توكل كشخصية بديلة لفؤادة
د.عبدالمنعم الشيباني
د.عبدالمنعم الشيباني

مرةً اخرى مع توكل كرمان كرمزية نسائية معاصرة للتغيير والثورة في بداية العقد الثاني للقرن الواحد والعشرين الميلادي.. ليس حديثنا في المقالة سياسياً اعلامياً تقليدياً ولكن حديث الادب والنقد وحديث الرواية والسينما-السينماء المصرية بالذات في عصرها الذهبي (منذ عام 1941-1974 على الاقل)، الفترة الذهبية للرواية والادب والسينماء بمصر حيث خلدت الشاشة المصرية مايساوي اربعين فيلماً وعملاً روائياً اجتماعياً وعاطفياً وسياسياً وتاريخيا لأبرز الروائيين المصريين والعرب وترجمة لأعمال عالمية، ابرز هذه الأعمال الروائية التي جسدت ابداعية الواقع الادبي على الشاشة المصرية "الأرض" (رواية الكاتب والمفكر عبد الرحمن الشرقاوي)، واا سلاماه (علي احمد باكثير)، الناصر صلاح الدين(محمد عبد الجواد وآخرون)، دعاء الكروان (طه حسين)،السمَّان والخريف (نجيب محفوظ)،الجريمة والعقاب (من روائع الكاتب الروسي دوستوفيسكي)، شيئٌ من الخوف(ثروت اباظة) وغيرها من عشرات الأفلام الخالدة لايتسع المقام لذكرها وذكر اسماء المؤلفين الروائيين وتاريخ كل رواية.. اعيد من جديد -بشيئً من التوسع والإضافة والتنقيح- ماكتبته في حلقتين سابقتين عن رواية (شيئٌ من الخوف)-موضوع الدراسة للكاتب المصري الكبير ثروت اباظة (1927-2003) رواية اجتماعية سياسية حققت نجاحاً كبيراً منذ اصدارها عام 1969 ثم تجسيدها سينمائياً على يد المخرج حسين كمال، من بطولة محمود مرسي في دور(عتريس)، المطربة والممثلة شادية في دور(فؤادة)، يحيى شاهين في دور(الشيخ ابراهيم)..تدور احداث القصة في كَفر "الدهاشنة"..اي في قرية او مديرية من قرى الفلاحين المصريين (الغلابة) المقهورين بسلطة العُمدة الطاغية المسنود بالرجال والعتاد والظُّلم.

الروائي ثروت اباظة من الكتاب والادباء المدافعين عن جمال اللغة العربية الفصحى بمصر واستعمالها كلغة للكتابة الأدبية، ويمثل ثروت اباظة مدرسة الإنتماء العريق للثقافة العربية والإسلامية في مواجهة انصار العامية والتغريب والفرنكفونية الفرنسية من امثال طه حسين وسلامة موسى وغالي شكري ولويس عوض، ظلمه النقاد والإعلام بسبب اعتزازه بأصالة الإنتماء، وله مقالاتٌ ومناظراتٌ ترد على تيار طه حسين التغريبي ومدرسة التقليد للغرب.. عنوان الحلقة التحليلية الروائية هذه لم يكن حديثاً عارضاَ ولا موجةَ عابرةَ في دراسة شخصية توكل كرمان، ابرز معارضة سياسية عربية يمنية في مستهل القرن الواحد العشرين...موضوع الدراسة المختصرة هذه توحي ان الكاتب الروائي ثروت اباظة جسَّد بشخصية (فؤادة) في روايته (شئٌ من الخوف) انموذجاً للشخصية النسائية المعارضة لواقع الظلم الإجتماعي وينطبق ايضاً على واقع الظلم السياسي كشخصية يمكن قراءتها في اكثر من مناسبة او مكان ببدائل نسوية قابلة للتكرار او الإضافة والإثراء.. في ميدان النقد والتحليل الأدبي يتكلمون –بإيجاز واضح وبسيط للقراء- عن فكرة مفادها أن الروائي أو الكاتب يعرض بدائل شتى للواقع الإجتماعي والسياسي سواءً من حيث الشخوص أو البيئة الإجتماعية أو الواقع الإجتماعي والسياسي، حيث يتخيل الكاتب الروائي هذا الواقع بصور كثيرة يمكن حدوثها، فهي قابلة للحدوث في الواقع وممكنة التصور بتصويرات كثيرة وصور وبدائل كثيرة للحدث وللشخصية أو الشخوص..، حتى قالوا أن الوظيفة الأساسية للكاتب هي التفكير ببدائل ممكنة لتغيير الواقع أو التعبير عنه.. ببساطة أكثر واقعك الإجتماعي والعائلي في صنعاء صورة محددة لكنها ستختلف لو كنت في عدن أو دمشق أو بيروت مثلاً،حيث لا يوجد صورة نهائية لواقع أجتماعي محدد ولا فكرة تخيلية واحدة لأنشطة وإنجازات الفرد والمجتمع، ومن ثم يتنوع حتى أشكال الظلم السياسي والإجتماعي بصور وبدائل ونماذج كثيرة يمكن للكاتب تخيلها وإنتاج صور كثيرة لها تشترك وتتفق خصائصها في أكثر من زمان ومكان بتنوعات متشابهة أو مختلفة.

