أفكار حول إصلاح نظام الحكم
علي أحمد العمراني
علي أحمد العمراني

بدت تناولات البعض إزاء مبادرة الإصلاح السياسي التي طرحها الاخ الرئيس متسمة بحدة ، ولغة إتهامية مفرطة ، تحاكم النوايا وتثير الشكوك بل وتنذر بالخطر وكأن كارثة قد حلت أو على وشك أن تحل بالبلاد فتهلك الحرث والنسل، حتى أنه تبدا لغير المتابعين أن جميع الدول التي تتبنى تطبيق النظام الرئاسي هي من الدول الفاشلة بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها فما بالنا بفنزولا بلاد أخينا "شافيز" على حد تعبير حسن نصر الله وأقول : أيضا والبرازيل بلاد عمنا "لولا" .

ولعل مما يلفت النظر ، هو بعض التناولات المتعجلة لمبادرة الأخ الرئيس، وخصوصا ما اتسمت به طروحات بعض الأكاديميين ، الذين يذكروننا بعصور التضليل والشمولية . وإذ تأتي الأحكام المتطرفة والآراء البعيدة عن الموضوعية والحصافة من أكاديميين وأساتذة جامعات, فإن المرء لا بد أن يساوره شك كبير في نوع العقليات وجدوى المعرفة التي يمتلكها أولئك ويقدمونها لأبناءنا الطلاب. وحيث لا نتوقع من أساتذة الجامعات أن يكونوا حملة مباخر ومادحين للسلطة وأهلها كما يفعل بعضهم بلا حدود وبابتذال إلى درجة البلاهة ، فلا أظن انه مقبول أن يظ ل أحدهم بعيدا دائما عن الموضوعية ، منتقدا ومعارضا لكل شيء يأتي من أهل الحكم والسلطة ، ويكون النقد والإعتراض بلا قيود أوحدود أو منطق أيضا . و لا شك أن المصداقية والموضوعية فضيلة يحسن التمتع بها عند الجميع بما في ذلك ممتهني السياسة من غير الأكاديميين ... وكون كاتب هذه السطورمن المشتغلين بالشأن العام ومنتمٍ حزبيا أيضا ، فإن أمله معقود أن يكون تناوله لقضية هامة ، تتعلق بإصلاح النظام السياسي ، موضوعيا إلى أقصى حد ...

استخلاصات وعبر من تاريخنا المعاصر

لا بد سيتساءل كثيرون مستقبلا كيف أن الحوارات واللقاءات والمفاوضات التي دارت قبل 22 /مايو/1990 أي قبل الوحدة ، لم تتمخض عن الإتفاق على دستور أشمل وأكمل من الدستور الذي تمت على اساسه وحدة البلاد ، حيث كان إلى جانب كونه توافقيا تغلب عليه صبغة مرحلة الحرب الباردة ، فقد اتضح أنه لم يكن ملائما حتى لظروف العام 1990 نفسها ، حيث ألحقت به اتفاقية اطلق عليها اتفاقية الوحدة تجاوزت بعض نصوصه وأحكامه كإختيارالتعددية ومدة الفترة الإنتقالية . وكون كل ذلك لم يكن كافيا ولا ملائما فقد كان على البلاد أن تنزلق في حرب أهلية مدمرة ليس فقط للبنية التحتية وللإقتصاد ولكن للكثير من الأحلام والتطلعات التي ارتبطت بالوحدة نفسها ، ولا يستطيع أ حد أن يدعي غير ذلك ... وأيا ما كانت الحال فلا يمكن لأحد أن يدافع عن قصر النظر والضبابية التي اكتنفت ولا تزال تكتنف العقل السياسي اليمني ولعل الكثير من التداعيات التي نراها ماثلة أمامنا في أكثر من منطقة تؤكد على ذلك .

