من بين حنايا تلك الأرض المقدسة لساحات الحرية والتغيير

الأربعاء 01 يونيو-حزيران 2011 الساعة 06 مساءً / مأرب برس- خاص
عدد القراءات 12143
 
 

اعتاد اليمنيون على التسلط على بعضهم البعض، فلأتفه الأسباب تسفك دماؤهم وترمّل نساؤهم وتذهب ممتلكاتهم وتهان كرامتهم.

فالنظام الحاكم لم يكتفِ بزرع الفرقة وإحداث الشقاق والانقسام بين اليمنيين، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد تمكن من تشويه اخلاق اليمنيين التي خلدها المؤرخون في كتبهم ومجلداتهم. 

لقد عمد النظام على مدى العقود الثلاثة الماضية على إحلال أبشع واسوأ الأخلاق التي أدت إلى جعل اليمن اشبه ببيت دعارة لجارتها الغنية بالنفط، وإلى دفع رجالاتها نحو التقطع والاختطاف والسلب والنهب و...و...وغير ذلك. 

فيما يلي من السطور سنسرد شيئاً يسيراً من تلك الاخلاق التي تجلت في الأرض المقدسة بساحات الحرية والتغيير، وسنحاول معرفة كيف اعادت ثورة الشباب لليمنيين اخلاقهم المسلوبة عنوة.

عمر العمقي

Omar777792659@hotmail.com

ثمة فرق شاسع بين ما يحدث في ميدان التحرير وساحة التغيير بصنعاء فالزائر لميدان التحرير قد يتسنى له الاستماع للمتحدث عبر مكبرات الصوت وهو ينادي بصوتٍ عالٍ ارجوكم التزموا الهدوء فقد تم القبض على أمين الصندوق بعد هروبه منذ ليلة أمس، وسيتم الآن صرف الفلوس، في حين ستستمع للمتحدث عبر الميكرفون في ساحة التغيير وهو ينادي بأن الذي فقد تلفون نوكيا عليه الحضور للمنصة". 

في التحرير ستشاهد المؤيدين للرئيس وهم يتعاركون على الدجاج، وفي ساحة التغيير وهم يؤثرون بعضهم البعض أثناء تقديم الطعام. فما الذي حدث إذن؟ 

بيت دعارة

لم يكتفِ النظام الحاكم خلال العقود الثلاثة الماضية بزرع الفرقة بين اليمنيين، وتأليب بعضهم على بعض وإحداث الشقاق والانقسام، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد تمكن من تشويه أخلاق اليمنيين وإزالة القيم ونزع العادات والتقاليد الحميدة وإحلال العادات البغيضة والسيئة.. لست مبالغاً، فالعادات القبلية تبدلت خلال الثلاثين عاماً الماضية بعادات لا تمت للقبيلة بصلة، واخلاق اليمنيين التي خلدتها كتب التاريخ صارت كحكايا من الخيال، وطبائع اليمنيين التي توارثتها الأجيال سلبها عنوة من تركتنا، والأسوأ من ذلك انه اختزل التاريخ في شخصه تماماً كتقديمه لنفسه بصاحب القلب الكبير وأبو المكرمات والمتسامح وابن اليمن البار وما دونه الفجار! 

علي عبدالله صالح والذي أساء لليمنيين أمواتاً وأحياء، هو ذاته من قام بتمزيقهم وإهانة كرامتهم وإذلالهم وتشويه اخلاقهم.. الرجل ذاته جعل بلادنا كبيت دعارة للجارة الغنية بالنفط، واجساد قابلة لبيع اعضائها أو منحنية لجلاديها.

الكرامة

"الكرامة".. تلك مفردة ليس لها حيز في التفاصيل اليومية لليمنيين، فببساطة قد ينهال عليك وابلٌ من الشتم واللعن من قبل سائق الباص وأنت تعطيه أقل من أجرته!. 

ما كان لسائق الباص أن يفش غله فيك إلا بعد ان تلقى تلك الاهانات المتتابعة من مالك الباص ومن المؤجر وصاحب البقالة والبوفية والبنشري والمقوت، وهكذا دواليك، فكل يمني يفش غيضه في الآخر، والأسوأ من كل ذلك حينما تستمع لخطابات الرئيس صالح وهو يصف اليمنيين بأسوأ الألفاظ والعبارات. 

ثورة أخلاق

إحلال الأخلاق السيئة.. هي أحد الأسباب التي دفعت اليمنيين إلى إشعال فتيل ثورتهم المجيدة فتلك الأخلاق التي عمد النظام إلى تشويهها وانتزاعها من بين اكناف اليمنيين. ها هي ثورة الشباب تغرس بذورها مجدداً، ويوماً بعد يوم تكبر شجرة الأخلاق تلك التي ترتوي من دم شهدائنا الأبطال، ويشتد عودها من إساءة وبذاءة الرئيس المخلوع!. 

