واقع الحرية وكلفتها... الثمن الباهظ
عبدالكريم الخيواني
عبدالكريم الخيواني

عنوان محور هذه الجلسة «أساليب حكومية غامضة تعوق صحافة عربية حرة» يعفيني من بذل أية محاولة للإقناع بالواقع السيئ الذي تعيشه الصحافة الناقدة والحقوق المدنية، أو مدى التضييق على حرية الصحافة، أوالقمع والانتهاك الممنهج ضد الصحفيين وأصحاب الرأي والناشطين الحقوقيين في غالبية الدول العربية، وكون هذه القناعة قاسماً مشتركاً فإنها لا تعني التسليم بهذه الأوضاع وإنما السعي الجاد لتغييرها. ونقاشنا لواقعنا يأتي في هذا الاتجاه.

لم تأت حرية الصحافة صدفة في أي بلد وإنما نتيجة نضال وحراك ومطالبة وضغوط وتضحيات حقيقية، عبرت عن تطور اجتماعي وسياسي وثقافي. وهذا التطور والحراك في واقعنا يتصادم مع جمود النظام الرسمي العربي الذي قصارى أمنياته المحافظة على واقعه الراهن كما هو عليه كسمة من سمات وخصائص المنهج الوظيفي الملتزم به، ولعل ذلك ما يفسر حرصه على إفراغ أي عملية تطوير من مضمونها، والقبول بالتطوير والتغيير شكلاً ليعزز من شرعية أو استمرار أو مصلحة هذا النظام أو ذاك دون أن يؤدي إلى تغيير حقيقي في النتيجة.

هكذا أرادت (وتريد )الأنظمة الرسمية العربية: ديمقراطية لا تفضي إلى دولة مؤسسات؛ وانتخابات؛ لا تفضي إلى تداول سلمي للسلطة؛ وحرية صحافة لا تنتقد الفساد والأخطاء؛ ولا تحترم الحقيقة أو عقلية المتلقي، ومنظمات مجتمع مدني لا تؤدي وظائفها الأصيلة وتدافع عن الحقوق ولا تدين الانتهاكات....الخ، أي تريدها مجرد ديكور لا أكثر.

ومع الاعتراف بوجود استثناءات عربية محدودة؛ أود أن ألفت النظر إلى ما يلي:

 الوضع اللبناني المتميز بمناخاته المتنوعة وضع فريد عربياً، لكن التميز اللبناني لم يمتد إلى ما حوله، والخشية أن يتأثر لبنان بمحيطه الرسمي العربي فيتعرب كما هي الخشية على تجربة الكويت أيضاً.

إن عدم تسجيل حالات قمع عديدة في بعض الدول العربيه لا يعني ازدهار الحريات والصحافة الناقدة فيها، بل يعني غياب الحراك الاجتماعي الواسع، وشدة القيود المفروضة، كما أن التوسع الإعلامي الموجه (رسميا) في كل الاتجاهات ليس تميزاً لدولة تضيق برأي مدون (فؤاد الفرحان، مثلا، الذي سجن بسبب آرائه في السعودية، ومحمد الراجي الذي سجن في المغرب واطلق سراحه في ماراثون محاكمة ربما تكون الاسرع في تاريخ القضاء المغربي).

الدول العربية التي تسهب كثيرا في الحديث عن الإصلاحات الشاملة والمناخات الديمقراطية،والتعددية السياسية وحرية التعبير و.. و...الخ؛ هي أسوأ وضعا، ليس لأن واقعها يتناقض مع كل ادعاءاتها فحسب بل لإصرارها على كسب المصداقية لدى الآخرين بكذبها المكشوف، والمناورات الخفية (المفضوحة )، ناهيك عن غياب التنمية، وسجلاتها السيئة الموثقة في ذاكرة الشعوب، فتقارير المنظمات الدولية، تؤكد زيف دعاوى الديمقراطية و الإصلاحات.

