رفقاً..بولدك أيها العااااااقّ !!
منير الغليسي
منير الغليسي

قد يهوي إنسان من شاهق : من جبل ، أو تل ، أو بناية . . بخطأ من عند نفسه ، أو من أحد بجواره ، أو ربما يلقي بنفسه بمحض إرادته وقصده . . انتحاراً ؛ لسبب من أسبـاب الدنيا ألمّ به ، أو صَـرْف مـن صـروف الـزمان دهـاه !! . . أو قد يغدر إنسان بآخرَ ؛ دفاعاً عن نفسه أو ماله أو عرضه ، فيلقي به في غَيَابة بئر ، أو فـي بحـر لجّيّ . . أو يستلّ سيفاً عليه ، أو أيّ سلاح كان ، فيزهق به نفسه . . كل ذلك متوقع !!

لكنْ .. ما لا يخطر على قلب إنس أو جنّ أو حيوان أو كائن حيّ من كوكب الأرض أو عالم الفضاء. . وما تأبى أن تسمعَ به أذُنٌ ، أو تراه عينٌ ، أو يشعر به حسّ . . أن يلقيَ أحدٌ منّا وبيديه كلتيهما وكامل وعيه وإرادته ودون إكراه من أحد . . بإنسان بريء ، ضعيف ، لا ذنب له ، فضلا عن أن يكون هذا الإنسان هو أقربَ الناس إليه نسباً . . فِلْذةُ كبده التي قٌدّت من دمه ولحمه ، ونبضُ قلبه الذي يُفزعه التفكيرُ إن توقف هنيهة ، وبؤبؤُ عينه التي يرى بها الحياة من حوله ، وزينتُه التي يتباهى بها في حياته . .

هذا ما تناهى إلى سمع العالم حين تناقلت وسائل إعلام عديدة خبر الأب الشاب ، الذي ألقى بأولاده الأربعة في (سد الفرات) من نهر الفرات بقرية (المنكوبة) من مدينة حلب في بلاد الشام ! ! . . ألقى بهم . . لا ليروّحوا عن أنفسهم ساعةً في محيط من الماء . . بل لتزهق أنفسهم الواحدة تلو الأخرى في لجّة الموت !. وهو يسمع صراخهم وغَمْغمتَهم حتى يخفت ذلك الصراخ ويتلاشى مع النفَس الأخير في الرمق الأخير ! ! . . ويبصر أجسادهم الغضّة الطرية تتهاوى الواحد بعد الآخر !.

وبينا هم على تلك الحال من العذاب والكرب في خضمّ الماء وظلمته . . وتصاعد أنفاسهم . . وضيق صدورهم . . وصراعهم مع الموت من أجل البقاء . . إذ هو في حال من المتعة . . والنشوة . . والفخر . . والانتصار للذات ! !

ويحك أيها الأبُ ! ! . . أيُُّ متعة تلتذّ لها ؟ ! . . وأيُّ نشوة تُسكرك! ! . . وأيُّ فخر ترفع هامتك له ؟ ! . . وأيُّ ذات تنتصر لها ؟ ! . . بل أيُّ قلب تحمله وأنت تلقي بأفئدتك في سدّ الموت ؟ ! . . وأيُّ عين لك ترى ذلك المشهدَ الموجعَ : الأول حتـى يغـرق ؟ ! . . والثانـي حتى يهلك ؟ ! . . والثالث حتى تخطـفـه يـدُ الـردى ؟ ! . . والرابـعُ . . . آهِ . . وواهِ ! ! الرابعُ حتى تفيضَ روحُه ولمّا يبلغْ عامَه الأولَ ! ! ولمّا يصلْ سنّ الفطام بعدُ حتى تكون أنت أنت من يفطمه من الحياة ؟ ! !

أيها الوحشُ المتلبّسُ صورةَ إنسان ! ! الوحوشُ أرفق منك . . . لا لا . . لا أقول : أرفق بصغارها وأحنّ وأرأف بها . . كلا . . كلا . . فلا مجال للمفاضلة . . فهي رفيقة بهم . . عطوف . . حنون . . رغم وصْفها بالوحشية ! ! أمّا أنت فنقيضها تماماً على رغم اتصافك بالآدمية والإنسانية ! ! . . لتعلن إذنْ براءتك منها . . ولتعلن الآدميةُ والإنسانية براءتها منك . . فلا أنت للوحوش تنتسب ؟ ! . . ولا أنت للإنسانية والآدمية تقترب ! !

أيّ كائن مسْـخ أنت . . . ؟ ! . .لا عذر لك مهما تذرعت بالأسباب ، واختلقت المبررات لفعلتك الشنعاء التي تتبرأ منها السموات والأرض ! !