وعلى هذا الأساس شخصية العُمدة الظالم (عتريس)- في رواية ثروت اباظة المذكورة- يقتنع بها كل من قرأها او شاهد الفيلم لأنها نسيجٌ روائيٌّ معقولٌ ومصدَّقٌ ويمكن حدوثه ومشاهدته في واقع المجتمع سواءً في مصر أو غيرها، وكذا شخصية (فؤادة) التي تصدَّتْ لظلم وجبروت عتريس ورجاله ، شخصية يتفاعل المشاهد او القارئ معها بكل عفوية وانسيابية، فهي شخصية موجودة في الواقع بنماذج نسائية كثيرة تلعب نفس الدور في المقاومة والتصدي لظلم العُمدة (مصر) أو الشيخ (اليمن) مثلاً ، ولهذا لو عاش الكاتب ثروت اباظة في اليمن ورأى ( توكل) لما تردد ان يتخذها شخصيةً بديلةً لـ (فؤادة) بعرض آخر مختلف عن عرضه لدور(فؤادة) أو مقارب لها وبتغيير في الفكرة من الإجتماعية الى السياسية علماً ان الرواية- التي بين ايدينا- هي سياسية في رمزيتها ومعالجتها للتصدي للطغيان المتسلط والمستقوي بالمال والعتاد على رقاب الضعفاء وحتى اموال وعتاد عتريس هي من اموال الفلاحين تحت طائل الاتاوي التي فرضها العُمدة بالقوة والتي يدفعها الفلاحون وهم صاغرون او خائفون او مجبرون.. الفرق هنا في الزمان والمكان، لكن السيكولوجية البديلة واحدة، وقلتُ في حلقة سابقة بعنوان (توكل كرمان في تناص مع الشابي)-حين اطلقتْ توكل عبارة انفعالية عفوية (عدو الحياة)- قلتُ ان (توكل) في لحظة فكرية وشعورية من التوافق والتناص والإقتباس العفوي في اللا شعور مع قصيدة ابي القاسم الشابي التي مطلعها:-

الا أيها الظالمُ المستبدُّ *** عدوُّ الإلهِ عدوُّ الحياه

التأمل الكوني للنص المنظور: شخصية المناضلة الفريدة في تكوينها الإنساني الثائر النبيل توكل كرمان، ثم عبارتها في مقالتها المكتوبة:(عدو الحياة) ، والقراءة المتأملة للنص المكتوب المسطور للشابي الا أيها الظالم المستبد، تناص كوني وإنساني وتناص إبداعي امتزج فيه المسطور بالمنظور كلفتة كونية بديعة أسرتْ لب وفكر المشاهد أو القارئ أو المتذوق أو الجمهور أو جماهير الشعب أو عشاق الشعر والفكر والنقد او انصار النص وعشاقه ...الى آخره .. يعني ببساطة وإيجاز، امتزجتْ إنسانية وثورية وكونية الشاعر الشابي بلحظة انفعالية غير مقصودة مع كونية انسانية انفعالية نبيلة ومع عبارة مكتوبة في اللاشعور (عدو الحياة) لـ توكل ومع شخصية توكل نفسها كـ كتاب انساني منظور او كـ نص مشهود يقرأه الشعب.