دعوني اقتطف لكم شيئاً من ثمار تلك الشجرة العملاقة، فاليمنيون في ساحات الحرية والتغيير باتوا كيدٍ واحدة، فمجند الفرقة الأولى مدرع يحمي الحوثي، والحوثي يصلي مع الإصلاحي، والسلفي يجمع الظهر والعصر على مذهب الإمام زيد، تلك النظرة السلبية تجاه العسكري اللاهث وراء اجرته تتبدل النظرة إكبار وفخر: 

الشرف والتحية للجنود البواسل أكثر الناس خدمة واضعف الناس مدخولاً.. 

ذلك هو الشطر الأول من الأغنية المحبوبة لدى جماهير ساحات والتغيير للفنان جميل قاضي والتي أجاد أداءها ولحنها، والتي تدفع الشباب للرقص عليها زهواً وفخراً بجنودنا الأبطال الذين تنحصر نظرتهم لدى الرئيس صالح في القيام بأداء العرض العسكري في يوم 22 مايو أو ردع أي تمرد حفاظاً على الكرسي حسب حديثه للمذيع احمد منصور في لقاء بثته قناة الجزيرة. 

خيمة أعرابي النت

في ساحة التغيير بصنعاء تتشكل ملامح الدولة الجديدة التي يحلم بها الشباب الثوار، والتي ترتكز على قيم اخلاقية وإنسانية عظيمة فعلاقة البائع والمشتري في ساحة الغيير لها خصوصية فريدة، يحيط بها الوفاء والصدق والأمانة، فالبائع لا تعتريه شكوك بأن بضاعته ستسرق ولا يشك المشتري بأن البائع يغشه.. ذلك التعامل الراقي وراء قيام الباعة ببيع سلعهم بالآجل من أشخاص غرباء، يبدو ذلك مقبولاً عند العرب الأوائل، لكنه صار واقعاً في تلك الساحة الخالية من خيول وجمال العرب والمكتظة بالخيام المنصوبة على الاسفلت لا الكثبان الرملية، شخصياً لا أتردد في الذهاب وجيبي خالي الوفاض نحو المطعم أو البقالة أو أي مقوت لأخذ ما احتاجه ودفع قيمته لاحقاً ودونما أي تردد من البائع استلم حاجتي واغادر. 

ذات يوم شاهدت أحد بائعي القات وهو يعد ما جمعه من المال مع انه لم يبع نصف بضاعته، فاقتربت منه وقلت له: خايف لا أحد يسرقك؟ فأجاب: لا أشتي اشوف كم قد معي.. وبعد لحظة نظر إليّ وقال: شوف قد معي 2000 ربح وهذا القات الباقي شابيعه بالضمار لدعم الشباب. 

شباب سيخلدهم التاريخ

في اليوم العاشر تقريباً لنصب الخيام بساحة التغيير بصنعاء، مررت وعدد من زملاء المهنة بموقف محرج بعد ان اخبرتنا صحفية أجنبية عن فقدان حقيبتها، فطلبنا منها العودة في اليوم التالي، وعند ما عادت إلينا قمنا بتسليم حقيبتها الشخصية، وحتى تلك اللحظة لم نكن نعرف ما بداخلها بسهولة قامت بفتح حقيبتها النسائية وحينها أصابني الذهول، وهي تقول: انا كنت مقتنعة بأن حقيبتي لن تعود، ولو عادت فإن الفلوس التي بداخلها لن تعود.. سألتها فأجابت "4000" دولار كان بداخل الحقيبة منذ ذلك اليوم وأنا اتمنى أن ألتقي بذلك الشباب الذي وجد الحقيبة وقام بتسليمها لخيمة الصحفيين بعد أن عرف من بطاقتها بأنها صحفية.. لقد أعاد هذا الشاب الحقيبة التي تتدلى عادة من اكتاف النساء وبداخلها مبلغ يربو عن نصف مليون ريال يمني وكاميرا صحفية وجهاز تسجيل وفلاش و...الخ. 