على سبيل المثال لا الحصر: في تقرير منظمة "مراسلون بلا حدود" -باريس الصادر في أكتوبر الماضي حصلت اليمن على المرتبة الـ155 متراجعة بأربع نقاط عن العام الماضي وبعد الصومال بنقطتين، فيما جاءت مصر في المرتبة 146، وتونس 143، والمغرب 122، والأردن 128، وكلها دول تدعي الإصلاحات والديمقراطية والحرية، واحترام الحقوق، وماعدا الكويت ولبنان اللتان احتلتا المرتبة 61، و67 على التوالي بينما تذيلت السعودية القائمة بالمرتبة 160 من بين 163 دولة.

عموماً الديمقراطية وحرية التعبير والحقوق المدنية والصحافة الناقدة عربياً؛ كلها هدف رسمي للقمع، والانتهاك، والتنكيل، والتضييق المستمر، وهذا الوضع يتزايد سنويا بمعدلات مرتفعة وممارسات سافرة أفقدت الأنظمة التي تمارسها الاحترام، وأكسبتها توبيخاً دوليا،ً بل وتأثرت مصالح اقتصادية وسياسية جراء الإصرار على ممارسة القمع وسيادة الاستبداد، إذ يكتشف العالم يوميا أن الإصلاحات التي أطلقتها كثير من الأنظمة الرسمية العربية ليست إلا شعاراً ومحاولة للاحتيال من اجل الحصول على مساعدات أو قروض أو لتحسين صورة هذا الحاكم أو النظام خارجياً، وليس أمام شعبه الذي يقاسي ألم الفساد والاستبداد.

ورغم أن محاولات الاحتيال فشلت والصورة لم تتحسن، لكن ذلك لم يمنع النظام الرسمي هذا أو ذاك من التصميم على سياسة القمع والانتهاك بمناورات وتكتيكات لا تحتاج إلى فائض ذكاء لاكتشافها سواءً على المستوى المحلي والإقليمي أو على المستوى الدولي أيضا، وفي هذا السياق أورد ما أشار إليه تقرير مؤسسة بروكينغ في اكتوبر 2007م الذي قال: "نشأ في السنوات الاخيرة نموذج جديد من الحكم الاستبدادي في عدد من الدول العربية الرئيسية وهو نتاج التجارب والأخطاء أكثر مما هو مخطط مقصود، فقد تكيفت الانظمة العربية مع الضغوط لتحقيق التغير السياسي من خلال تطوير استراتيجيات لاحتواء وإدارة المطالبات بنشر الديمقراطية".

ولابد من الإشارة هنا إلى أن الوسائل التي تم استحداثها تستخدم مع من لم تجد معهم الوسائل التقليدية وعرفوا بتعرضهم للقمع على ذمة الرأي وحرية التعبير.

لاحظوا معي أن معظم قضايا الصحفيين الذين اتهمو بالإرهاب أو التخابر أو الإساءة لسمعة البلاد سبق اتهامهم بتهم تتعلق بالنشر (سب وقذف وتشهير أو إهانة أصحاب الفخامة)، بل وصدرت بحقهم، أحكام قاسية كانت محل استنكار، واسع محليا ودوليا. وفي المرات التالية تحولت التهم إلى: التخابر، الإساءة لسمعة البلد، الإرهاب، أو تهم جنائية كوسائل تكتيكية بحيث لا يبدو النظام منتهكا للحرية وبما يتلاءم مع شروط المانحين، والنظام الذي يقوم بهذا التكتيك (المفضوح) يعتقد ببساطة انه جرد الصحفي الخصم من كل وسائل الدفاع، وجرده حتى من شرف التهمة، دون الانتباه الى أن الحيل الرسميه لم تعد تنطلي على احد كما يوضح ييان لجنة حماية الصحفيين بنيويورك (ان بعض الحكومات العربية ومنها اليمن صارت محترفه بتشويش الحقائق والمناداة بإصلاحات شكلية لوسائل الإعلام مصممة للاستهلاك العام ) وبالرغم من الحالات التي يمكن الاستشهاد بها في دول عربيه عديدة إلا أن التركيز سيكون على اليمن هنا ليس انحيازا لها بل للتعريف بالمشهد اليمني الذي هو في خلاصته مشهد متكرر ومألوف عربياً، فالنماذج السيئة تتناسخ وتتشابه في تفاصيلها حتى انني أثناء متابعتي لبعض التفاصيل عربيا وأنا أعد هذه الورقة قلت: يخلق من الشبه عشرين!!