وكقراءة أزلية لحركة الكون يصح في هذا التناص العكس ولا يهم هنا من بدأ كتابة النص أولاً، لأن مقاييس الزمان والمكان المادية الأرضية يتم تجاوز حدودها وكسر نواميسها لمصلحة تناص أزلي مدون ومسطر مسبقاً في الفطرة الإنسانية السرمدية.. مثال آخر يوضح مفهوم اختراع البدائل التصويرية الروائية للواقع الإجتماعي والسياسي والتاريخي احياناً، قصة (عنترة بن شداد) بطولة فريد شوقي (عنترة) و كَوكا (في دورعبلة)..مشاهد ووقائع الفيلم او القصة تقنعكَ كمشاهد او قارئ أن هذا بالضبط هو ماحصل من قصة الفارس عنترة بن شداد مع قومة بني عبس وقصته مع حبيبته (عبلة) علماً ان الواقع التاريخي الحرفي للقصة ربما يكون مختلفاًُ تماماً لكنْ ما شاهدناه في السينما من خيال روائي تصويري وحواري كان مقنعاً جداً..، هذا هو البديل الروائي السردي للواقع التاريخي.

توكل كشخصية بديلة لـ فؤادة في رواية ثروت اباظة

 
 

شخصية (فؤادة) في رواية ثروت اباظة- من هذا المنطلق-ليست هي الشخصية النهائية لهذا الدور بل هي بديل واحد من مئات البدائل لشخصية ودور (فؤادة) بوقائع بديلة كثيرة مشابهة ومقاربة وممكنة الحدوث في الواقع السياسي والإجتماعي.. ملخص رواية (شيٌ من الخوف) ان فتاة ريفية فلاحة فقيرة اسمها (فؤادة) تحب حفيد العُمدة الفتى الريفي البريئ الشهم (عتريس)، لكن جد الفتى (العُمدة الجد) رجلٌ ظالمٌ شديد القسوة والبطش على الفلاحين، ومسكونٌ بهاجس من سيرث العمادة أو العمودية من بعده فلا يجد غير حفيده البريئ (واسمه عتريس ايضاً) الذي يحب السلام والحَمّام وله قلب اخضر كقلوب الفلاحين،طفل البراءة والطُّهر والصفاء بصفاء ريف الفلاحين الطيبين، فأول شيئ يفكر فية العُمدة الجد هو كيف يحيل حفيده عتريس من حياة البراءة الى حياة القسوة والعنف كتدريب عملي له ليرث العمودية من بعد جده كعُمدة قوي لا يرحم ولايشفق وهذه هي مواصفات العُمودية الحقة في الدهاشنة (كّفر الفلاحين)-من وجهة نظر جده عتريس العُمدة الطاغية الذي نكَّل بالفلاحين وفرض عليهم الاتاوات وحاربهم في قوتهم واذلهم وخطف ابناءهم وشبابهم حتى قُضي على الكثير من شباب كَفر الدهاشنة اما اغتيالاً او تعذيباً حتى الموت وحتى المواشي والحيوانات في الكَفر لم تسلم من الموت والتسميم او يسوقهارجال عتريس غنائم للعُمدة، فأول ما يفاجئ به الفتى البريئ ان ينزع جده العُمدة الحَمّامة من يده ثم يذبحها بالسكين بقسوة فيرميها مضرجةً بالدم على وجه الفتى البريئ، كأنما يقول له ان خليفتي من بعدي لا ينفع ابداً ان يكون في مثل حبكَ للحَمام والطيور والطهر البريئ الساذج بسذاجة وطهر الفلاحين في الدهاشنة.