موقف آخر يرويه وهيب عبدالرب والذي فقد تلفونه وحذاءه في ليلة اعتداء جنود الأمن المركزي على المعتصمين في جولة كنتاكي فعلى إثر تعرضه للاختناق بالغاز السام فقد وهيب وعيه وبعد أربع ساعات من خضوعه للعلاج بالمستشفى الميداني عاد إلى خيمته وتبين له فقدان تلفونه ونعله عند إصابته في جولة كنتاكي، مسافة بعيدة بين جولة كنتاكي وجولة الجامعة الجديدة حيث تقع خيمة وهيب، وانطفاء الكهرباء عند جولة كنتاكي كفيل بفقدانه الأمل بالحصول عليهما.. مازحاً خيرته بينهما فاختار عودة التلفون وضياع حذائه الكوتش الذي اشتره قبل أسبوع، انطلقت برفقته نحو لجنة الأمانات فوجدنا حذاءه فقط وكان ذلك عند الفجر، بعد نوم عميق استيقظ وقت الظهر وقام بالاتصال على رقمه فأجابه أحدهم وسأله الآخر عن موقع خيمته وبعد وقت قصير جاء هذا الشاب وسلم وهيب تلفونه الضائع. 

موقف ظريف حدث لكاتب السطور، فعقب أول جمعة صلاها المعتصمون بشارع الستين فقدت حذائي واضطررت للعودة إلى ساحة التغيير حافي القدمين، وظهيرة يوم الأحد تفاجأت بحذائي وهو عند باب الخيمة. 

أخيراً.. هناك ثورة حقيقة اجتماعية وثقافية وإنسانية وأخلاقية في اليمن، لكنها وللأسف لم تأخذ حقها من الانتباه والتوثيق والرصد!.

في ساحة التغيير

حسين ينقذ قاتل أبيه من الموت!

"ثمان سنوات وأنا ابحث عن قاتل أبي" بهذه العبارة حدد حسين البيضاني الهدف الذي عاش لأجله خلال السنوات الأخيرة الماضية. 

لم يقتن ابن الثانية والثلاثين من العمر بتلك الروايات التي زعمت بأن والده هو المتسبب في الحادثة وأن منصور أطلق النار دفاعاً عن نفسه، كون مصدر تلك الشهادات هي من أقارب الجاني المتواجدين فقط حينها. 

"لم أقبل بالتحكيم ورفضت كل الوساطات" هكذا وصف الشباب النحيل الطويل القامة ذو البشرة السمراء تصلبه وتعنته حيال المشائخ والوجهاء الساعين لحل القضية. سألته فأجاب: "احنا ما نروح للدولة، من معه حق يأخذه بيده"، وذلك هو تبريره لعدم لجوئه إلى القضاء والاحتكام إليه، فهو لا يثق مطلقاً في هذا النظام الذي عجز عن خلق الثقة في مؤسساته وأجهزته الحكومية، بسبب اعتماده على الفاسدين.

على مدى الثمان السنوات الماضية والبندقية لم تفارق البيضاني بل إنها قاسمته ذات الظل، وخلال تلك المدة أخفق مرتين في أخذ الثأر من قاتل أبيه: "المرة الأولى عند المفرق – التقاطع – والثانية هرب مني وأنا أطارده في الجبل".

في مطلع مارس الماضي انطلق حسين باتجاه العاصمة صنعاء لتحصيل ديونه، وفي تلك الأثناء أخبره أحد المدنيين بأن منصور متواجد في صنعاء، وبعد مضي يومين من البحث والتحري تبين لـحسين بأن غريمه موجود في ساحة التغيير!، في مساء الثلاثاء الموافق 15 مارس 2011م استقرت قدماه أمام المنصة الإعلامية للساحة وليبدأ حينها مهمة البحث عن قاتل أبيه.

 أشياء كثيرة كانت تشده وتلفت انتباهه وتدفعه للإهمال في البحث عن منصور، ودونما أسباب كان لأحداث جمعة الكرامة أثر بالغ في نفسه التي لا تتقن إلا لغة الانتقام والثأر والرد بنفس المكيال، إلا أنها كانت تصرخ "سلمية سلمية" بتعجب يقول:" كنت أصيح مثل الشباب" ياللعار يا للعار.. سلمية وتضرب بالنار"، وزاد قائلاً: من العار في تقاليدنا أنك ما ترد بسلاحك على من اعتدى عليك!!".

في ذلك اليوم قرر حسين عدم العودة إلى مسقط رأسه إلا بعد أن يسقط النظام. 

إسقاط النظام.. هو الهدف الذي يعيش لأجله الآن، وبدون تلك البندقية يسعى حسين لتحقيق أحلامه المستقبلية بالعيش في حياة كريمة يلفها الأمن والعدالة، حد قوله. 

