عيد كبير جدا ( السنة الثانية)
طارق عثمان
طارق عثمان

مأرب برس - خاص

من بين الضباب الكثيف ترقب قلعة القاهرة بؤس المدينة المقهورة والجاثية عند اقدام جبل صبر كما انها ترقب طقوس المدينة وهي تستقبل العيد بصخب يخلو من فرحة وشوارع مكتضه بوجوه منزوعة البسمة ،،، 

من بين تلك الوجوه كان يجر طفليه ممسكا كل واحد منهم بيد وخلفه زوجته تمسك بالبقية وتحاول اللحاق به ولكنها تتعثر في شيذرها كلما حاولت مجاراته في اجتياز الرصيف حين يثب عليه بخفة متناهية فتشعرها خطواته المتسارعة برغباته الكامنة في الفرار منها .

- انتظر ... ها .. انتظر خرجنا نشتري مش نتسابق.

وتتعثر ثانية .فتردف

- أآآح كسروا رجلك .. جعععل لك فاني . تنزع حرف العين من أقصى حلقها المملوء بالغصص .

 يتوقف ثم يعود ثانية للهرولة صانعا بطفليه الذين يجرهما زحمة مضاعفة في جهة الشارع التي يؤمها معهم ومسببا الكثير من الكدمات لرأسي طفليه حين تصدمان بسيقان المارة وركبهم .

- انتبهوا تضيعوا ابوكم قالتها بوجل وهي توجه مرافقيها من البنات والبنين فيتطاولون على رؤوس اصابعهم لتتبع الرأس المنكوش الشعر الذي تغطيه قبعه لا يمنعها من السقوط غير اذنه اليمنى المشرعة في الهواء .

- يابلاشاه !! يابلاشاه !! قرررررب قرررب .

- وعلى مئتين يارعوي وعلى مئتين يارعوي

- بناطل جنز ، شمزان ، شيلان ، معاوز ،

هكذا تعالت اصوات الباعة في الشارع الصاخب وغير ذلك مما تجود به قرائحهم للترويج لبضاعة المتفرجون عليها كثر والمشترون قلة .

- بطاط حامي بطاط حامي .يصرخ أحد الباعة في زاوية منعزلة وهو يفتح غطاء القدر الكبير المملوء بالبطاطا المسلوقة فيعلو البخار كثيفا فاتحا معه شهية الصغار

- ابا اشتي بطاط

- مش وقته .. مش وقته ... ويسحب يده بعنف وبحركة مفاجئة كادت ان تلقيه ارضا

- بس انا جيعان . قالها وهو يغالب البكاء

- خلاص طيب طيب هات لنا بطاط 

وتحلقوا حول القدر ينشدون الطعام والدفء الرائع الذي يبثه البخار المنبعث .

واثناء انشغالهم باستلام البطاطا الملفوفة في ورق الجرائد وذر الملح والفلفل الاحمر عليها تتقدم منهم متسولة تحمل رضيعها الذي لا يستره من البرد القارس غير يديها التي تسند بهما ظهره وإليته وقد التقم ثديها المتهدل من صدرها بشغف .

- الله يحجي ( يستر ) عليك ... الله يحجي عليك 

تقول هذه العبارات بطريقه آلية خالية من الروح ولكنها متناغمة مع ايقاع خطواتها البطيئة .

- لله حق العيد .. الله يستر عليك .. الله يفرحك الله يفرج عليك .. اشتي اشتري له كسوة حق العيد و تنظر الى صغيرها .

- الله يحجي عليك ويستر عليك ويعطيك ،، شوفي غيري انا معي خمسة اشتي اكسيهم واشار الى الصغار الذين يلتهمون البطاطا بنهم .

- الله يحول لك .. تلح في السؤال ومد اليد 

- الله يرضى عليك ابعدي عني … شوفي ... شوفي... هذا الراجل الي واقف هناك ابو كوفية زنجبار روحي عنده وهو شعطيك هذا مليان فلوس ..

بحركة آليه تتجه صوب الشخص الذي اشار إليه

- الله يحجي عليك .. الله يحجي عليك ..

- بناطل ، شمزان ، بدلات فساتين معاوز

- وعلى مئتين يارعوي وعلى مئتين يارعوي ..

يسمع كلمة مئتين فيهرع صوب مصدر الصوت وقبل ان يلتقط انفاسه يسأل البائع

- فين البدلات ابو مئتين

يرد عليه

- معانا شرابات الثلاث بمئتين .... وعلى مئتين يارعوي وعلى مئتين يارعوي ..

تتساءل الزوجة بتهكم

- من صدقك تشتي بدلات من مئتين ريال ؟

- يما ابي له سنتين ما يشتريش لنا بدلات قد نسي كيف الاسعار

 تجيبها احدى البنات .

واثناء حوارهم يقترب منهم مجنون عاري الجسد تماما الا من اسمال بالية تغطي عورته فيتشبث الصغيران بابيهم .

- ليش هذا الرجال لابس كذا يابابا

 - هذا مجنون يبني مجنون

- طيب المجانين مافيش معاهم فلوس زيك ..

تجيب الام

- لا ما فيش معاهم لا فلوس ولا عقل زي ابوك بالضبط !! يشتي بدلة بمتين !!!يالله يالله الساعة 10 ولا عملنا شي

يتلفت الصغير ثم يشد ابوه من المعوز

- بابا بابا هذا البدله حلوووه اشتريها لي ..

