قتل أصحاب الحدود
طارق عثمان
طارق عثمان

مأرب برس – خاص

طبع على جبين أمه قبلة زاد بها مخاوفها عليه وأشعل في قلبها نيران الذكريات ألحراقه، فقد خرج أبوه هكذا ذات صباحٍ تهامي دافئ ولم يعد وعادت الأخبار تشيع لها الرجل الذي أحبته حتى الثمالة فقد كان حسن المعشر طيب السيرة ودودا محبا أثمر حبهما عن أربعة من الأولاد كان طفلها الذي تراه يافعا الآن هو فرحتهما الأولى .

هدأ مخاوفها ومسح دموعها التي أخذت طريقها تحت عيون مليئة بحزن عميق عمره عشرات السنين وضم رأسها إلى صدر عامر بالمشاعر فأخذ يربت على رأسها وهي تنتحب بين ترائبه النافرة .

طمأنها أنه لن يطيل الغياب وأن هجرته ستعود بالنفع على أخوانه الصغار الذين لا يجدون من يعولهم سواه وأنه سيفعل المستحيل ليعود وقد أمن مبلغا مناسبا يمكن إخوانه من مواصلة دراستهم التي حرم هو منها كما هو محروم من أن يمتلك أمل تكوين أسرة .

وعلى صوت بوق السيارة الذي أطلقه السائق ليستعجله للخروج فلتت منه تنهيده حراء أجابتها أمه بصدى تنهيده أشد منها . خرج مسرعا وهو يغالب دموعه ويتعثر بخطواته ويصعد على السيارة التي كانت تنتظره في الخارج وأخذ يرمق أمه بنظراته الحانية وهي تلوح لها بيده من كوة ضيقه في جدار البيت ،، انطلقت به السيارة صوب الشمال كطائر يستحث جناحيه لينضم لسرب الطيور المهاجرة التي كانت تنتظره على الحدود لتبدأ رحلتهم مع الخوف والجوع والتعب والضنى و الإهانة .

باتوا ليلتهم في العراء يفترشون أديم الأرض ويلتحفون سماء كانت نجومها تبادلهم النظرات وترقبهم بحنان افتقدوه من أهل الأرض.

ومع صوت عصافير الغبش استيقظت الطيور اليمانية المهاجرة لتواصل رحلتها بين الشوك والأشجار والصخور تصطحبهم في رحلتهم هوام الأرض وهموم لوطن.

أخذوا ينتقلون من وادي إلى أخر ومن تله إلى أخرى ومن جرف إلى أخر.

وحين كان التعب يشتد عليهم كان هو يبدأ بالحداء ويتمتم بأغنيته المفضلة التي تشعره أنه يتكلم عن نفسه .

أوَ طَير امْ غرْبِ ذِيْ وَجَّهْت سَنّ امْ تهايم

 قلبي ضناه امْ عَذابْ

أحيان في امْ زيدية واحيان منها وِشَايِمْ

 شَيَّب وِعاده شَبَابْ

سَقِّم أَشَا اتْسَايَلَكْ وَاخُو امْ طُيُور امْ حَوايِمْ

 عسى تِرِدِّ أمْ جَواب

*****

توقف يلتقط أنفاسه ثم واصل ترنمه الحزين ........

 

دايم زماني وانا بين امْ جَفا وامْ غلايِبْ

 ما ذقت طعم ام ْسَعَادة

مِيّان له عز من فارق دِيار امْ حَبايِبْ 

 وكيف يهناه زَادِه

   

من سَيَّبْ أم ْزَهْبْ وأِم ْوادي وهوش أمْ زَرايِبْ 

  وخيمته وِمْ قَعَادَهْ

يدعس على امْ زَرْبْ يِتكشَّم سموم المصايب 

 من عَافْ عِيْشَة بِلادِه

وعن هواها شَرَد

 بعدِ إم ْطمع في سواها

صدَّق لِشُورْ امْ شَوَدْ 

 وقال ما عاد يِشَاهَا

*****

أنحنى ينتزع الشوك الذي أخترق باطن قدمه وأدماها وقال وهي يتأوه من الألم .

والله اني ما طمعت بغيرها ولا عفت عيشتها والله اني أشتيها واشتي كل ذرة فيها لكن هي اللي ماتشتيناش .

وبينما هم كذلك هجمت عليهم دوريات حرس الحدود، تقافزوا مذعورين وتجاروا صوب الأحراش المليئة بالأشجار والحطب يختبئون فيها حتى يتمكنوا من مواصلة رحلتهم إلى مجهول يؤملون فيه خيرا لم يجدونه في وطن معلوم .

لم يحتمل حرس الحدود هذا المشهد من الكر والفر والذي يتكرر عليهم كل يوم فقرروا أن يضعوا حدا له فأشعلوا النار في الأحراش التي يختبئ فيها 18 شخصا وكأنهم 18 جرذا ، هكذا هم على الأقل في نظر حكومتهم التي لم تبقي لهم قيمة في نظر احد .

شبت النيران في الأحراش والتهمتها ومعها أجسادهم فقذفوا بأنفسهم بين النيران يدوسون الجمر والرماد ليخرجوا من قلب الجحيم الذي أحتضنهم بحرارة ، وتعالت صرخاتهم وأخذوا يتلوون ويشقون ثيابهم ويتمرغون بين الحصى كطيور مذبوحة.

انطفأت النيران بعد أن التهمت الكثير من أجسادهم النحيلة وتغذت على لحم خدودهم وأكتافهم ،،

 توجه الحرس بهم إلى المستشفى ومنها عودا إلى وطن تلتهمه نيران الغلاء وجحيم الفاسدين ولظى القلاقل والفتن .

 عاد خال الوفاض لا يحمل معه غير جسد ملأته الحروق التي لم تلتئم بعد، صحيح إنها قد تلتئم مع الزمن ولكنه حمل معها جروح أخرى غائرة في النفس لن تشفيها السنون الطوال ..

هذه هي قصة شباب يمنين احترقوا على الحدود،

فتية لم يفروا بدينهم بل فروا من دنياهم،

ولم يحرقوا في أخدود نجران بل في حدود جيزان 

فتية لم يحرقهم جنود ذي نواس اليهودي

بل أحرقهم حرس الحدود السعودي

إنها مأساة جديدة لشعب يؤمن بالحياة

فيقابله الموت من كل صوب

 فمن ياترى القاتل .

حكومة تشرد شعبها يمنة ويسرى

أم أشقاء أنهكهم هروبنا إليهم بالآلاف

فقرروا أن يحرقوا أجسادنا بغير عمد كما يزعمون لنحجم عن تكرار العبور.

وأين كان ما يقولون فإن الذي لا مراء فيه هو أن حكومتنا هي من تحرق قلوبنا ونفوسنا وماضينا ومستقبلناوكرامتنا ...


في الجمعة 25 إبريل-نيسان 2008 06:50:56 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=3646