ويشب عتريس(الحفيد) الذي كان بريئاً، يلعب مع الحَمَام ويلعب بدمية لشكل حصان يمسح عليهما بانامل الطفولة البريئة الساذجة، ويشب الفتى البريئ (او الذي كان بريئاً قبل ان يعلمه جده ركوب الحصان والرماية ) ويشب معه حبه لرفيقة صباه (فؤادة) التي تحدت يوماً عتريس (العُمدة الجد) مذ كانت طفلةً ولم تكن تفر من غطرسة موكبه كما كان يفر سائر الصبيان، تحدته وهي طفلته وهزمت كبرياءه وهي لم تبلغ الثامنة بعد، لكن عتريس -الفتى الصغير البريئ-لم يعد اليوم ببراءة الأمس، براءة الصبا فهو العُمدة الشاب من بعد جده الذي هلك مقتولاً على يد احد شباب الفلاحين كجزء من انتقام طبيعي من عُمدة اهلك الحرث والنسل واباد شباب الكَفر وايتم اطفال الدهاشنة وارمل نساءهم، يلقنه جده القتيل-وهو ينازع اللحظات الأخيره القسم انه سيكون العُمدة الوحش المنتقم من الفلاحين بقسوة لا ترحم ثأراً لجده وامجاده كعُمدة قوي وجبارللدهاشنة، قتلتْ البراءة بداخله وصار عتريس البريئ شخصاً آخراً وعتريساً آخرأ، يسلك مسلك جده في القسوة على الفلاحين وزيادة في ممارسة كل أصناف التخويف والظلم والبطش عليهم، أرهبهم، وداس رجاله بحوافر الخيل على أكواخ الفلاحين الضعفاء والغلابة، ولم يوجد من يوقف هذا الخوف ومن يوقف (عتريس) وظلمه لأهل البلدة (الدهاشنة) غير (فؤادة) حبه القديم ورفيقة صباه، وقبل ذلك الشيخ ابراهيم (الرجل المتدين القوي في ايمانه) اول من قال للعُمدة (لا) وحرَّض الناس على قولها والتحرر من الخوف الذي يسكنهم ويستبد بهم، الشيخ ابراهيم-المتدين الحقيقي-الذي عرف ان الصلاة معناها توحيد الواحد الاحد ورفض العبودية لسواه، يحرضهم على قول كلمة (لا) التي اعجزت سكان الكَفر، يخافون من قولها، استعبدهم عتريس بكل جبروته واستمرأوا هذه العبودية ورضوا ان يدوس عتريس ورجاله صباح مساء على بقايا كرامتهم الآدمية، يقول لهم الشيخ ابراهيم: ( لولا سكوتكم ما ازداد هذا الطاغية طغياناً...وان من يسكت اليوم عن الظلم سيدفع الثمن من كرامته وعرضه، وسيدفع الثمن غداً ليس هو وحده بل كل الناس في البلدة وان الرفض لأعمال عتريس ومقاومتها انقاذ للدهاشنة كلها..وان ما وقع من طغيان على الكّفر من قبل عتريس وزبانيته ماكان له ان يحدث لولاسكوت الناس ورضاهم بالاستعباد وخوفهم من قول كلمة (لا).. وبعد جدلٍ بين الفلاحين المغلوبين حول كيفية انقاذ ماتبقى من كرامتهم واموالهم وارضهم يصل البعض الى حقيقة انه لابد ان احدنا يبدأ يقول (لا)، التغيير يبدأ من قول كلمة (لا)، لا للصلف المستكبر بعتاده وبطشه، ولابد للناس من شخصية هي التي تبدأ (لازم واحد هو الذي يبتدئ) –عبارة قالها احد الفلاحين المستضعفين، اول من بدأ في الحقيقة هي (فؤادة) يوم وقفت للعُمدة في الطريق(عتريس الاول) وهي طفلة لقنته الدرس الاول في كسر حاجز الخوف من بطش السلطة، ثم هي اول من احس بالظلم الواقع على الفلاحين وكانت ابداً تحذر عتريس (الثاني) من مسلك جده، ثم ايضاً الشيخ ابراهيم كان من اوائل من تصدى لطغيان السلطة واعلن على الملأ في المسجد عقب الانتهاء من الصلاة ان السكوت على ظلم العُمدة واعوانه ليس من التدين في شيئ وان المؤمن الحق هو من يقول للظلم (لا) لأن الله لايرضى بالظلم، حسب ماجاء من بيان الشيخ ابراهيم، وحتى هذه اللحظة كان الناس في اشد حالات الخوف والخنوع ويقول بعضهم او اكثرهم :-(مالنا نحن ومال عتريس !! خلينا في حالنا يا شيخ ابراهيم..احنا مش قد عتريس..)