تكتيكات ومناورات

إزاء الاحتجاجات الواسعة ضد قمع الحريات وسجن الصحفيين والاختطاف التي تطال مراسلي الوكالات والقنوات الفضائية، وحالة التضامن في الوسط الصحفي اليمني، ونتيجة لما يحظى به الصحفي المستهدف بالقمع والتنكيل من تضامن كبير مقابل ازدراء واستنكار ممارسات النظام السياسي، مما يلحق الضرر بسمعة النظام أو الحاكم العربي، وقد يؤدي إلى خسارة مساعدات وقروض من المانحين كما حدث مع اليمن مثلاً عام 2004م في قضية الحكم ضدي بالسجن لمدة عام بتهمة إهانة الرئيس..

ونتيجة للضغوط الدولية للقيام بإصلاحات شاملة ووقف حملاتها القمعية لحرية الصحافة؛ لجأت السلطة إلى وسائل تكتيكية ومناورات، تمكنها من التنكيل بالصحفي وصاحب الرأى، كيفما تشاء ودون أن يكلفها سمعتها أو خسارة سمعة أو معونة أو دعم.. هاكم بعضها:

الإرهاب

بلغ الأمر حد استغلال الحرب العالمية ضد الإرهاب وأجوائها المرعبة ضمن تكتيكات السلطة ضد الصحافة الناقدة وحرية التعبير، مستعدية الدول المتقدمة على صحفي انتقد ممارساتها وكشف سوأتها فقط، فقامت بتوجيه تهمة الانقلاب على النظام ثم الإرهاب معفية نفسها من أي حرج أخلاقي أو أدبي مترتب على مداهمة قوات مكافحة الإرهاب منزل الصحفي وترويع أطفاله وانتهاك حرمة منزله.

ورغم رفض تهمة الإرهاب من قبل المجتمع المدني محليا وإقليميا ودوليا وإصرار الجميع على أن المتهم بالإرهاب هنا هو صحفي ومدافع عن حقوق الإنسان؛ فإن ذلك لم يمنع السلطة من الاستمرار في إقامة محاكمة طويلة انتهت بالحكم بالسجن 6سنوات، استنادا إلى أدلة "مادية"أدوات عمل صحفي عبارة عن مجموعة أسطوانات ( CDs ) تحتوي صورا ومشاهد للحرب (حرب صعدة) والمآسي الإنسانية التي خلفتها، طوال أربع سنوات إضافة إلى فقرة مكتوبة من مقال لم ينشر بعد عن "توزيع الموت بدلا عن التنمية"، و تسجيل صوتي لمكالمة تلفونية مع زميل صحفي عن وقف الحرب.

وعندما يأتي الإفراج عن الصحفي من السجن بعفو رئاسي، فإنه لا يعني الإنصاف أو انتهاء الرغبة في الانتقام، حيث السجن والإفراج مرتبطان بمدى الغضب أو الكراهية في قمة النظام.

أنا أتحدث هنا عن حالة محدده في اليمن، ولكن الحالة ذاتها قد نجدها في المغرب، مثلا، حيث يحاكم صحفي بتهمة الانتماء لخلية إرهابية، وحبس آخر لمدة ستة أشهر وهو الزميل مصطفى حرمة الله من أسبوعية الوطن الآن لأنه حصل على وثيقة قيل إنها سرية ونشرها وفقا لمقتضى عمله كصحفي، ولأنه رفض الافصاح عن مصدر الوثيقة.

المحاكمة أمام محاكم أمن دولة

بالرغم من أن القضاء غير مستقل، إلا أنه وإمعانا في إرهاب الصحفيين والمناورات الخفية، يتم محاكمة الصحفيين أمام محاكم أمن الدولة، فبالإضافة إلى قضيتي يجري محاكمة الزملاء نائف حسان ونبيل سبيع، ومحمودطه، على العدد الأول من صحيفة الشارع الذي صدر في يوليو 2007، والذي تضمن ملفا عن حرب صعدة، وذات المحكمة كانت أصدرت حكما بالسجن سته أشهر مع وقف التنفيذ على الصحفي محمد المقالح، بعد أن قضى شهرين سجيناً لمجرد أنه ضحك في جلسة المحاكمة.

