المنسيون: تجارة «العبيد» في اليمن

الأربعاء 25 أكتوبر-تشرين الأول 2017 الساعة 08 صباحاً / مأرب برس أسماء خليفة
عدد القراءات 5182


علمت أنني عبد من كلام والدي منذ الصغر، الفرق بيني وبين الطفل العادي أن الأخير ينام في حضن أمه ويخطط لمستقبله، أما العبيد فلا يعرفون معنى كلمة مستقبل.

بهذه الكلمات يدحض الطفل اليمني المحرر حديثًا من الرق «شفيق» (13 عامًا) مزاعم كل من يظن أن العبودية انتهت، داعيًا العالم لتحويل أنظاره إلى الأطراف الشمالية للجمهورية اليمنية بالقرب من الحدود مع المملكة العربية السعودية، حيث الصحراء اللامتناهية التي تُخبئ في طياتها قصص مئات من العبيد المنسيين، لتعود عجلة التاريخ باليمن إلى عصر القرون الوسطى.

يرزح نحو 500 شخص تحت وطأة العبودية داخل اليمن، حيث تزدهر تجارة العبيد، خاصةً في محافظة الحديدة غرب صنعاء، والكويدينة وخيران الخليل بمحافظة حجة شمال العاصمة، وذلك وفقًا لتحقيق نشره موقع «المصدر» (صحيفة أسبوعية يمنية مستقلة)، وهو ما كشفت عنه قصص مئات من حالات الاستعباد.

الحديث عن ظاهرة العبودية في اليمن، يأتي عقب مرور 69 عامًا على إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومُضِيّ ما يزيد عن نصف قرن على الثورة اليمنية 1962 التي نادت بالتحرر من الطغيان والاستعمار، وما يقارب ستة أعوام على ثورة 11 فبراير/شباط 2011، التي تمردت على الظلم والطغيان، بينما لا تزال صنعاء غارقة في جميع أنواع الرق.
قصص منسية
«قناف»

كانت البداية في عام 2010، حينما طفت على السطح أول قضية لبيع رجل بوثيقة رسمية، حيث كشف المرصد اليمني لحقوق الإنسان عن حالة رق مُثبتة في محكمة يمنية، سجلت بيع رجل مقابل نصف مليون ريال يمني (21 ألف دولار) في إحدى مديريات محافظة حجة، ومسجلة بسجل البصائر برقم 98/ 1429هـ.

وصادق قاض يمني على صك بيع وشراء أحد العبيد، ما أثار ضجة واسعة في البلاد حول القضية التي عُرفت إعلاميًا باسم قضية «العبد قناف ابن الجارية سيارة».

وبرّر قاضٍ يُدعى هادي أبو عساج – والذي قرر انتقال ملكية قناف من سيده الأول حامد جبران إلى الشيخ عبد الرحمن سهيل بعد شرائه من سيده ككفارة لتسبب الشيخ في مقتل أحد المارة بسيارته – عملية البيع في أحاديث صحفية بالقول: «الهدف من تحرير قناف من العبودية التي يعيشها، فالمشتري نيته هي العتق لا التملك».

وإن حالف الحظ قناف وأعتقه سيده الجديد، فإن مصير إخوته الثلاثة فهد وفيصل وشعية، الذين يعانون العبودية لدى ثلاثة أسياد مختلفين، لا يزال يمثّل هاجسًا لديه، وهو المدرك لمآسي العبودية وقسوتها.

الجدير بالذكر، أن العبد المحرر «قناف» عاد لحياة العبودية بعد أن عجز عن توفير مصدر رزق يعيله، أو إيجاد أي جهة تدمجه كحر في المجتمع.

نسيم بعد تحرير أشقائه

لم يعرف نسيم معنى الحرية، فجميع أفراد عائلته عبيد يملكهم سيدهم في منطقة حجة غرب العاصمة اليمنية صنعاء، وعندما كان يبلغ من العمر ست سنوات، قالت له والدته «إنه عبد، وعليه أن يطيع أوامر صاحبه».

كانت حياة نسيم بائسة لكنها أصبحت أسوأ عندما مات سيده؛ فبعد وفاته تقاسم ورثة السيد من الأبناء ما ورثوه من والدهم وأصبحت عائلة نسيم جزءًا من هذا الميراث، وضمن ذلك التقسيم.