تتصدى (فؤادة) للعتريس الجديد بعد ان اخاف كل الفلاحين وقهرهم وتملك ارضهم وسبى واستباح اعز مايملكون، ولمَّا لم يستطع ان يقتلها راح عتريس يريد-بقوة عتريس وسلطته ونفوذه- ان يتزوجها-يريد ان يتملكها-لأن عقلية الطغيان المستبد عقلية تملك للأرض والشعب، يريد ان يتملكها بعقد زواج مزور بتخويف والدها الفلاح الضعيف المغلوب على امره (حافظ) لكن (عتريس) لم يفلح في تملكها كزوجة لأن (زواج عتريس من فؤادة باطل) كتبتْ هذه العبارة على الجدران، أول من قالها وكتبها (الشيخ ابراهيم) امام مسجد القرية واحد ابرز وجوه الفلاحين بعد القاء كلمته بالمصلين من اهل القرية في المسجد يشرح فيها-كما سلف- ان المؤمن الحق لا يسكت عن الظلم، ثم كتبها الفلاحون المقهورون ببطش وتنكيل عتريس بعد ذلك وبعد تردد منهم وخوف ووجل، كتبوها بعد مراحل طويلة من استسلامهم للخوف والرعب من (رجال عتريس) ومن بطش (عتريس) وجواسيسه واعوانه .. بعد ذلك -وكأول ردة فعل من جانب العُمدة الطاغية- قتل عتريسُ زين شباب الفلاحين (محمود) ولد (الشيخ ابراهيم) في ليلة عرسه، قتله ليرهب الشيخ عن قولة الحق في المسجد وتحريضه على عتريس بالعبارة التي اسقطت عتريس في نهاية القصة : ( زواج عتريس من فؤادة باطل) وللعبارة رمزية في اسقاط شرعية السلطة المغتصبة للحُكم او البلاد، زواج غير شرعي وزواج باطل وعقد نكاح مزور، حرام في حرام، ولاشرعية لمغتصب او طاغية او مستبد يقتل ابناء المجتمع ويستعبد الفلاحين او يذل المواطنين يمنع عنهم الماء والقوت واسباب الحياة، هذا هو الشعار وتلك هي دلالته (زواج عتريس من فؤادة باطل).

فؤادة وعتريس نشأة حب وبراءة انحرف به ظلم العُمدة الجد

اشرتُ أن (عتريس) الفتى الشهم الريفي كان مسكوناً منذ صباه بالبراءة والحب للحياة والطيور والحَمَام ومسكوناً بحبه البريئ الريفي الصافي الطفولي لـ (فؤادة) غير أن (عتريس الجد- العُمدة الظالم) دمر كل معاني البراءة في قلب ولده قصداً منه أن يكون قوياً قاسياً كعُمدةٍ قويٍ لا يرحم كتدريب عملي له لأنه ولي عهده من بعده ولا مجال للبراءة في قلب ولي العهد والعُمدة الجديد...احدثت الصدمات القوية الوحشية التي انزلها الجد(عتريس الاول) بحفيده البريئ شرخاً غائراً في جدار الرحمة الإنسانية داخل قلب الفتى الصغير (عتريس الثاني) وهو ما عبرت عنه قصيدة الفيلم للشاعر عبد الرحمن الابنودي (عيني ع الولد ) من الحان بليغ حمدي، غناء شادية بطلة الفيلم في دور (فؤادة) وعرفنا كيف تحول الفتى الريفي البريء عتريس بعد ذلك الى عُمدةٍ ظالمٍ بقلب وحشٍ لا قلب آدمي يعبِّد الفلاحين لخدمته وخدمة نزواته السلطوية الطائشة، يقهرهم ويدوس على اكواخهم ويفرض عليهم الاتاوات مضاعفةَ وزيادةً على ماكان يفعل جده، وله رجال ظلمة بقلوب وحوش، جيشٌ من (البلاطجة) وحوشً آدمية على خيول الغطرسة، ينهبون ويسلبون ويعتدون ولا احد يجرؤ أن يوقفهم عن غيهم او بطشهم، لأنهم رجال عتريس، يجوسون بخيولهم خلال الديار ببطرٍ وصلفٍ وكبرياء يقهرون الفلاحين ويقتلون الرعية الغلابة ويسلبونهم ممتلكاتهم باسم عتريس ومن اجل نزوات عتريس ومجد عتريس وحُكم العُمدة عتريس الذي يجب أن يسلم الناس انفسهم له من غير مناقشة ومن يرديد ان يناقش فسيلقَ جزاء (سالم عوضين) الذي قتله رجال عتريس ثم القوه في الترعة.