كان حسين أحد المشاركين في المسيرة السلمية التي تم الاعتداء عليها في شارع الجزائر من قبل الحرس الجمهوري والأمن المركزي وفي تلك الأثناء حدث ما لم يكن يتوقعه أحد.. يقول: "عندما أطلق الجنود القنابل الغازية، سقط العديد من الشباب وتفرقت المسيرة، وكنت أقوم بسحب المصابين والجرحى حتى لا يتم اختطافهم، وفجأة رأيت منصور.. غريمي يا ناس، رأيته وهو مصاب بالغاز السام، فقمت بسحبه ورشة بالبيبسي ووقفت (متر) – دراجة نارية – وقمت بإسعافه إلى المستشفى الميداني وانقذته من الموت" وزاد قائلاً: والان قبلت تحكيمه لي في قتله لوالدي وقلت له: بعد الثورة لنا كلام انشاء الله".

من أين لشباب الثورة كل هذه الأموال؟

تبدو ساحة التغيير بصنعاء كسوق مدرٍ للربح الوفير والسريع في آن واحد. فمن أين لشباب الثورة كل هذه القدرة الشرائية، ومن أين لهم تلك الأموال التي دفعت رجال الأعمال إلى استحداث سبعة مطاعم فاخرة، وإلى فتح ما يربو عن "140" بقالة جديدة، وإلى شراء ما يعرضه أكثر من "150" بائعاً متجولاً على مدار الساعة، وكذا شراء ما يعرضه بائعو القات في أسواقهم الستة الجديدة الممتدة على مدى ساحة التغيير، كل هذه التساؤلات وغيرها سنحاول الإجابة عليها فيما يلي من السطور: 

عشرات الملايين من الريالات تدفقت من المتبرعين إلى خزانة اللجنة المالية لشباب الثورة، لكنها لم تفِ بالغرض المطلوب منها كونها لا تمثل سوى النصف من نفقات المعتصمين، فمليون ومائتا ألف ريال هي تكاليف الوجبات الغذائية لليوم الواحد والتي تمثل لما يقل من نصف عدد المعتصمين المصدر الرئيسي للتغذية في حين يعتمد ما يزيد عن نصفهم على مصادر أخرى للغذاء. وجبات الإفطار والعشاء للمستفيدين من تغذية اللجنة المالية تنحصر على الفول أو الفاصوليا وعند تعذر الطباخة يتم اللجوء إلى الجبن المثلث، في حين تنحصر وجبة الغذاء على الرز والزبادي والقليل من الطبيخ، كما يصل إلى لجنة الخدمات والتغذية بين حين وآخر على مدار اليوم مواد غذائية تم إعدادها وطباختها في المنازل أو المطاعم، وهذه عادة ما يتم تقديمها لمن تأخروا عن الحضور أثناء تقديم الوجبات الرئيسية. 

وما يميز المطعم المركزي للمعتصمين أن المواد الغذائية متوفرة على مدار الساعة، فما إن تنتهي الوجبات التي تكفلت اللجنة المالية بدفع ثمنها حتى تصل المواد الغذائية من المتبرعين.. بالنسبة للفريق الآخر والذي لا يعتمد بشكل رئيسي على ما يقدمه المطعم المركزي لساحة التغيير، فإن تلك الوجبات الغذائية عادة ما يكون مصدرها هو المطاعم المتمركزة بساحة التغيير، في حين تكون الجهة المتكفلة بدفع القيمة النقدية لتلك الوجبات الغذائية هم رجال الأعمال والذين يقومون بالتكفل بدفع النفقات اليومية لعددٍ من مخيمات المعتصمين، كذلك هناك ما يسمى بالغرم القبلي حيث يقوم أبناء القبيلة جميعاً بدفع مبلغ معين ويتم تجميع هذا المبلغ وتسليمه لابناء القبيلة المعتصمين وعند قرب نفاذه يعاود أبناء القبيلة صنيعهم السابق. 

إضافة إلى ذلك هناك خيم يقوم ساكنوها بتحمل نفقاتهم بشكل متساوٍ، وأخرى يتولى شخص تدبير شؤونها عبر علاقاته مع الميسورين، كما أن هناك خياماً أخرى تعتمد على جلب الطعام من منازلهم، وعادة ما تكون هذه الخيم لأبناء الأسرة الواحدة وكذا أبناء الحي الواحد. 

ومع كل ذلك، ليس هنالك ما يدفعك للقلق من الجوع، فمن السهولة اللجوء إلى أي خيمة والتهام طعامهم دونما دعوة مسبقة أو أخذ إذن بذلك، كذلك يمكنك الايعاز لأحد المعتصمين بأنك تريد شراء طعام أو قات أو أي شيء وحينها ستحصل على المال دونما حرج لأن كل المتواجدين هم أفراد أسرتك وأبناء شعبك. 

خلاصة القول إن ثورة الاخلاق دفعت اليمنيين لتقاسم أموالهم عن رضا وطيبة قلب.. 

إقراء أيضاً
اكثر خبر قراءة سوبر نيوز