وفي عام 2013، تمكن الناشط الحقوقي ومدير مركز «وثاق» لحقوق الإنسان، «نجيب السعدي»، من تحرير نسيم بعد محاولات عديدة من التفاوض مع سيده، حيث تتبعت قناة الجزيرة في تحقيق تلفزيوني «الصندوق الأسود» مراحل تحرير شقيقي نسيم، عبدالله وشفيق، من سيدهما الذي ورثهما عن أبيه.

يقول السيد الذي يملك العبدين في الفيلم الاستقصائي تحت عنوان «عبودية في اليمن»، والذي بثُ عام 2014: «قسّمنا ستة عبيد كان يملكهم والدي مع التركة، كالأموال والأرض والمحلات والماشية»، مُضيفًا «العبد يشتغل دون مقابل، أمر العبودية عندنا طبيعي، وكل واحد عبيده عنده وعيب يفرط فيهم».
العبيد في اليمن
نسيم العبد المحرر في اليمن.
«مبارك»

الشاب العشريني مبارك لديه سبعة أشقاء وشقيقات، لم يضع قدمه خارج القرية، حيث وُلد ضمن عائلة من المستعبدين ورثها سيدهم، وكان والد الشيخ محمد بدوي قد اشترى والدي مبارك قبيل فترة وجيزة من ثورة اليمن عام 1962 التي ألغت الرق.

مبارك ضمن عشرات العبيد من ذوي البشرة السوداء الذين لا يميزون تاريخ ميلادهم ولكنهم يعلمون أنهم كانوا عبيدًا منذ الولادة. لم يعرف مبارك أي حياة أخرى سوى العبودية، وقال لوكالة فرانس برس: «كلما اعتقدت بالحرية، أسأل نفسي: أين سأذهب؟».
أحوال بائسة وحقوق مسلوبة

بحقوق مسلوبة وانتهاكات بشعة يُساق مئات من اليمنيين مقيدين بسلاسل الرق، في دولة من أشد البلدان فقرًا في الشرق الأوسط.

يفتقر العبيد لجميع الحقوق الإنسانية والمدنية، بما في ذلك حق التعليم والصحة، فلا يمكنهم أن يحصلوا على البطاقة الشخصية ولا على جواز السفر كالمواطنين الآخرين، كما يُستخدمون في الدفاع عن القبيلة، وهم ليسوا مُخيرين في قبول أو رفض العمل الذي يقومون به والذي يجبرون على ممارسته تحت ظروف غير إنسانية.
أما النساء، فيُطلق عليهن «الجواري»، حيث يُمارس معهن الجنس من قبل أسيادهن، كما يمكن للسيد الذي يمتلك جارية أن يُدخل عبدًا عليها لليلة واحدة؛ حتى يكون أولادها عبيدًا عنده، بالإضافة إلى أنه يتم إنساب أبناء الجواري إلى أمهاتهم من أجل وصمهم مجتمعيًا واستمرار استعبادهم (كما في حالة قناف بن سيارة).
وقد كشفت وزارة الداخلية بصنعاء أن سلطات الأمن تقوم بعمليات تعقب وبحث عن نساء قيل إنهن يقمن باختطاف وسرقة الأطفال؛ بغرض بيعهنّ كعبيد. وهناك عدد كبير من العبيد في اليمن من ذوي البشرة السمراء باعتبارهم من المهاجرين الأفارقة الذين هاجروا إلى اليمن من أفريقيا، ويجدون أنفسهم مدينين لرجال الأعمال الذين ساعدوا في دفع مرورهم.
يعيش العبيد في اليمن معاناة حقيقية في مرحلة ما بعد التحرير، حيث يلجأ بعضهم إلى العبودية الاختيارية في ظل عدم توفر العيش الآمن، مما يجعلهم مستعبدين حتى وإن كانوا قد تحرروا شكلاً بسبب الفقر والأمية، كما يتم إجبار أبناء «سلالة العبيد» على الابتعاد عن الحضر، والعيش في الأكواخ بشكل اضطراري، وكذلك الحرمان من امتلاك الأراضي.
تقارير المنظمات الحقوقية
المنظمات الحقوقية باليمن تعمل جاهدةً عبر الدراسات الميدانية للكشف عن عدد العبيد الذي تعج به بعض المدن اليمنية خاصةً المدن النائية والمحافظات الحدودية، حيث كشف تحقيق أجرته مؤسسة «وثاق» عام 2012، استنادًا إلى ستة أشهر من العمل الميداني، عن 190 حالة استرقاق في ثلاث مقاطعات في شمال غرب البلاد.