مشهد من اغتصاب عتريس لنساء رجاله يوم العُرس دراسة نفسية تحليليلة

من اهم مشاهد الرواية هذا المشهد الذي يقدم دراسة نفسية لسيكولوجية الطاغية الظالم وهو يمارس القهر حتى على اخص رجاله وزبانيته ممن يستعملهم لقهر الفلاحين والرعية الضعفاء، مشهد قهر واغتصاب في ليلة العُرس لأحدى عرائس رجال عتريس.. المشهد يقضي ان يتزوج احد رجال عتريس فيحضر موكب عتريس العُرسَ وعينه (اي العُمدة) على العروس، يريد أن يقهرها وان يستبيح جسدها وروحها لأنه العُمدة وهو الأولى بها قبل العريس الأصلي (أحد رجاله) .. المشهد يقدم لحظة من لحظات الإنسان المقهور تحت سطوة القوة والخيل وموكب العُمدة وجبروته، يعرف العريس (احد رجال عتريس) أن عروسه الليلة ليست من نصيبة بل من نصيب العُمدة شاء أم أبى، فيلجأ للشرب كوسيلة يائسة للهروب من فداحة الموقف، ثم يهذي في اللا شعور وهو سكران بعبارات تستبطن الرغبة في القوة المسلوبة منه، يريد أن يكون قوياً مثل عتريس يقول وهو مخمور :(انا الليلة ثلاثين عتريس)، يريد أن يهرب من واقعه الجبان المستسلم الى رغبة في الإنتقام من عتريس الذي سيسلبه الليلة أعز ما عنده وهو عروسه، عتريس أول من يدخل بها كضريبة للقهر اليومي يدفعه حتى رجال عتريس، يدفعونها من شرفهم وعرضهم، ولكن هنا في المقابل تحليل نفسي آخر بشكل مختلف ومفاجئ للقراء وللمشاهدين وهو أن العروس كانت تتمنى هذا اليوم لتقابل عتريس فهي ترى أنه أحق بها من رجله الخادم المطيع البليد الغبي فاقد الكرامة الآدمية (بلا شخصية)، تعبر المرأة لـ عتريس أنها كانت تتمناه من زمان لأن عتريس صاحب القوة والسطوة والقدرة أحب اليها كرجل تحلم به المرأة حيث تحب القوي صاحب السلطة.. غير أن دراسة تحليلية نفسية أخرى تفيد أن المرأة التي استسلمت رغبةً في عتريس كانت في الأصل من ضحايا نظام الفساد والبلطجة الذي كرس بيع المرء لنفسه وعرضه وشرفه للعُمدة، فهي فاسدة أحبت فاسداً مثلها اذ أن فساد نظام العُمدة لم ينتج سوى فسدة بهذا الإنحطاط والخيانة الزوجية والتسليم للفساد ولذلك قال الشيخ ابراهيم إمام مسجد القرية (الممثل يحيى شاهين) بعد أن انتهى من إمامته بالمصلين صلاة العصر، قفوا لا يتحرك منكم أحد أريد أن أقول لكم كلمة ثم قال بما معناه :-

كلنا يعرف عن ظلم عتريس ومايفعله عتريس ثم قال وهنا الأهم : (احنا ملناش دعوة باللي يسلم نفسه لعتريس- في إشارة الى تلك المرأة) ....( انا اتكلم عن أهل البلدة الذين يقع عليهم الظلم من غير رضاً منهم ) ثم انبرى احد المصلين في زاوية من زوايا المسجد يرد على كلام الشيخ ابراهيم بالقول:-

يا شيخ ابراهيم احنا مالنا ومال عتريس كل واحد في نفسه

فرد عليه الشيخ ابراهيم:-

اللي يقول ماليش دعوة ح يصل عتريس لحد عنده... ثم أخذ الشيخ ابراهيم يبين لهم أنه ليس بمؤمن حقاً من يسكت عن الظلم الحاصل في البلد وقال بصوت الشيخ القوي المؤمن الذي لا يخاف محرضاً جموع المصلين في المسجد :-

