طبعة عصرية من حرب البسوس
محمد العلائي
محمد العلائي

حاجة قبائل سفيان والعصيمات لترسيم الحدود بينهما، حاجة غزة لفتح معبر رفح. ليس هذا مزاح، المسألة مسألة حدود وسيادة وحرس وعلم ونشيد وطني وزامل وأمراء حرب. لقد أكملت المعارك الشرسة الدائرة رحاها بين القبيلتان المتناحرتان، والمنتميتان إحداهما لحاشد والأخرى لبكيل، شهرها الثالث، وحصدت عشرات القتلى والجرحى.

من سخرية القدر أنه نزاع حدودي، بمعناه الحرفي والمجازي، أو في أحسن الأحوال خلاف على جربة قات. لكن دائرة المواجهات قد تتسع وتتفاقم عندما تستنجد سفيان بقبيلتها الأم بكيل، وحاشد تضم بندقها إلى بندق العصيمات، وهات يا حرب. وباختصار، فهذا الصراع البدائي الكريه راح يتخذ أكثر من شكل: فمرة قبلي تقليدي (اختطاف شيخ من العصيمات وتحميل سفيان المسؤولية)، ومرة حدودي بطريقة تدعو للرثاء، وتمادى البعض فأسبغ عليه طابع مذهبي عفن، وفيه قليل من السياسة، أو كثير.

سنفترض عدم وجود دولة حقيقية يمكن للمرء أن يلقي باللائمة عليها في ما يجري. وسنميل تلقائيا إلى الاعتقاد بأن ثمة شيء يشبه الدولة يشتبه بأنه مذنب على نحو أو آخر. وهذا الـ"شيء يشبه الدولة" يرجح أنه ربما يؤدي دور ما في الصراع، على طريقة الشرير الخفي في أفلام "الأكشن"، حيث يبرز دوره في الأحداث بصورة تصاعدية كلحن فرعي في البدء، ثم ما يلبث دوره أن يصبح هو الحاسم في نهاية المطاف. (هناك قاعدة أخلاقية في هوليود تضمن ألا يربح الشريرون، من وجهة نظرهم طبعا، في نهاية الأمر).

على أن الاشتباه بهذا الـ"شيء يشبه الدولة" في مفاقمة مشكلة سفيان العصيمات، لا يزال في طور الاشتباه فقط. بتعبير آخر: لم نحصل على حقائق تثبت أو تبرئ ساحة هذا الـ"شيء يشبه الدولة". مع ذلك فالعبارة التي تقول أنه "في كل جريمة فتش عن المستفيد"، من شأنها معاظمة الشكوك بل ورفعها، أحيانا، إلى مصاف الاتهامات.

عدا عن ذلك، فالاتهامات التي ألصقها مجاهد حيدر، أحد مشايخ سفيان، باللواء علي محسن الأحمر لا يمكن أخذها بعين الاعتبار لسببين، أولا لأنه محسوب على أحد طرفي النزاع، وثانيا بسبب الأسلوب الذي استعمله لقول تلك التهم الخطيرة. وسبب إضافي مهم، فالرجل مقيم في الخارج، دمشق تحديدا، ودعاواه لا تستند إلى أية وثائق أو أدلة مطلقا.

تتضارب الإحصائيات بشأن الضحايا. وبينما تؤكد بعض المصادر أن عدد القتلى من الجانبين قارب الـ50، فهناك من يقول بأنها لم تتجاوز بعد الـ45 قتيلا. المعارك لم تتوقف، فيما الجهود الضئيلة، التي يبذلها رموز حاشد وبكيل، لإيجاد تسوية باءت بالفشل، على الأقل حتى كتابة هذه السطور.

أسوء ما في الأمر أن الطريقة التي نتلقى بها خبر مقتل 50 شخصا في عمران وصعدة، باتت تشبه انفعالنا بخبر انتحار شخص في اليابان. فهل أصبحت الحروب تافهة لدرجة أننا ننتظر بلوغ عدد القتلى إلى قرابة 50 شخصا لنتحدث عنها؟

على سبيل المثال: نود أن تأتي اللحظة التي ننقل فيها خبر ارتفاع حصيلة المواجهات القبلية، التي تدور رحاها منذ 3 أشهر بين سفيان والعصيمات، إلى 50 قتيل، بنوع من الذهول والصدمة. نود أن نبكي ونعلن الحداد ونتعامل مع هذا الموت الوقح كأي شيء مخيف جدير بالاهتمام.

لكن الموت ليس سهلا، كما يقول سارتر.

علاوة على كون حرب سفيان العصيمات دليل آخر ودامغ، على وفاة الدولة (الخداج أصلا)، وتنامي حضور جماعات ما دون الدولة بضروبها الدينية والعشائرية والعرقية، فإنها تشير أيضا إلى أي مدى أصبح الموت مألوفا وسهلا بشكل يبعث على القرف، مثل وجه أي زعيم تظهر صورته باستمرار على وسائل الإعلام طيلة 30 عاما.

على الدوام كانت تروق للرئيس فكرة تحذيرنا من شبح الصوملة. وكانت هذه طريقته الخاصة للتذكير بنعمة الاستقرار التي أرساها دعائمها في اليمن، وكان ينجح في إخافتنا بالفعل. وظلت المعادلة المضحكة هذه تمثل إحدى ركائز حكمه: فنحن نمنحه ثقتنا على أن يكف عنا شبح الصوملة اللعينة. الآن شبح الصوملة يصافحنا عند كل منعطف. فمثلا، لم يعد هناك سوى فروق طفيفة بين كوسمايو الصومالية وعمران أو قبيلتا الهويا والدارود الصوماليتين وقبيلتا حاشد وبكيل، وهكذا دواليك. إنه المؤدى النهائي لانهيار الدول.

مجاهد حيدر يقول كلام كبير جدا، لكنه يفتقر إلى الكياسة. إنه يتحدث عن منطقة سفيان كما لو إنها جزر هاواي أو المالديف، أو شيء من هذا القبيل. الأربعاء الفائت صرح لـ"الوسط" بأن الشبر في سفيان (ما يدعو لابتسامة مصطنعة) يساوي ملك هارون الرشيد، "وأن سفيان قادرة على الدفاع عن أراضيها وحدودها وقد خيروها في كل الحروب الظالمة التي فرضوها عليها على مدى ثلاثين عاما منذ وصولهم إلى السلطة عام 1978".

لكأن سفيان أبخازيا الجنوبية في البلقان، والعصيمات جورجيا. أو على حد تعبير العزيز سامي غالب رئيس تحرير النداء: "كأن اليمن منظمة الوحدة الأفريقية".

في كل دقيقة تقريبا نشهد ولادة برهان جديد على أننا بلد مقيم في فجور التاريخ البعيدة. أناس بدائيون للغاية، ينفذون وصية كليب المكتوبة بالدم "لا تصالح"، صباح مساء. يوجد دائما في صفوفنا جساس بن مرة، وهناك دائما، بالمقابل، الزير سالم المهلهل الفارس الفوضوي والشجاع الذي لا يرحم، في حرب بسوس لا نهاية لها.

alalaiy@yahoo.com


في الثلاثاء 30 ديسمبر-كانون الأول 2008 04:22:18 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=4634