونة الأخيرة مثلاً كسرت بضعة عزل، حاجز الظلمة وحاجز شروط الانتفاع المحلية، وانتزعت ـ بأوامر عليا ـ حصة من الإنارة العمومية الموقوفة على محافظة تعز، بعد أن تعذر ربطها بنطاقها المحلي، محافظة إب!... أثارت واقعة الربط حفيظة كهرباء تعز وسلطتها، في البدء.. والأرجح أنها تغدو شيئاً فشيئاً – قضية أمر واقع، مع ضغط نخبة المنطقة وحظوتهم لدى أصحاب القرار!
- يقول أحد المشائخ الداعمين لهذا “التجاوز”: “لن نعود للظلام. سنقاتل لاستمرار الربط، في حال اضطررنا”.
بالنسبة إلى الطرق، فإنها – في التفسير الشائع منذ مطلع العقد الحالي - حصيلة الحاجة للانتشار الأمني.
 
الجوهري أن بمقدورك اليوم – أن تتكشف على ضفاف كان الوصول إليها متعذراً في تماس المحافظات الثلاث الشمالية الأبرز، إب، تعز، والحديدة.
لاسيما مع اكتمال الطريق السريع الرابط بين محافظتي إب والحديدة، والممول من دولة قطر وبإِشرافها.
تغري هذه الضفاف الساحرة والتلال ذات الإطلالات الحالمة على طبيعة فسيحة في الاتجاهات الأربعة، بنشوء سياحة بيئية ومنتجعات استجمام، انطلاقاً من بنية خدمية مأمولة تجيد استثمار جماليات المكان، ولا تقوم على أنقاضها..
تزدحم الحكايات الشعبية في هذه الأنحاء، وتستيقظ مع رنين أسماء الأمكنة التي تمرق مثل السهام في ذاكرتك.
“أرغمت الزوجة الشابة زوجها على التخلص من أطفاله لزوجته السابقة المتوفاة، فقصد بهم قفراً بعيداً، بذريعة النزهة، وأنسحب بعد أن أخبرهم بأنه – فقط – ذاهب ليتبول، وسرعان ما سيعود، لكن غيابه طال وتضاعفت وحشتهم.. ومع زوال قرص الشمس، ملأ صراخهم أرجاء القفر :
واباه، واباه- كم لك تبول.. أسقيت “عنّه، ووادي السحول..”.
حين غادرنا “مذيخرة” باتجاه إب المركز، لسعتني وحشة الأطفال وعبث مناداة فراغ الأب الغائب عمداً، أمام لافتة كتب عليها “وادي عنّة” كأن صدى الصراخ القادم من الحكاية العتيقة، لايزال يختلج في أرجاء الوادي الفسيح كثيف الأشجار والغيول المحفوفة ضفافها بقصب السكر.. على الامتداد ذاته، وغير بعيد من “عنة”، سيصدح المكان بنداء لهفة آخر :
« وامغرد بوادي الدور من فوق الأغصان وامهيج صباباتي بترجيع الألحان..».
لطالما ظل المنادى، أغنية في حنجرتي، وهاهو الآن في مرمى عيني.. هاهو وادي الدور بعصافيره وبلابله، واختلاج أشجانه.
تستطيع أن تميز هوية طبيعية للمكان، رسمت خارطتها وحدودها بالأخضر والمائي.
تحمل مذيخرة العدين بمديرياتها، الهوية ذاتها، وصولاً إلى “ذي السفال” لكن لا شيء يعيق استغراقي في المساج الذي تجريه لي أيادي الطبيعة المتقاطعة حولي، سوى الرغبة في النبش عن أكثر حكايات المكان غموضاً.
على حافة بركة ماء تنزوي في مخبأ حرجي عبارة عن أخدود مطمور بالأشجار والنباتات غير الزراعية، سألت أحد الصبية:
- ماذا تعرف عن “علي بن الفضل؟!”
كان الصبي مبللاً وعارياً إلا من سرواله الداخلي، وقال مبتسماً بحيرة وتحفظ : «ابن الفضل ملعون» واستدرك بأداء منبري قبل أن يغطس ويغيب تماماً في البركة التي يغذيها شلاّل مهيب، يرتمي من أعالي الجبل : “ لقد كان يفرق بين المرء وزوجه” !
