فيلم «فرقة البنات» محاولة لقراءة الفئة المهمشة في الضواحي الباريسية الفقير

السبت 20 ديسمبر-كانون الأول 2014 الساعة 05 مساءً / *حميد عقبي
عدد القراءات 4980


منذ الثواني الاولى للفيلم نكون في قبضة موسيقا البوب على الشاشة، مباراة رياضة كرة القدم الامريكية العنيفة، مجموعة فتيات بملابس كأنها ملابس حرب، هذه الافتتاحية تجعلنا نستعد نفسيا وفكريا لصراع واحداث قد تكون اعنف بكثير، يمكننا ايضا ان نشعر بتأثير السينما الامريكية التي تصعقك بدايات بعض افلامها منذ الثانية الاولى او ان المخرجة ترغب بشد انتباهنا للزج بنا لعالم يسوده العنف تعصف به الفوضى والغربة والاحباطات، هو كذلك عالم الضواحي الباريسية وضواحي المدن الكبرى بفرنسا، هنا يجب علينا الاشارة للسيناريو الذكي الحذق المتماسك الذي استطاع ايجاد جهات لانتاجه. فموضوع المجتمعات المهمشة مطروق بشدة، هناك مئات الافلام الوثائقية تم انتاجها بمهارة، ويتكرر طرح الموضوع بشكل كبير بمعظم القنوات التلفزيونية، لهذا السبب يكون ايجاد منتج لفيلم كهذا نجاحا يُحسب لصاحبه، بعض الجهات الانتاجية نُحِسّها تعمل على تعميق الصورة السلبية، اضافة لمزيد من التشويه.

المخرجة لم يكن فقط هدفها الدفاع عن قضية الضواحي فقط، الفيلم ايضا له رغبة للبوح بمعطيات رؤية شخصية ذاتية لواقع خاص، نجد ان المخرجة تريد الحفر بالواقع البعيد عن الخيال قدر الامكان. المسألة ليس خلق شعور بالتعاطف مع الشخصيات او القضية والانجرار لاستدرار عطف غير مُجد، لذا يخلو الفيلم من موسيقى تصويرية حزينة لمواقف بكائية.

هنا سيلين سيكاما تعود مع مريم الشخصية الرئيسية، بنت مراهقة تبلغ من العمر ستة عشر عاما تعاني من سجن الهوية، هو سجن داخلي الشعور بالعجز، وكذا سجن خارجي، عدم وجود فُرص لاثبات الذات للخروج من مجتمع مغلق ومنغلق، لا حلم هنا، فالفتاة اقصد مريم تجد الحبيب يعرض عليها الزواج بنهاية الفيلم، ترفض ان تكون مجرد زوجة تُنجب الاطفال وتعمل كخادمة تنظيف كأمها.

الفيلم سلسلة من الصراعات والرفض والتمرد.. تذكرُ المخرجة في احد حواراتها الصحافية انها اجرت بحثا بالانترنت عن فتيات الضواحي، عن العادات هناك وطريقة المشي والحركة والحديث والمصطلحات الخاصة، نجد ذلك انعكس بوضوح على الفيلم، فتكثر فيه المشادات الكلامية، والحديث بصوت مرتفع والفكهات والقفشات، يجعل المشاهد يظن ان المخرجة سوداء من هذه الفئة، كونها اقتربت كثيرا من هذا النموذج، لعلها قللت من الشخصيات حتى لا تتوه بتفاصيل ثانوية اخذت من كل شخصية ما تريده فقط، من دون المجازفة باحداث ثانوية لا تخدم حركة وتطور الشخصية الرئيسية نموذجها كان مريم.

نعود لشخصية مريم، التي تسكن في احدى ضواحي باريس، تعود من الملعب الرياضي الى ضاحيتها، الاضاءة خافتة الفتيات يمشين بحذر، نُحِسُ بذاك الخوف، مجموعة من الشباب العاطل بجوار مدخل العمارة، هناك خوف من التحرش، فهذه المناطق خطيرة يكثر فيها التحرش والاغتصاب، تبتسم مريم لاحدهم، تدخل لمسكنها هنا نكتشف أسرتها الحقيقية، اختان واحدة طفلة والاخرى اصغر منها قليلا، مريم تقوم بدور الام كون الام غائبة، ظهرت خلال ثلاثة مشاهد قصيرة ولم نلمس العلاقة بين الام وابنتها، ظهرت مرة تغسل الصحون وبمشهد اخر تعمل خادمة تنظيف.. اي ليس لها دور حقيقي. اما الاب فلم يظهر نهائيا لا حديث عنه غائب تماما، الاخ وحده السلطة فوجوده يثير الرعب لدى البنات، لم نُحسّ به اخا، هو اداة التسلط لا يتورع عن ضرب مريم يصبح عنيفا وقاسيا في مشهد يضربها بعنف كونها نامت مع صديقها اسماعيل، يصفها بالعاهرة يكرر الكلمة مرات عديدة، بعدها تهربُ من البيت، تظل علامة الضرب على شفتيها لمدة طويلة، استغلت المخرجة هذه العلامة دلالة لعنف الماضي وقسوته.