وصحيح فقد رفعت أطراف في التجمع اليمني للإصلاح قضية تعديل الدستور قبل التوحد ، غير أن ذلك لم يكن بهدف إصلاح الدستور وجعله اكثر ديمقراطية واكثر ضمانا للحقوق والحريات الخاصة والعامة أو أن يكون نظام الحكم برلمانيا أو رئاسيا كما يثار الجدل الآن. لكن ذلك كان نتيجة لمخاوف اثبتت الأيام أنها لم تكن في محلها ، كالخوف من الإشتراكية والشيوعية التي كانت تلفظ أنفاسها أو نها قد لفظت أنفاسها بالفعل في عقر دارها ومنبعها ومصدر قوتها نفسه.

أما قيادة الجنوب فكان بإمكانها أن تشترط ( مثلما حصل في قضايا أخرى ) إصلاحا للدستور من قبيل أن يكون النظام برلمانيا أورئاسيا مثلا ، لكنها كما يبدو لم تكن بعد على يقين حول ما هو الأصلح بالضبط وربما كانت الأيديولوجيا المعادية للغرب الراسمالي ونظمه وأساليبه لا تزال تتحكم في التفكير والعقل الباطن والظاهرأيضا لدى القيادات النافذة في الإشتراكي في ذلك الوقت. وفيما اتسمت فترة ما قبل الحرب بأفكار ومبادرات عديدة كان أفضلها في تقديرنا فكرة الإنتقال الى النظام الرئاسي الكامل وفقا لما هو مطبق في الولايات المتحدة ، فإن الكثير من المبادرات كانت تتسم بالمزايدات والشطط والتأزيم الذي انتهى الى الحرب . و بعد أن انفجرت الحرب كان لا بد للغالبية العظمى من أبناء الشعب أن تنتصر للوحدة . وعندما سكتت المدافع يبدو أنه كان لا بد للمبادرات أيضا أن تسكت ، بنوعيها العقلاني والمتسم بالشطط. ومع الإبقاءعلى درجة عالية من حريات التعبير والتعددية التي كفلها الدستور فقد تمت العودة فيما يتعلق ببنية النظام السياسي في شكله المختلط وهياكله وأساليبه الى نظام ما قبل الوحدة تقريبا وبصفة عامة.

وفيما كان الإشتراكي يعاني من قصور ذاتي بسبب نتائج الحرب من جهه وربما بسبب آثار خلفيته الأيدولوجية من جهة أخرى ، فلم يكن بمقدوره أن يتبنى مبادرات حقيقية للإصلاح ، أما حزب الإصلاح شريك "النصر" في حرب الحفاظ على الوحدة فله أسبابه التي لم تساعده أن يقدم مبادرة لإصلاح النظام السياسي بعد الحرب ، منها "سلفيته" في التفكير إجمالا وارتباطه القوي بالماضي في منطلقاته على وجه العموم، وكانت قضية أن تكون الشريعة مصدر كل القوانين لها أولوية لا تُضاهى لدى غالبية الإصلاحيين ، وجمهور الإسلاميين ولعل منهم الكاتب نفسه ، ويمكن التضحية في سبيل ذلك باي شي .. وربما حتى صرف النظر عن أي شي آخر . ويبدو أنه على الرغم من محورية مثل هذه القضية لدى إسلاميي اليمن ، إلا أن أهميتها في حقيقة الأمر لا تعدو ان تكون شكلية لدى آخرين كثيرين في الساحة الإسلامية . ومثل هذا النص لا يشكل الأهمية نفسها عند إسلاميين آخرين في المنطقة العربية أو المنطقة الإسلامية كمصرأو المغرب أو تركيا حيث يمكن الإكتفاء بان تكون الشريعة مصدرا من مصادر التشريع أو المصدر الرئيس أو يمكن التغاضي عن كل ذلك والعمل في إطار العلمانية والإلتزام بمبادئها ، كحالة إسلاميي تركيا ... و مع التسليم بعظمة مقاصد شريعة الإسلام وغاياتها فربما يحق لنا أن نتساءل إلى أي مدى يمكن لتشريع ينص على تبني النظام البرلماني أن يكون مصدره شريعة الإسلام ، وينطبق الأمر على النظام الرئاسي أيضا ! . بتعسف ، كما هي العادة، يمكن أن تكون الإجابة بنعم ، مع أن الإجابة بلا وهي الأصح ، لا تقدح في عظمة الشريعة ولا سمو مقاصدها ، لكن ذلك بالقطع لا بد أن يطرح أسئلة كبرى حول تشوه التفكير وقصور الفهم ووظيفة العقل ودور المنطق وأثر الضمير في عالم المسلمين . وفي الجملة ، وربما بسبب قلة الخبرة والمعرفة والتراكم وتغليب التعلق بالماضي لم يكن حزب الإصلاح قادرا أن يقدم مبادرات ذات مضمون وأهمية لإصلاح نظام الحكم . وصحيح أن الإصلاح ، عندما كان شريكا في الحكم بعد الحرب كان يطرح أهٍمية الإصلاح الإداري ليكون مقترنا مع الإصلاحات المالية ، لكن قضايا إصلاح نظام الحكم كانت غائبة عن أجندته ولم يولِها أهمية تذكر . إضافة إلى ما سبق فإن خصوم الإصلاح غالبا ما كانوا يطرحون أن همه كان منصبا على وراثة الإشتراكي في السلطة ، بمعنى أخذ مكانه. وربما يعود الفضل في تبني طروحات من نوع إصلاح النظام السياسي في الآونة الأخيرة ومنذ ما قبل الإنتخابات الرئاسية إلى من يمكن تسميتهم " الإصلاحيون الجدد " وشخصيات أخرى في صفوف المعارضة .