وأطلقت بعض الجهات الحقوقية عدة حملات للقضاء على العبودية، على رأسهم منظمة «هود» التي دشنت في يوليو/تموز 2010 حملة وطنية ضد الرق باليمن، وهذه الحملة لا تستهدف، كما يقول منظموها، السعي فقط لتحرير المستعبدين، وإنما تتضمن الملاحقة القضائية للأشخاص الذين يرفضون عملية التحرير، إضافةً إلى السعي مع السلطات لتوفير الظروف المعيشية للمحررين ليعيشوا بقية حياتهم بشكل طبيعي مثل بقية البشر، وتضم الحملة لجنة مكونة من علماء دين وأعضاء في البرلمان اليمني وشخصيات اجتماعية مهمتها التفاوض مع الأسياد من أجل إعطاء الحرية للمستعبدين.
وتُطالب المنظمات الحقوقية الرئيس عبد ربه منصور هادي والحكومة اليمنية والمنظمات الدولية بالتدخل العاجل لإنهاء معاناة تلك الفئات وشعورهم بالتهميش، والعمل على تعويضهم عبر منحهم منازل وإعادة تأهيلهم اجتماعيًا ونفسيًا.

ومن جهته، قال كريستوف ويلكي، مسئول ملف اليمن في منظمة هيومان رايتس ووتش: «نحن نتابع هذه القضية وهناك بالفعل ظروف مشابهة لأوضاع الرق والعبودية باليمن، وهذا أمر لا يُشكل مفاجأة بالنسبة لنا نظراً لضعف سيادة القانون وسيطرة الدولة».
السلطة اليمنية: «إنكار» علني و«حرب» خفية

نجحت السلطات اليمنية لفترة طويلة في دفع قضية العبيد إلى الانزواء تحت مظلة من إنكار متواصل في وجود تلك الظاهرة من الأساس، الأمر الذي أرجعه مراقبون إلى خشية السلطات في صنعاء الدخول في صراع مع القبائل القوية، التي تشكل العمود الفقري للمجتمع اليمني بشأن قضية الرق.

وضاقت السلطات المحلية بما نشرته صحيفة «المصدر» فقامت بإطلاق تهديدات من مسئولين أمنيين للصحفيين بالجريدة المستقلة حال نشر المزيد من قصص المستعبدين، بحسب عاملين بالصحيفة، كما أن أي محاولة من المنظمات الحقوقية لتقصي معلومات متعلقة بملف الرق باليمن يجعل المنظمة هدفًا لقمع الأجهزة الأمنية.

موقف السلطات اليمنية من قضية تحرير العبد قناف بن سيارة طرح عددًا من علامات الاستفهام، حيث تم تمرير صك نقل ملكية العبيد بدون تحرك السلطات، وعندما سادت حالة من الجدل داخل محافظة حجة الساحلية تم إرسال حملة أمنية لإسكات النشطاء، وتم عزل القاضي صاحب الحكم، واختفت بالتبعية أخبار «قناف» تمامًا عن وسائل الإعلام.

«التواطؤ الحكومي» بلغ مداه حينما تم الكشف عن وجود مشايخ وشخصيات نافذة بعضهم أعضاء في مجلس النواب اليمني، ينتمون للنظام السابق (علي عبد الله صالح)، ويمارسون استعباد الفقراء وتقييد حرياتهم وتسخيرهم للعمل بلا مقابل، بعلم السلطات وبمخالفة للقانون، بحسب تقرير أصدرته «منظمة وثاق للتوجه المدني».

يُشار إلى أنه تم إلغاء الرق رسميًا في اليمن بعد ثورة 1962. وبموجب القانون اليمني، فإن العبودية تواجه بعقوبات صارمة تصل إلى السجن، حيث إن الدستور اليمني يُجرّم الرق، كما أن قانون الجرائم والعقوبات رقم 12 لعام 1994م بمادته 248 نص على أنه «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن عشر سنوات لكل من باع أو اشترى أو تصرف أي تصرف بإنسان».

في كل الأحوال، لا يمكن تبرير غياب السلطات وتقاعسها عن اتخاذ إجراءات رادعة إلا في سياق منطق العبودية التي يمارسها الحاكم في اليمن على محكوميه.