تحويل القضايا إلى جنائية

تحويل قضية الرأي إلى قضية جنائية بدأت في اليمن عام 94م مع النائب البرلماني سلطان السامعي ناشر ورئيس تحرير صحفية «الحدث» آنذاك، قبل أن يعود ليتكرر الأمر مع النائب أحمد سيف حاشد ناشر صحيفة «المستقلة»، ثم مع ناشر صحيفة «الأيام» اليومية هشام باشراحيل، واللافت انه حسب تصاعد أنشطة النائب أو الناشر في التعبير عن رأيه تتحرك ضده القضية الجنائية عبر "عصبة أولياء الدم" وهم الطرف الآخر الذين لهم قضايا جنائية أو مدنية سابقة وشائكة وفي الغالب تم حلها، ولأن التجارب العربية تتناسخ فليس مفاجئاً أن تكتشف أن قضية الناشط الحقوقي محمد المسقطي في البحرين صارت جنائية، وهكذا يجد الصحفي نفسه مقحماً في تهم تبرر ضربه وخطفه، والاعتداء عليه، بغرض إسقاطه معنوياً في نظر الناس.

التحريض والتشهير وقذف الأعراض

لم يخل الخطاب الرسمي السياسي اليمني من لغة التحريض ضد الصحافة والصحفيين خاصة في المعسكرات وعلى لسان رئيس الجمهورية و كبار المسؤولين، وتكال التهم حد التخوين، فيما تقوم صحف صفراء ممولة من المال العام بتكرار ذلك ناهيك عن قيامها بالتشهير وقذف الأعراض الذي طال زميلات صحفيات وناشطات حقوقيات وصحفيين، غالبا ليسوا ممن في طرف السلطة، وعند اللجوء للقضاء فإنه لا يحرك تلك القضايا، ويدير هذه الصحف الصفراء في الأغلب أشخاص لا ينتمون للأسرة الصحفية، والحالات عديدة ومستمرة، وبالإضافة لذلك فهي تهدف إلى التشويش على القارئ كي يفقد ثقته بالصحفيين الملتزمين للمهنة والصحافة الحرة.

 

استخدام العقيدة

توظيف الدين لخدمة الأهداف السياسية أسلوب قديم، فلطالما كان الدين موظفا في القصر، واليوم مازال استخدامه قائما. ويتظافر ثنائي التكفير الديني والتخوين الوطني، ليصبا من السلطة ضد المغضوب عليه صحفيا كان أو سياسيا، ويستمر التحريض على ذمة المذهب أو الأيديولوجيا، كما هو الحال مع ناشر صحيفة "المستقلة" وثلاث صحف أهلية يمنية وصحيفة لو جورنال المغربية وصحف اخرى في دول أخرى وحوكمت الصحف في اليمن على ذمة إعادة نشر الصور المسيئة للرسول الكريم، مع أنها نشرت ذلك في معرض النقاش الرافض للإساءة، علما ان التحريض هذا كان المبرر الأبرز في حادثة اغتيال الشهيد جارالله عمر الامين العام المساعد للحزب الاشتراكي اليمني عام 2002باليمن.

وما يواجهه المدون المصري كريم عامر ليس بعيدا عن ذات الأسلوب: توظيف الغيرة على الدين للانتقام السياسي.. وبذا يصيب هدفين في آن، إذ يخفض مستوى التعاطف الشعبي مع الصحفي او المدون باعتباره يتطاول على المقدسات وهي تهمة تشهيرية سهلة التصديق في مجتمعات ذات غالبية أمية تحركها التهم الملفوفة بالغيرة على الدين، ويصفي حساباته السياسية دون التطرق لها، ويبلغ الأمر ذروته في التحريض على الصحفي بتهمة الكفر كي يكون في مواجهة مع عناصر التشدد والتطرف الحليف الأبرز لكثير من الأنظمة العربية، الذين يعتقدون أن استباحة دم هذا الصحفي أو الكاتب "تقربا" إلى السماء وليس إلى "القصر" و إلى الله وليس السلطان.