أما المؤتمريون فلم يتيسر لهم أن يكونوا سباقين في طرح أفكار من نوع مبادرات لإصلاح نظام الحكم . ولا يستيطع المرء أن يدعي غلبة الأفكار وأهل الأفكار على تنظيم كبير ثري بالعمالقة ، في فترة ما بعد الحرب ولحد الآن . ولذلك لم يكن حظ البلاد جيدا بما فيه الكفاية منذ وضعت حرب 1994 أوزارها ، ولعل من نتائج ذلك التطورات الخطيرة في صعدة وترحيل معالجة قضية المتقاعدين حتى تفاقمت على شكل أزمة مقلقة , وكذلك تفاقم قضايا الفساد . وما نلمسه الآن من بوادر توتر في مناطق عدة يرجع الجُزء الاكبر منه إلى سوء الإدارة وقصر نظر وتدني كفاءة كثير من النافذين واتجاهم للثراء غير المشروع وأنانيتهم ، وإلى إستغلال مفرط في أنانيته أيضا من قبل معارضة الداخل والخارج ...

نظام برلماني أم رئاسي ؟

أثبت النظام المختلط المطبق في بلادنا وكثير من البلدان العربية أنه ليس وعاء ملائما للتطورالمؤسسي ولا التطور الديمقراطي ، ولعل الأوضاع السياسية القائمة في الدول العربية التي تتبنى هذا النظام ومنها بلادنا يؤكد ذلك ، ولذلك فلا بد من مغادرة هذه الوضعية بأسرع ما يمكن وقد تعرضنا لذلك في مقال سابق نشر في موقع يمن نيوز بعنوان "حوار الأحزاب واجندة المستقبل" . وقد تم تبني هذا النظام نقلا عن نظام الجمهورية الخامسة في فرنسا ، مع تكييف جعل تطبيقه سلبيا وضارا في البلاد العربية عنه في فرنسا ، وللإنصاف فإن اليمن قد لا تعد الأسوأ في هذا المجال مقارنة بشقيقاتها العربيات ومنهم سوريا ومصر..وإذا لم نكن نحن الاسوأ فإننا لا نريد الإدعاء أننا قريبين الى الأصل المطبق في فرنسا بتوازن دقيق بين السلطات والمسئوليات والصلاحيات . وباعتبار أن جميع أنظمة الحكم الديمقراطي هي نتاج لاجتهادات البشر وتلبية لحاجاتهم وتهدف أن يكون الحكم رشيدا وتحقق من خلاله وفي إطاره المصالح العامة ، فإن الكمال ليس صفة لأي من هذه الإنظمة ، وبالتالي فبقدر التاكيد على الحاجة إلى الإنتقال من الوضع الحالي ، فهناك حاجة للوقوف بمسؤلية تاريخية وتجرد كامل عند المفاضلة بين الأنظمة النيابية آخذين بعين الإعتبار حاجات البلاد وظروفها ومستقبلها .