خذي الدف ياهذه واضربي
وغني هزاريك ثم اطربي
تولى نبي بني هاشم
وهذي شريعة هذا النبي
أحل البنات مع الأمهات
ومن فضله زاد حل الصبي
يتداول القسم الأكبر من العامة والخاصة، الأبيات الآنفة المنسوبة لـ«ابن الفضل»، باعتبارها اعترافاً صريحاً من الأخير بالانحلال وفساد العقيدة، وبما أن الاعتراف “سيد الأدلة”، فإن صاحبه يستحق أبشع نهاية، وأبشع سيرة مشفوعة بالسباب والتجديف، دون حاجة لتمحيص الوثيقة الشعرية المنسوبة إليه !
في الخصومة السياسية، تتبرع السلطة بالفتوى، وتتبرع الجماهير المؤمنة بحبل المشنقة، فالشعب هو سيف الإرادة الإلهية، والسلطة هي ممثلها، وخصوم السلطة هم خصوم السماء.. لا شيء أنجع من التنكيل دينياً بالخصوم. سرعان مايتعاش العامة مع الشخص المتهم بالجبروت والظلم، لكنهم لا يتعايشون مع المتهم بالزندقة.. وقد تعايشوا مع الحجاج لكنهم لايزالون – إلى اليوم – يلعنون الحلاج، وتعايشوا مع إقطاع مركز الخلافة لكنهم لايزالون كافرين بثورات جياع الأطراف، ويبصقون على أضرحة رموزها كل حين – إن الحقيقة توجد – غالباً – في الاتجاه المعاكس لإجماع العامة المؤمنة بها.. فعقب انتكاس أي ثورة ذات مضامين إنسانية، وانتصار نقيضها، تزداد باطنية المجتمع، ويكون لزاماً عليه أن يلعن العهد البائد باستمرار، مهما كان ذلك العهد فاضلاً في يقينه، ومهما كان الحاضر مجافياً لمصالحه وجائراً.. إن التبشيع بالمهزوم والبائد، يحمل دلالة الإذعان للسائد المنتصر، و الإقرار بالولاء له.. لو لم تلعن “عبهلة العنسي، الذي أطلق عليه لقب الأسود تبشيعاً”، فأنت مرتد، والارتداد عن الإذعان لمركز الحلم الجائر، يجري تصويره ارتداداً عن الدين الذي يحتكر المركز تمثيله وتأويله عدلاً أو جوراً..
لقد نجح القرامطة في غضون أعوام قليلة، نهاية القرن الثالث الهجري، في تأويل الدين عملياً كحليف للغالبية المستضعفة، حتى تلاشى التقابل “الحتمي” بين غني وفقير، في تجربتي البحرين واليمن.. صارت الأرض التي تفرز ملكيتها الناس إلى سادة وأقنان، ملكاً لعرق العاملين في فلاحتها، وانتفت الحاجة للمال فوضع في “دور الهجرة” رهناً لحاجة العامة إليه، ولم يعد اكتسابه حافزاً للعمل، بل صار للعمل مفهوم اجتماعي إنساني عام.. وهذا ما أطلق عليه القرامطة “ نظام الألفة الاجتماعي”، تأويلاً للآية القرآنية «لو أنفقت مافي الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم..» إلى آخر الآية الكريمة.
كان ابن الفضل ونظراؤه من قرامطة العراق والبحرين والشام، خصوماً للفقر الذي استفحل بفعل إقطاع مركز الخلافة ومؤازرته لاقطاعيي الأطراف، فاتهموا بالخصومة للدين، كرد فعل طبيعي لاحتكاره من قبل القلة المسيطرة اقتصادياً وسياسياً.. وجرى طمس آثارهم والتنكيل بهم حد الفحش – ليس في مذيخرة اليوم مايدل على ابن الفضل، سوى اللعنات، وأبيات مفبركة على لسانه، تشير إلى النقيض.. إلى الحقيقة المغيبة عمداً !
دفع العجوز أصابع موهنة من تحت شمسية أكلت الحرارة لونها، وصوبها نحو ذرى جبلية شاهقة تشرف على مركز المديرية، وقال: كان لابن الفضل هناك قلعة حصينة، لن تستدل على أثر لها اليوم..
يحظى العجوز بتوقير واضح من الأهالي، فهم يخاطبونه بالأستاذ، وبدوا حريصين على الإصغاء إلى قوله الفصل في مسألة شيخ القرامطة.. أسمه أحمد المعلمي انه أقدم التربويين في المديرية على الإطلاق، وزميل دفعة لرئيس الوزراء الأسبق محسن العيني، في دار المعلمين بصنعاء، وقد سرد لي أسماء مجموعة من المشاهير تتلمذوا على يديه لكنه يتقاضى راتباً لا يليق بسجله الحافل “30000 ألف ريال لاغير”.