لقد ارتكبت جُرمك بمن هم من صُـلبك . . فأنّى لك أن تحيا بعد ذلك ؟ ! . . وأيّ حياة تريد أن تحياها بعد أن أعدمت أطفالَك حياتَهم ؟ ! . . أربعة كُبْراهم لا تتجاوز خمس سنوات ! ! . . لم تشفع لهم دموعهم وصراخهم عندك أيها الجبل ! ! . . ليتك كنت جبلاً ! ! إذنْ لسوف تشّـقّق مادتُه رحمةً بهم . . وتخشع عظمته رقةً بحالهم . . ويتندّى منه ماءُ الوجل والخشية من الله - تعالى - على حياتهم ! !

لقد فعلت فعلتك التي فعلت بدم بارد ، لا أظنّه إلا من دم إبليس ! ! . . ثم استقَـلْـت سيّارتك لتعود إلى قريتك (المنكوبة) . . المفزوعة ، المفجوعة بفقد أربعة من أبنائها . . ولم تفزع أنت - وأنت من أنت منهم - إلى ضميرك . . إلى قلبك . . إلى أبوّتك ؟ ! !

هاأنت تعود إلى قريتك نشواناً ، قاصداً إغاظة أبيك المسكين . . المفجوع بأحفاده ، أحبّاء قلبه . .أبيك الذي كان خليقاً بك أن تكون أول أحبته ؛ برّا به وبأمك . . اللذَين من أجلك أوقفا عمرهما لأجل عمرك . . وعافيتهمـا مـن أجـل عافيتك . . وحياتهما لتسعد بحياتك ! ! . . وضحّيا من أجلك بكل نفيس ؛ حتى يستقيم عودك ، وتقف على قدميك ؛ فَيَرَياكَ وقد قرّت عينهما بثمرتهما الطيبة ! ! . . لكنْ هيهات هيهات ! ! فهاأنتذا تردّ جميلهما وإحسانهما إليك . . فتجزيَهما في كبَرهما الجزاء الأوفى . . هاأنتذا تفجعهما بمَن تعلّق قلبُهما ! ! . . يا لك من ولد عاقّ ! !

صرْتَ في عقدك الثالث ولم تصر إلى رشدك وعقلك ! ! . . ليتك لم تكن ولم تصر ! ! . . هـل أصابتـك لُـوثَةٌ ؟ ! ! . . أم اختلط عليك أمر الحياة والموت . . . ؟ ! ! . . أم هل ظننت – خاب ظنّك – وأنت ترمي بأولادك تباعاً في مستنقع الموت بأنك تحثّهم نحو جنّة خالقهم ؟ ! ! . . ماذا دهاك أيها الشابّ ؟ ! ! . . أيبكي الباكي عليهم ؟ ! ! . . أم يبكي عليك ؟ ! ! . . أم يبكي منك ؟ ! !

عجباً لأمرك ! ! . . أبسبب (عدّاد الماء) الذي اختلفت مع أبيك من أجله . . كان ما كان من فعلتك ؟ ! ! . . أظننت أنك من القوة والشباب قد بلغت مبلغاً يزيد لا ينقص ؟ ! ! . . أيُّ عقل هذا تحمله لتغيض أباك بقتل فلذات كبدك، وتعود إلى قريتك منتصراً لذاتك . . منتشياً بنفسك ؟ ! ! . . أما تعلم وأنت في عقدك الثالث ، وما أنت عليه من فتّوة وشباب . . أنّ مبتداك من ضعف ، ومنتهاك إلى ضعف . . ومصيرك إلى فناء لا تملك لنفسك صرفاً ولا نصرا ؟ ! !

واثكلَ أبيك وأمك وزوجك ! ! . . هل تراهم يعيشون بعد أن فجعتهم بأحبتهم وزهـرات حياتهم ؟ !. . ربمـا ! ! لكنْ . . أيّ حياة تُراهم يحيونها بعدهم إلا حياة الموت ! ! . . ولكنْ . . ليكن عزاؤهم في ذلك أن يد الموت التي انتشلتهم منك غرقاً في ذلك اليوم وتلك الساعة وذلك السبب . . كانت رفيقة بهم . . وهو خير لهم من أن يأتي يومٌ آخرُ غيرُ اليوم . . وساعةٌ أخرى غيرُ الساعة . . وسببٌ آخرُ غيرُ السبب ! ! . . . تقطّعُ أعضاءهم تقطيعا وتمزّق لحمهم تمزيقا! ! . . فاليد التي سَهُـل عليها أن ترمي بهم في لجّة الموت ليس بمستغرب منها أن تسفر عن مخالبها وجوارحها وتُعمل فيهم عملها . . نعم ليس مستغربا منها . . . ليس مستغرباً . . . ! !

* * * * *


في الأحد 25 إبريل-نيسان 2010 10:27:23 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=6967