وعلى الرغم من جوانب القصور التي تعتري النظام الرئاسي غير أنه كما يبدو أكثر ملاءمة لليمن في الزمن المنظور ، فبقدر الحاجة إلى توسيع قاعدة المشاركة والحراك السياسي الدائم والدائب والحيوية البرلمانية الذي يتسم به النظام البرلماني ، غير أنه سيجعل البلاد أقل أتزانا وربما حتى أكثر اضطرابا ، وبالتالي أقل استقرارا ، بما ينعكس على معيشة الناس وأمنهم واستقرارهم ويؤدي إلى زعزعة ثقتهم بالسياسة والسياسين والحكومة والإنتخابات والأحزاب، الأمر الذي قد يقود إلى الإضطرابات وحتى الإنقلابات العسكرية وبالتالي العودة إلى الإستبداد من جديد . وهناك حالات كثيرة بقدر ما يحصل فيها من تناوب بين الأحزاب السياسية فإن التناوب الأكثر هو ما يحصل بين العسكر كحالة باكستان وبنقلاديش مثلا ، حتى أن المفكر الباكستاني طارق علي يشير في مقال له في مجلة وجهات نظر المصرية ، إن دور الاحزاب المدنية في باكستان لا يعدو كونه مجرد التمهيد لتناوب حكم العسكر منذ عهد أيوب خان ويحيى خان ومرورا بضياء الحق إلى عهد مشرف. وينطبق الحال على بنقلاديش أيضا التي تقبع رئيستا وزرائها المدنيتان الْسابقتان المتعاديتان البيغوم خالدة ضياء رئيسة الحزب الوطني البنغلاديشي والشيخة حسينة واجد زعيمة حزب رابطة عوامي في السجن بعد فشل الجنرالات في إيداعهما في المنفى وفقا لمجلة المجلة الصادرة في لندن في عددها 1440وتاريخ 22/09/2007. ولا يغيب عن الذاكرة أن إنفصال بنقلاديش عن الباكستان عام 1970 جاء إثر إنتخابات عامة فاز فيها حزب عوامي بقيادة مجيب الرحمن على حزب الشعب بقيادة ذو الفقار علي بوتو . ووفقا للأستاذ / محمد حسنين هيكل في كتابه "زيارة جديدة للتاريخ" فإن السلطة لم تسلم للحزب الفائز حينذاك "عوامي" وبدعم من الطبقة الإستقراطية والجنرالات في باكستان الغربية ، وقاد ذلك إلى إضطرابات خطيرة في باكستان الشرقية - "بنقلاديش " فيما بعد - أدت إلى تدخل الجيش وبتأييد سياسي من بوتو وحزبه ، لكن الجيش لم يتمكن من النجاح وإنما تكبد هزيمة مذلة . وبدعم من الهند إنفصلت بنغلاديش عن باكستان . وبعد حوالي خمس سنوات كان حبل المشنقة بانتظار الزعيم المشهور بالذكاء ذو الفقار علي بوتو نفسه في سجن روالبندي، وكان الذي وقع حكم الإعدام وأصر على تنفيذه هوالجنرال محمد ضياء الحق ، الذي قاد إنقلابا عسكريا ضد حكومة بوتو وصار رئيسا ولم يقصه عن الرئاسة إلا موته في حادث طائرة شهير مع السفير الأمريكي . ولم تكن نهاية ضياء الحق في عام 1988 هي نهاية حكم العسكر ، حيث تناوبت عائلتا بوتو وشريف لمدة أطول نسبيا من السابق ليفسحا المجال من جديد للجنرال مشرف الذي أطاح بنواز شريف الذي سلمت رقبته من حبل المشنقة بصعوبة كبيرة ، لكنه وجد نفسه في منفى إجباري ولم يستطع العودة لحد الآن ، فيما عادت بناظير منذ أيام ، بعد حياة في المنفى استمرت ثمان سنوات إلى كراتشي ، وتعرض موكبها لهجوم أودى بالعشرات .