منذ بداية الفيلم استخدمت المخرجة دلالات بسيطة لكنها موحية، مثلا نرى على ورق حائط الجدار بغرفة مريم رسما لعصافير صغيرة متراصة لم تُسلط عليها الكاميرا مباشرة، كانت خلفية لا اظن هذا صدفة، اعتقد ان المخرجة قصدت به مريم بدرجة كبيرة، فهذه العصافير على هذا الورق القديم على جدار عار بمكان مُغلق من الصعب ان تتحرر من هذه القيود.

اللافت ايضا مؤثر صوتي تكرر عشرات المرات هو صوت فوضى ضربات تأتي من السقف، او من جهة الجيران، مثل هذا الضجيج امر عادي في مثل هذه المباني، لكنه كان يشعرك برجفةِ وانت في قاعة العرض، تحسبه يأتي من سقف قاعة العرض، هذا المؤثر تم استخدامه بذكاء ليعبر عن الرجفة الداخلية لشخصية مريم، لم يكن حضوره في سكن مريم فقط كان في غرفة الفندق التي يستأجرها البنات وكذا بالمدرسة عند حضور مريم مقابلة مع المرشدة الاجتماعية.

من الامور المهمة استخدام مؤثر التعتيم التام، نغوص في ظلام دامس لمدة اكثر من نصف دقيقة تم استخدامه اربع مرات! كان دلالة واضحة للانقلابات الدرامية والتحولات بعمق مريم، هو ايضا رغبة المخرجة لتذكيرنا اننا بجو فيلم يتحدث عن السود، هي رغبة فالفيلم كما اكدت المخرجة كان لتحقيق رغبتها، النقش بالبشرة السوداء ورؤية البنات السوداوات على الشاشة، لذا كان حضور شخصيات غير سوداء قليلا جدا، الحضور الطاغي هو للبنات السوداوات. اعتمدت المخرجة على اللقطة القريبة في مناسبات كثيرة لتصوير وجه مريم، ذراعها، كف يدها. كما نلاحظ ميولها لرسم اكثر من بورتريه بمواصفات جمالية التشكيل، فشخصية مريم مثلا لها ملامح طفولية، رغم التحولات الدرامية او هكذا احسستها بالنسبة لي شخصيا. مريم ظلت بذهني كطابع بريد جميل له قيمة جمالية خاصة، تركت المخرجة الكاميرا تُحسّ بالبشرة السوداء مثلا بمشهد مريم مع اسماعيل عندما تأتي لتنام معه، تطلب منه نزع الفانيلا بهدوء تطلب نزع سرواله يظهر جسده العاري الاسود تُحسحس بكفها ظهره ثم تنزع ثيابها العلوية.. شاهدنا الرغبة لتصوير البشرة السوداء خلال عراك البنات كأننا بحلبة صراع الديكة، هنا لعكس وتصوير العنف الداخلي لهذه المجتمعات لتعويض النقص الداخلي بسبب حالة التهميش والاقصاء، فالمنتصرة تُعري المهزومة، تصاب ليدي صديقة مريم زعيمة الفرقة بانكسار بعد هزيمتها بمشهد اخر تنتصر مريم تُعري تلك البنت التي اذلت رفيقتها ليدي، هنا ايضا تستغل الكاميرا الفرصة لتصوير هذه الصراعات كأنها شاهد عيان متحمس تقتنص الفرص متلذذة بهذه المشاهد، خصوصا لحظة النهاية، تستمتع بتصوير المهزومة العارية والمنتصرة وهي ترفرف بفانيلا المهزومة، التلذذ باجساد الفتيات السوداوات نراه بمشاهد بغرفة الفندق رغم صغر المساحة، الا انها كانت عالما رحبا للفتيات للرقص والغناء منطلقا للحرية، منذ انتساب مريم لهذه الفرقة كان الحدث تحولا مهما، من خلال الفرقة تعلمت التمرد ثم في الاخير تمردت على الفرقة، صرخت فيهم لاكتشاف حقيقة الواقع، فالمسألة ليس فقط عمل كل شيء بحرية وسرقة الملابس من المحلات واستغلال الاخرين، ثم تركتهم لتنضم مع عصابة بيع الحشيش، هذا التحول كان تحولا داخليا كينونتها كفتاة ما تريده وكذا تحول بالشكل بالملبس الاقرب للباس الذكور، حركات جسدها وقوفها مع الشباب كشاب اكثر منها فتاة، عدم رغبتها ان يلمسها رجل او ينظر لها بشهوة، تلبس فستانا احمر قصيرا عندما تذهب لتوصيل الحشيش، تعود للسيارة تُسرع للتخلص من اللباس الانثوي، في نهاية الفيلم ترفض ان يمس جسدها زعيم العصابة، التي تعمل معها تصده بقوة تصفعه، تغادر لسكن حبيبها اسماعيل تخبره انها تركت ذاك العمل، ترفض فكرة الزواج تتركه تقف امام مبنى سكنها ترن الجرس تظل صامتة مترددة تعود لعائلتها، أم تكمل طريقها المحفوف بالمخاطر؟

الفيلم واقعي يكشف من زاوية مهمة قضية شائكة تتجاهلها الحكومات الفرنسية التي تفضل بعض المسكنات الخفيفة قليلة التأثير من دون صرف الدواء المناسب، كون لديها تصورا ومعرفة بالواقع كونه معاشا ملموسا لكنه لا يتغير.

٭ سينمائي يمني ـ باريس

إقراء أيضاً
اكثر خبر قراءة ثقافة