بدا المعلمي حصيفاً وهو يوجز بعبارة التزم فيها السلامة النحوية ومخارج الحروف، “موقفه” من ابن الفضل : «الناس فيه بين قادح ومادح»!
قالها ثم عاود شكواه من ضآلة الراتب!
***
إن رهان الأكثرية على ريع الاشتغال بالفلاحة في الأراضي المملوكة للقلة، والسكن فيها.. يضعهم تحت رحمة الملاك، وهكذا فإن موجات الاحتجاج السلمي التي تندلع بين الحين والآخر – بحثاً عن ملاذ رسمي، تتكسر، في نهاية المطاف، على صخرة النفوذ الجهوي، في دهاليز الحكومة.
بصيغة غير مباشرة، يغدو حق امتلاك الأرض، حقاً في امتلاك الحياة عليها.. كما أن الحيازات الكبيرة تجعل صاحبها كبيراً. لكن المشكلة أن تداول هذه الحيازات يجري في داخل دائرة اجتماعية ضيقة، تتصدرها أسر المشيخ التقليدية والسادة، فيما يرزح«الفلاحون والفقهاء ـ المعلمون»في ذيل قائمة الوجاهة.
يطلق أحد المثقفين من أبناء المنطقة مصطلح “القوة الناعمة” على هذه البنية، تمييزاً لها عن البنى التحتية في شمال اليمن إذ أنها تفتقر لشريحة القبائل التي تعتبر بمثابة الجيش.
يسرد المصدر نفسه ـ قصة ذات دلالة - تعكس طبيعة الجغرافيا الاجتماعية ونمطية الأدوار التي تضبط حدود العلاقة بين مكوناتها:في الثمانينيات قاتل«م ـ ق» الذي ينتمي لشريحة الفقهاء كقائد في “المليشيا الإسلامية” الموالية لحكومة الشمال ضد “مليشيات الجبهة الوطنية ذات التوجه اليساري والمدعومة من حكومة الجنوب”والتي بدا أنها تهدد سلطة المشيخ التقليدية حينها..
منتصف التسعينيات كان “م ـ ق” قد حصل على رتبة عسكرية ويشغل موقعاً سياسياً متقدماً في حزبه، حينما وجد نفسه مرغماً على حمل السلاح في وجه أحد مشائخ المنطقة الكبار، هذه المرة إثر نزاع على الوجاهة أخذ شكل نزاع على إدارة معهد..
أسفرت المواجهة عن مقتل أحد أعوان الشيخ ومصادرة سيارة تابعة له،ووضعت القضية بين يدي«الأحمرـ شيخ مشائخ اليمن» ورئيس الحزب الذي ينتمي إليه«السياسي ـ الفقي».
قال الشيخ المتخاصم: هل سمعتم ياكبيرنا بأن فقيهاً قد حمل السلاح يوماً من الأيام..وفي وجه من ؟! في وجه شيخه..
قال الشيخ المحكم: هذا اجتراء على النواميس والأعراف ،لا نقره و..أصدر أوامره بحبس “السياسي ـ الفقي” بعد ديباجة توبيخ، وألزمه بالاعتذار العلني لشيخه “ وهجر يسمع به القاضي والداني”..
لم تزحزح تضحيات “م ـق” وموقعه المتقدم تنظيمياً في حزبه، معادلة القيمة الاجتماعية، قيد أنملة، عن نسقها التاريخي الساكن،بسكون علاقات الإنتاج ونظام الحيازة الجائر.
وحتى مجاميع المهجرين وفي الغالب فإنها لا تفسر كمشكلة حقيقية يلزمها الحل، بل كفتنة يشعلها بعض المشيخ في حربهم الباردة ضد المشيخ الآخر، مستخدمين “الفلاحين الغلابى”كحطب لها..
في “سنة 303هـ”انسحب “علي ابن الفضل” ليموت بغموض وصمت بجسد مقروح إثر سم دسه في الدواء طبيب دفعه بنو يعفر إلى شيخ القرامطة طريح الفراش...
وانسحبت آثاره في المكان ، عدا سيل اللعنات و...طفح جلدي يطلق عليه بعض قرى المنطقة«حبة القرمطي» كامتداد للقروح التي فجرها السم المدسوس في جسد “ابن الفضل”...