ولأسباب ترتبط بمستويات التطور عانى النظام البرلماني هزات وثورات وردات عن الثورات والجمهوريات كما هو الحال في فرنسا الى النظام الملكي تارة والإمبراطوري تارة اخرى ثم الجمهوري من جديد .

وحتى بريطانيا لم يستقرالامر فيها الا عندما سلم الملوك بأن يكون دورهم مراسيميا وصوريا ليس لهم من الأمر شيئ ، وتطورت سلطات رئيس الوزراء الفعلية منذ العودة الى النظام الملكي بعد الثورة وإعلان الجمهورية وإعدام الملك تشالرلز في القرن السابع عشر ، إلى سلطات أصبحت الآن أقرب الى سلطات رئيس الجمهورية الامريكية وفقا لأستاذ القانون الدستوري في جامعة السوربون "موريس دوفرجيه" في كتابه "المؤسسات الساسية والقانون الدستوري" . و مع وجود التباينات في الشكل فلا يستطيع احد أن يقول أن السلطات الفعلية لمارجريت تاتشر وتوني بلير هي اقل من سلطات رونالد ريجان وبيل كلينتون وجورج بوش الأب والأبن ، والفرق هو أن مارجريت تاتشر حكمت حوالي ثمانية عشر عاما مدعومة بأغلبية برلمانية تفرض من خلالها السياسات والتشريعات التي تريدها ، وينطبق الأمرعلى توني بلير الذي حكم حوالي اثنى عشر عاما ، فيما لم يستطع أي رئيس أمريكي أن يتجاوز الثماني سنوات ، وفي الحقيقة لم يستطع "بطل" حرب الخليج الأولى جورج بوش الأب أن يحكم أكثر من أربع سنوات ، حيث تمت هزيمتة من قبل الشاب المتألق الذكي بيل كلينتون القادم من عائلة بسيطة ومتواضعة والذي رفع شعار "إنه الإقتصاد يا غبي " ، وقال في خطاب تنصيبه : "لو لم أكن ولدت في هذا البلد العظيم لما كان لي ولا لأمثالي أن يحلم أن يكون رئيسا... " ونادرا ما يحظى الرئيس الامريكي بدعم غير مشروط من الكونجرس الذي غالبا لا تكون الأغلبية فيه من حزب الرئيس ، وحتى أولئك الذين يجمعهم مع الرئيس حزب واحد فإنهم يمارسون دورهم في الكونجرس أقرب إلى أن يكونوا مستقلين . ويراعون الراي العام أكثر من مراعاتهم لرغبات الرئيس أو توجهاته .