يتحرك الاب خلف ابنه .. ويفتح ساقه واسعا ليجتاز مياه التصريف التي تملىء جزء الشارع القريب من الرصيف ..تحاول الام مجاراته ولكن ينتهي بها الامر وسط المياه التي تسربت الى حذاءها البلاستيكي وتطايرت على اسفل شيذرها .. فتتمتم بالشتائم والدعوات لزوجها الذي يوقعها دائما في مثل هذا ..

يدلف هو الى المحل فيستقبله البائع

- يأ أهلا وسهلا .. من العايدين مقدما ... اتفضل اتفضل

- كم سعر البدلة.؟؟.. ويشير الى البدلة التي حازت إعجاب ولده

- السعر اللي يعجبك

- شوف انا مش فاضي قل بكم وخلصنا

- 3500 كلام واحد

يرفع يده ليحك شعره المنكوش ويعدل من طاقيته فتسقط على الارض فينحني لالتقاطها فيسقط منه الشال فيعود لالتقاطه فتسقط الفلوس من جيبه وتتناثر على الارض وتختفي العملات المعدنية بين ارجل الزبائن ..

يبذل جهدا كبيرا قبل ان يتمكن من استعادة النظام داخل المحل .

- عفوا .. عفوا بس معك خبر ثاني والا اخرج

- علشان هذا الحبوب ويشير الى الصغير وعلشان شكلك طيب ومحترم وناوي تشتري خذها ب 3400

كتم الطفل ضحكة غالبته فخرجت على شكل سعله خفيفة عندما سمع كلمة ناوي تشتري ..

- اخي انا كل اللي معي 7000 ريال ومعي خمسه اولاد وامهم معاك كسوة للجميع والا خرجنا

- ممكن تشتري الان بدلات لاثنين من الصغار ب 7000 والباقي يوم الوقفة .

- هه .. ههه .هههه يالله يالله خرجنا .. خلونا ندور بالعربيات احسن .

الصغير اشتري لي انا من الدكان واخواني من العربيات مافيش حق جهال بالعربيات ..

- الحذاقه حق امك خليها لعيد السنة الجاية يمكن نحتاجها ...يالله يالله ..

خرجوا من المحلات تجولوا بين العربات مروا على معظمها ، دون فائده فالمبلغ لايكفي ... وفجأة انطفأت الكهرباء وتعالى الصراخ والهمهمات

ياعيدوه ياعيدوه ، عيدت عيدت ، شغل النووي ياليد ، وهدر صوت المولدات الصغيرة

 تلاحمت الاسرة وتكتلت قرب بعضها تنشد الدفء والراحة والامان

- ليش انقطعت الكهرباء ياباب اليوم

رد الاب

- سؤال غبي

تدخلت الام

- ليش غبي ؟ ايش الغلط الي قاله ؟؟ انت كذا دايما تقهر ابنك .

- لان السؤال الصح ليش انقطعت الكهربا اليوم مرة واحدة بس ... وقطع صخب وصفير المارة حديثهم عندما عادت الكهرباء مرة اخرى

فجأة صرخ ابوهم كالمجنون الفلوس .. الفلوس .. سرقوا الفلوس ادخل يده في جيبه وفي جيب حزامه وتحت المعوز خلع الحزام نفض ملابسه تحسس تحت قبعته اعاد كل ذلك مرة تلو الاخرى بحث حوله فتش الصغار ... ولكن دون فائده

تساءلت الزوجه بحنق

 - سرقوها وانت ايش تسوي مكانك اهبل ..

الاولاد

- يعني مافيش بدلات

- بعد السنة الاولى ... كمان هذي السنة مافيش كسوة !!

بكى الصغير ركل الارض تمدد على الرصيف اخذ من تراب الشارع واخذ يطلي به وجهه وينتحب

دعت الام

- الله يقهره من قهرك يبني الله يقصف عمره الله يشله ...

- خلاص خلاص مافيش فايده من الدعا والصياح الان خلونا نروح افتضحنا

بصوت متهدج قالت البنت

- ان شاء الله الي سرق الفلوس يموت يوم العيد

- يابنتي لا تدعي على من سرق الفلوس هذا مسكين زينا اكيد مافيش معاه كسوة للجهال ادعو على السارق الكبير

- من السارق الكبير يابا ؟؟

- السارق الكبير هو اللي سرق تعبي وشقاي وعمري ومستقبلكم وخلى راتبي مايكفيش شراء حتى بدلات للعيد ..

- من يكون يابا ..

قبل ان يرد اقترب منهم المجنون فجفل صاحبنا ولملم نفسه وصرخ بهم

- يالله يالله تأخرنا وقفوا دباب نروح البيت

رفع الصغير فوق كتفه وتوجه نحو الدباب بقيت عيني الطفل الباكيتان متسمرتان في البدله التي تظهر من خلف زجاج المحل وحتى حين استقلوا الدباب بقي هو ينظر اليها من خلف زجاجه وينتحب حتى اختفت من أمام ناظريه .في حين نظر ابوه الى قلعة القاهرة بعتب شديد وكأنه يقول لها الى متى ستبقي صامته ..

ـــــ

لقراءة عيد كبير جدا السنة الأولى انظر انقر الرابط


في الخميس 13 ديسمبر-كانون الأول 2007 11:45:23 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=2980