الاستنساخ

لعل تجربة استنساخ أو تفريخ بعض الأحزاب وسيلة معروفة استخدمتها انظمه عربية مع الأحزاب لإضعاف التعددية الحزبية، ولكن اليمن تفوقت في استخدام هذه الوسيلة واستمرأتها حد نقلها إلى الصحافة،ومنظمات المجتمع المدني.

حيث سبق أن استنسخت الحكومة صحيفة «الثوري» الناطقة بلسان الحزب الاشتراكي اليمني لفترة وجيزة عقب حرب صيف 94، بدعوى أن منشقين من الحزب هم من قاموا بذلك، وتوقف الاستنساخ فترة من الزمن ليعود بشكل أكثر سفوراً بعد احتلال مقر صحيفة «الشورى» الناطقة باسم حزب اتحاد القوى الشعبية التي كنت أرأس تحريرها قبل مصادرتها، ثم استنساخها بدعوى أن حراس المقر الذين تواطؤوا مع السلطة واحتلوها، منشقين عن الحزب، علماً أنهم ليسوا من الحزب. وما زالت الصحيفة للعام الرابع على التوالي تصدر بانتظام وتطبع في مطابع وزارة الإعلام، وصار الحارس/ البواب موجها للصحيفة. و حفاظا على "التقاليد" تم مؤخراً استنساخ صحيفة «صوت الشورى»، الصادرة عن نفس الحزب، وعين ضابط أمن رئيساً لتحريرها.

وللعلم فإن الصحف المستنسخة تحافظ على شكلها العام حد انتحال أسماء كتابها فيما يكون خطابها موالياً للسلطة، وتغدو منبراً للشتم والسب والقذف بقصد تشويه اسمها وضرب مصداقيتها وثقة الناس بها والتشويش على الصحافة المهنية أيضا، ويتضح الأمر أكثر عندما ترفض الجهات المعنية التعامل مع أي شكوى ضد (الحراس الذين أصبحوا ناشرين) بل ويرفض القضاء قبول أي دعوى بحقهم.

تسليم الصحفيين كمجرمين

التنسيق الأمني هو الأكثر نجاحاً بين الدول العربية، ويبدو هذا النجاح واضحاً أكثر عندما تقوم الدول بالتعامل مع الصحفيين كمجرمين، يسلمون لدولهم متى طالبت بهم كحالة الصحفي الموريتاني عبدالفتاح ولد اعبيدن رئيس تحرير صحيفة الاقصى الذي كان العام الماضي يتحدث من هذا المكان وفي هذا المنتدى عن الحكم الصادر بحقه بعد ان شارك قادما من دولة الإمارات،.. ربما لم يكن يومها يفكر أن يقاد مكبل اليدين من دولة الإمارات العربية المتحدة إلى موريتانيا على ذمة قضية نشر، وهو ماحصل في 30 نوفمبر الماضي وزميلنا عبدالفتاح حاليا في السجن في ظل نظام الانقلاب الجديد في موريتانيا حيث زادت حدة التعذيب للسجناء وفقا لمنظمة العفو الدولية...

اليمن أيضا تسلمت من السعودية في سبتمبر الماضي الصحفي عبدالفتاح الشنفره مدير تحرير موقع الضالع بوابة الجنوب بعد ان اعتقلته الاستخبارات السعودية في يونيو الماضي من السعودية بنفس الطريقة وعلى ذمة تهمة ملفقة من قبل الأمن اليمني.