ما من شيء يمكن أن يوقظ شبح القرامطة..
هذا هو رهان القابضين على المزرعة والضريح..التبر والتراب!
ولادة الأسطورة وموتها
يصف صاحب كتاب العسجد المسبوك، ابن الفضل بالأدب والشجاعة وفصاحة اللسان، وينسبه إلى خنفر بن سبأ، أحد ملوك اليمن..
ويقول مدون سيرة الهادي عن علي ابن الفضل إنه من رقيق الأخماس، ولد “بالجند” وأصله من “الرحبة”..وهما مكانان يحملان الاسمين ذاتهما إلى اليوم في تعز.
بدأ دعوته من “عدن لاعة” ويافع متعبداً في صومعة، وفي سنوات المجاعة 291ـ292هـ غادر الصومعة ونزل من جبال يافع رافعاً شعار “لايموت الإنسان جوعاً وجاره متخم”..
استطاع أن يخضع اليمن لسيطرته بسرعة فما أن أطل عام 293هـ حتى وجدت خلافة بغداد أن الأمر قد خرج من يدها، ووقفت حائرة أمام حروب علي بن الفضل مع حليفه القديم بن حوشب، وحروبهما معاً مع الإمام العلوي الهادي أمراء الإقطاع المحلي من بني يعفر وغيرهم.
سيطر القرامطة بقيادته سيطرة كاملة على«عدن لاعة وعدن وزبيد والزعزاع وحصون مخلاف جعفر وحصن مخدد وصنعاء وقلعة كحلان وقلعة مهاب وجزء من صعدة ونجران وبلاد خولان المتصلة بهمدان ومخلاف بي واتل وبلاد مدحج».
الأرجح أن ابن الفضل مات سنة 303هـ متأثراً بالسم الذي دسه له طبيبه في جلسة فصاد، بعد أن وعده أسعد بن يعفر أن يقاسمه الملك إن أراحه من ابن الفضل.
و..«أصاب ابن الفضل لعنه الله المرض في بدنه فتفجر من أسفل بطنه وأماته الله على أسوأ حال لعنه الله».
علي بن محمد ـ سيرة الهادي إلى الحق ص106
ملحوظة: القرمطية حركة سابقة لظهور الإسماعيلية ومستقلة عنها، تلتقي معها في القول بإمامة محمد بن إسماعيل لكنها تتوقف عنده ولا تسوق الإمامة في أعقابه كما يفعل الإسماعيليون وقد نشب بين الحركتين عداء شديد وقتال.
يعتبر “إخوان الصفا” جنوداً مجهولين من جنود القرامطة الذين اشتغلوا في مجال الفلسفة والطبيعيات وأثروا العلوم بنتاجاتهم الفكرية، ومن أشهر الشخصيات التي تنسب إلى الحركة “الخوارزمي ، أبوالطيب المتنبي، الحلاج، الخبزأرزي”وغيرهم كثيرون.
ما يلي: انعكاس للواقع أم للكبت الجنسي؟!
«وحصل بقدوم علي بن الفضل، مطر عظيم فأمر بسد الميازيب التي للجامع،وأطلع النساء التي سبين من صنعاء وغيرها، وطلع المنارة، ثم جعلوا يلقوهن إلى الماء منكشفات عرايا، فمن أعجبته أخذها إلى المنارة وافتضها حتى قيل إنه افتض عدة من البكور، وأثر ذلك الماء على السقف حتى يوجد أثر ذلك إلى اليوم..”
البهاء الجندي ـ قرامطة اليمن، ص111
 “ثم أقام بمذيخرة، يُحل المحرمات ويرتكب الفواحش وأمر الناس باستحلال البنات والأخوات، وكان يجمع أهل مذهبه في دار واسعة يجمع فيها الرجال والنساء بالليل ويأمر بإطفاء السرج وأخذ كل واحد من وقعت عليها يده..وروى أن عجوزاً محدودبة الظهر وقعت مع رجل منهم فلما تبين بها، خلاّها فتعلقت بثيابه وقالت:لابد من حكم الأمير..” (الحمادي اليماني ـ كشف أسرار الباطنية وفضائح القرامطة ص36)
ملحوظة: يُجمع العديد من المحققين لكتب التاريخ، على أن الحمادي اليماني أكثر المؤرخين افتراءً.