(كلكم يعلم أن زواج عتريس من فؤادة باطل)

اللفتة التحليلية النفسية هنا أن عتريس الذي تزوج فؤادة بعقد نكاح مزور- كما سردنا ذلك في الحلقة الأولى رغبةً منه في قهرها كزوجة بعد عجزه عن قتلها كمعارضة- كان وهو في غمرة فساده مع المرأة التي اغتصبها من زوجها ليلة عرسه ينتفض مذعوراً من صدى العبارة التي كتبت على الجدران :-

زواج عتريس من فؤادة باطل

الم يتزوج عتريس فؤادة بحضور المأذون الشرعي والشهود وتوقيع والدها الضعيف (حافظ)؟ اذاً لما ذا تؤرقه كلمة (باطل) ؟ ا لم يدعِ أنه عتريس الذي لا يقف أحداً في وجهه..؟ اذا لماذا أقضت مضجعه كلمة "باطل"؟.. الجواب لأنه يدرك أن شرعيته غير حقيقية وأنها شرعية مزورة اغتصبت بالقوة وأن ضميره الداخلي -كإنسان لا كعُمدة- يقول له " الفلاحون لا يحبونك لأنك لا تمثل أي شرعية بالنسبة لهم.. سقطت شرعيتك يا عتريس وكل من حولك من البطانة وحوش يزينون لك الظلم لكنهم لا يمدونك بأي شرعية على الواقع.. الناس تكرهك يا عتريس، وحكمك (باطل).. كلمة او عبارة بدأت ثم انطلقت وكتبت على الجدران ورددها الناس بعد ان بدأ الخوف يتلاشى من قلوبهم بفضل بطولة وشجاعة فؤادة وبفضل جرأة الشيخ ابراهيم في قول الحق الذي دفع الثمن غالياً وهو ابنه (محمود) يقتله رجال عتريس في ليلة عرسه ولم يزد ذلك الشيخ الاقوة وصلابة واسمراراً في الحشد الشعبي لمواجهة غطرسة القوة (غير الشرعية) لكن (فؤادة) كانت هي الروح الحقيقية للثورة ضد عتريس، هي اول من تحدى عتريس حين فتحت ماكينة مشروع الماء (البومبا او المضخة) لتسقي حقول الفلاحين، يوم اجتمع الفلاحون عاجزين ينوحون ويولولون وغير قادرين على فتح (المضخة) حينها لم يكن احداً من رجال عتريس موجوداً ليمنعهم من فعل ذلك ولكن منعهم الخوف والخنوع ..يتعاظم بعد ذلك انصار التغيير في كَفر الدهاشنة ثم يعلنون موعداً للزحف تقوده (فؤادة) يحمل كلُّ واحدٍ منهم شعلةً، نورُ التغيير ونار تحرق عتريس الذي انفضَّ بعد ذلك كل رجاله والمقربون من حوله للنجاة بأنفسهم من (ثورة الدهاشنة الكبرى) يقذف الفلاحون بالمشاعل على عتريس المحاصر في قصره، تحرقه نيران الفلاحين وتأكله نيران الثورة فيسقط الطاغية الى الابد وتنتصر الدهاشنة لأنها تملك قضية عادلة ولايملك الطاغية اي مبرر للبقاء فهو مغتصبٌ لسلطةٍ بقوة الطغيان وان زواج عتريس من فؤادة باطل.

تنبيه:-

من المفيد التنبيه للقراء والقارئات أن الرواية النسخة الأصل (شيئٌ من الخوف) مكتوبة بالعربية الفصحى غير أن تجسيد الرواية كفيلم في السينماء المصرية (1969) بعد ذلك كتب باللغة العامية المصرية مع تعديل للمشاهد والتعابير بما يناسب طبيعة الفيلم السينمائي...، ويقال ايضاً أن الشاعر المصري المشهور عبد الرحمن الابنودي (من مواليد 1938 شاعر بالعامية وكاتب ايضاً .. ظهر بقصائد عامية تحمس ثورة الشباب بمصر في يناير الماضي من هذا العام) قيل انه شارك في كتابة الحوار للسينماء وكتب قصيدة الفيلم بالعامية (عيني ع الولد).

*شاعر وناقد أدبي


في الأربعاء 28 مارس - آذار 2012 11:21:54 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=14825