احتكار التعدد والتنوع الإعلامي

مازالت عدد من الدول العربية تحتكر لنفسها حق إصدار تراخيص الصحف والمجلات ناهيك عن الإذاعات أو القنوات، فمثلاً ترفض وزارة الإعلام باليمن الرد على طلب منح 68 ترخيصا مقدما أمامها.. ومنذ حوالي العام والزميل الصحفي فكري قاسم، وهو حاضر هنا معنا، يتابع ترخيص إصدار صحيفة "حديث المدنية" واستوفى كل الشروط وافتتح مقر الصحيفة بكامل تجهيزاته غير أن وزارة الإعلام لم تكلف نفسها عناء الرد، والمفارقة أن الوزارة تقوم بمنح تراخيص إنشاء صحف لأشخاص من خارج المهنة لاصدار منشورات صفراء لا تختلف عما سبق التطرق إليه، بينما تحرم الصحفي المحترف من حق كفله القانون تقدم لنيله بطلب مستوف لكل الشروط القانونية.

الاحتكار يمتد إلى سوق الاعلانات ايضاً، حيث يصنف المعلن في هذه المطبوعة أو تلك كداعم أو ممول، ما يضطر المعلن للاتجاه بإعلانه إلى الصحف الرسمية والموالية بشكل رئيسي أو صحيفة الحزب الذي ينتمي إليه، وهكذا تكون معايير النجاح، والانتشار، والمهنية لا قيمة لها في سوق الإعلان. ويتظافر مع ذلك سوء التوزيع الذي تعاني منه الصحافة باليمن وارتفاع سعر الطباعة والورق.

ولأن الحكومة تعد المشغل الوحيد لخدمة الانترنت، ونظراً لعقلية الاحتكار فإنها عادة ما تقوم بحجب المواقع الصحفية، وبالطبع فإن الحجب يكون من نصيب الرأي الآخر سواء كان معارضاً أو مستقلاً، ومع أن وزارة الاعلام في اليمن لا تدعي حقاً في أختراع البث الإلكتروني، أو خبرة فائضة في هذا المجال لكنها تعتزم إصدار تشريع قانوني خاص بالنشر الإلكتروني، علماً أن المحاكم اليمنية لا تخلو من قضايا مرفوعة ضد صحفيين ومواقع إلكترونية، وعادة ما يكون أغلب رافعي القضايا هم أطراف حكومية.

الاختطاف

 خطف المواطنين في اليمن في السنة الأخيرة أصبح ظاهرة، وأغلب المخطوفين يكشف عنهم في النهاية وبعد متابعة مضنية كمعتقلين أمنياً، بينما الصحفيون الذين تعرضوا لحالات خطف تشبه إلى حد ما، ما تعرض له الأستاذ عبد الحليم قنديل في مصر حيث يتركون في مناطق نائية بعد الإعتداء عليهم بالضرب والتهديد بالقتل وكسر الأصابع في حال عادوا إلى الكتابة.

وللعلم فجميع حوادث خطف الصحفيين باليمن لم يتم التحقيق فيها، ولم يكشف عن خاطف أو معتدٍ، وكان آخرها اختطاف الزميل عبد الفتاح حيدرة مراسل يومية الأيام التي تصدر في عدن وهو يغطي مظاهرات اندلعت في صنعاء تعلن مقاطعة الانتخابات، كشفت الخاطفين بوضوح لأنهم لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء التخفي، فهم استلموا زميلنا من سيارة شرطة وبعد ضربه غادروا غير آبهين بتسجيله رقم سيارتهم.

استخدام القضاء كساحة لتصفية الحسابات

نظراً لعدم استقلال القضاء في كثير من بلداننا العربية، فإنه يتم استخدامه كساحة لتصفية الحسابات السياسية، وإدانة الرأي الآخر، ولا تمنع إدعاءات الإصلاح والديمقراطية من الحكم بالسجن على الصحفيين في قضايا لا أساس لها غير الزور والبهتان. و كلها تؤكد التصميم على بقاء عقوبة السجن سارية لإدانة صاحب الرأي، وحدة المواجهة الرسمية للصحافة الناقدة،وشراسة الهجوم على الصحفيين وما القضاء إلا وسيلة إخراج وتمرير، وتلاف لحرج النظام، أو الحزب الحاكم، أو الحاكم الذي صرح ذات هفوة عن التوجه الجاد لإلغاء عقوبة حبس الصحفي.

ما تجب الإشارة إليه هنا أن معظم القضايا التي يحاكم فيها صحفيون وصحف في اليمن غالباً ما تكون مرفوعة من طرف رسمي و بنسبة 85 ٪، حد أنه يتم تحريك قضايا ضد صحف مستقلة بعد عام من التحقيق في نيابة الصحافة والمطبوعات و في غياب الشاكي، كما هو الحال مع صحيفة «النداء» المستقلة باليمن، وقد يستدعى طاقم الصحيفة كاملا كما هو وضع الزملاء في صحيفة الوحدوي، علما أن الصحفي يمكن محاكمته بخمسة قوانين عقابية تصل العقوبة في بعضها إلى الحكم بالاعدام، واذا حكمت المحكمة بالغرامة فبمبالغ خيالية تعني اغلاق الصحف او حبس الصحفي لعدم قدرته على السداد كما هو مع الزميل رشيد نيني مدير تحرير جريدة المساء المغربية الذي حكم عليه بــــ850 الف دلاور بالمغرب وحكم عليه بعد ذلك مطلع الشهر بـ قرابة 85 الف دولار اتعاب محاماة لوزير حقوق الانسان السابق في المغرب الذي ترافع ضد الصحيفة في القضية، أما في اليمن فمبالغ الغرامات المحكوم فيها أقل من ذلك بكثير لكنها كبيرة جدا ًقياسا بدخل الصحفي حيث قد تساوي مثلا مرتب 25 شهرا كما صدر في حق الزملاء صلاح الدكاك وفكري قاسم وخالد سلمان، وهذا الأخير كان يحاكم بـــ14 قضية في وقت واحد، فأعلن اللجوء السياسي بلندن في نوفمبر 2006م ليس فراراً من أحكام السجن الصادرة ضده، وإنما دفاعا عن حقه في الحياة حسبما أعلن ولم يكن اغتياله بعيداً عن التوقع.

وحسب منظمات صحفية يمنية فقد تم استدعاء 45 صحفياً إلى النيابات، ومثل أمام القضاء 40 صحفياً في عام 2007م، كما يتم إيقاف الصحف بتوجيهات شفويه احيانا للمطابع، وقد تعرضت هذا العام صحيفتان للإيقاف، بينما صحيفتان مازالتا قيد الإيقاف، إلى جانب ذلك فالمنع من السفر الى الخارج يتم ضد بعض الصحفيين.

أليس الثمن باهظاً؟

سؤال مثير وجدير بالتوقف أمامه طويلاً. من السهل القول أن الثمن مهما كان ليس باهظاً مقابل الحرية ورفض الفساد، ليس باهظاً أمام حق الأوطان، أمام آمال التغيير المنشود، إذ لا تغيير أو حرية بدون تضحيات، لكن سيقول آخرون: الصحفيون مهنيون وليسو ثوارا، والصحافة مشاعل تنوير و ليس عليها أن تكون شموعاً تنطفئ بعد حين مهما كان سمو الغاية.

لِم يتوجب على الصحفي أولا وأهله ثانيا دفع الثمن من راحته وقوته وحياته؛ قلقاً وسهراً، وخوفاً، وسجناً، وضرباً، وقد يدفع حياته كلها ثمناً. إذاً هل نقول إن الثمن باهظ؟

لكن ما قيمة صحافة مكممة تسبح بحمد الحاكم وأقاربه ومحسوبيه وحاشيته، تهلل للفساد، وتنافق لتظفر بفتات السلطان؟ ما أهمية الحروف دون حقيقة ومعلومة؟ ألا تستحق الحرية التضحية؟ معادلة صعبة في واقع أكثر صعوبة، الحكام يتحولون إلى آلهة، فيما الصحفي يتحول إلى متهم بالإرهاب والقتل، الحكام والأنظمة في بلداننا يمتلكون كل شيء؛ الأرض وما تحتها وما فوقها، فيما الإنسان لم يعترف به مواطناً.

هل هناك اعتراض ما على تعريف دور الصحافة باعتبارها أهم وسائل التغيير التي تمتلكها شعوبنا؟

أنا لا أقول هذا قدرنا.. لكن هذا واقعنا فإذا أردنا واقعا آخر ومستقبلاً أفضل فما علينا إلا أن نصنعه نحن بأقلامنا وأحلامنا، ولكي يتحقق لابد أن نناضل من أجله وفي سبيل تحقيقه، وبأي حال أن نكون أحد عوامل التغيير،أفضل من ان نكون ضحايا أبديين للتغيير.

نعم الثمن باهظ خاصة وأن بعض الحكام هم تحديدا من يقفون في مواجهة الرأي، والصحفي هذا أو ذاك بلا مواربه حين تومئ إليه بكلمة ناقده لا يتردد أن يرجمك بأمنه وجيشه،ومحكمته،وجهازه الإعلامي وحزبه الحاكم،وبعيدا عن أدنى وظائف الدولة يفرض عليك المواجهة في معركة غير متكافئة.

لو قلنا أن الثمن تحدده الخيارات،فما خيارات شعوبنا اليوم؟ ما هي الخيارات المتاحه على ضوء واقعنا؟؟وقد تهاوت قيمة الإنسان في بلداننا مقابل حكام يستكثرون على أنفسهم الموت والمرض، بينما يستكثرون علينا الحياة، ولعلي هنا لا أتحدث فقط عن نفسي وعن بلدي اليمن فحسب، ولكن عن واقع ليس غريباً عليكم وان اختلف في بعض تفاصيله.

نعم؛ الثمن باهظ ولكن ماهي الخيارات الأخرى لسيادة القانون، للتطور، للتغيير، لوجود صحافة فاعلة ومهنية، تقوم بواجبها كما يجب، وتساير العصر؟

أعتقد أن الخيارات الرسميه المتاحة تكرس واقع القبول بالذل والقهر والاستبداد والفساد الذي يعبر عنه بوضوح التوجه العربي الرسمي نحو تعديلات دستورية تخلد الحكام، وتحولهم إلى عائلات مقدسة.. الحكام يدافعون عن أوهام مجد، والصحفي يدافع عن الحقيقه، والحقيقه أهم من أوهام مجد الحكام، وأهم من الحكام بل أهم من المجد ذاته، إذ لا مجد بلا حقيقة.

نعم إن الثمن باهظ ولكن القبول بشروط الواقع الرسمي، يجعل الثمن باهظا بصورة أكبر،لأنه واقع تفقد معه الحياة معناها وجمالها..

أنا لا أتحدث بلسان الثائر أو المحرض ولا بلسان المتشائم أو اليائس، بل بلسان المؤمن بالتغيير، والحرية والعدل والمساواة، وكما أن الصحافة الناقدة من أهم أدوات التغيير، والصحفيون والصحفيات أهم أدوات التغيير.

بهذا الإيمان قضى نحبه جبران تويني شهيداً وسيبقى في الذاكرة بينما القتلة يتوارون كالجرذان.

لا قيمة للحياة بدون حرية حقيقية، ولا حرية حقيقية بدون تضحية، وعلينا أن نبحث سبل تطوير مقاومة الاستبداد، ونوسع مساحة العمل والجهد والتضامن بمساحة الحلم ورسالة الحالمين وتطوير آليات التواصل لتتكامل الجهود كخيوط أشعة تصنع نوراً ساطعاً لا تقوى عيون المستبدين على رؤيته.. ووطن تصنعه أقلام وأفكار وأحلام إبراهيم عيسى، وقنديل، ورشيد نيني، والفرحان وسعيد ووائل وولد حامد وزملائي اليمنيين سامي وفكري وسامي وراجح وانتم زملائي المشاركين، أنا واثق انه أفضل من وطن يفصل بمقاسات رئيس أو ملك، أياً كان وعندما تشرق الحرية سيقدر غيرنا أن الثمن لم يكن باهظاً.

 ورقة عمل مقدمة للمنتدى العربي الثالث لحرية الصحافة –بيروت ديسمبر 2008، الذي عقد تحت عنوان: الصحافة العربية المستقلة تتحدى الحكومات المقيِّدة.

alkhaiwani@gmail.com


في الجمعة 09 يناير-كانون الثاني 2009 06:58:19 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=4691