وفيما يحقق النظام الرئاسي الكثير من مزايا النظام البرلماني فإنه يتفوق عليه من حيث الإستقرار في راس النظام والحكومة لمدة لا تقل عن أربع سنوات كما هو الحال في أمريكا. ويستطيع المرأ أن يتصور حالة البلاد عندما لا يحصل حزب على أغلبية لتشكيل الحكومة كيف يمكن لمصالح البلاد أن ترتهن و يظل الناس في انتظار ما سيسفر عنه حوار الأ حزاب واتفاقها واختلافها في وضع مثل وضع اليمن ، وقطعا فلو أن حال البلاد قد وصل الى وضع متقدم في الجوانب الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والسياسية ، لكان يمكن أن يكون النظام البرلماني ملائما ، لكنه والحال كما هي سيكون ضره أكثر من نفعه . ولا يجب أن ننسى أن الثورات والإنقلابات التي حصلت في العالم العربي منذ الاربعينات في سوريا ومصر والعراق قد استهدفت أنظمة برلمانية ، في الأساس . وفيما كانت الثورات في عالمنا العربي واعدة فقد اختلطت الأمور بعد ذلك وإلى حد الآن حتى انتهى الأمر بنا إلى دكتاتوريات بأشكال مختلفة ، وأصبح الحديث عن سرقة الثورات على حد تعبير اللواء صلاح الدين المحرزي له مبرراته ووجاهته .

وبقدر الحاجة إلى أن تكون الحكومات ممثلة للشعوب وتعبر عن إرادتها ومصالحها غير أنه لا يمكن لأي نجاح أن يتحقق في ظل أضطراب ونزاع وفوضى ، وحتى في حالة أن يحقق حزبا معينا أغلبية فإنه عادة لا يستطيع أن يحقق النجاح في دولة نامية لأنه يتعرض عادة للضغوط والإحتجاجات والمسيرات والإضطرابات من خصومه ومعارضية بهدف إسقاطه كما ينسب الدكتور عبد الرحيم عبد الواحد إلى الدكتور مهاتير محمد في كتابه عنه "مهاتير محمد بعيون عربية وإسلامية" . وهنا لعلها تجدر الإشارة إلى أن الدكتور مهاتير محمد قد حقق نجاحا كبيرا في إدارة الحكم في ماليزيا من خلال رؤية ثاقبة وبصيرة تمخضت عن تبني فكرة إئتلاف واسع أداره لأكثر من عشرين عاما والإئتلاف مستمر حتى ا للحظة بقيادة خليفته عبد الله بدوي . وفي الحقيقة فإن شخصية وحكمة ورؤية مهاتير محمد قد يصعب تكرارها في ظروف أخرى وأماكن أخرى كثيرة . ومع ذلك فقد ظل يُتَّهَم بالدكتاتورية من قبل بعض الحكومات الغربية ، لكنه ظل يدافع عن أولوية الإستقرار وضرور ته للإنجاز والنجاح وكان يرد عليهم بأنه يصعب نقل ما انتهت إليه خلاصة تجربة الغرب عبر القرون بكل تفاصيلها إلى دولة نامية ’ حيث أن ذلك سيعصف بالإستقرار ويجهض التنمية . و مع ذلك ، وا لحق أن ليس لأحد في عالمنا العربي أن يكرر على مسامع الشعوب مثل دعاوى الدكتور مهاتير محمد ، ذلك لأن مهاتير عندما أكد على أولوية الإستقرار وأهميته للتنمية حقق ذلك من خلال شراكة مستمرة واسعة من جهة ، واستطاع أن يحقق الإستقرار والتنمية والنمو المستدام جملة واحدة ومعا وتنحى عن السلطة في الوقت المناسب الذي حدده والتزم به من قبل.

عن القدوة الحسنة ...قوة النموذج والمثال

من غير شك فإن نظام الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية يعتبر احد أنظمة الحكم النيابية الديمقراطية النموذجية الناجحة في العالم الديمقراطي وهو تجربة إنسانية متقدمة . ولا نقول ذلك من قبيل الوقوع تحت طائلة التاثر بلا حدود والإنبهار بأمريكا ، والامريكيون أنفسهم لا يدعون لنظامهم الكمال وكثير ما ما يسمع المتابع تعليقات من كثير من رجال الدولة هناك وغيرهم من المهتمين :

It is not perfect but it works " " ( إن نظام الحكومة لدينا ليس كاملا لكنه يعمل) . ويبدو إن النجاح المضطرد لنظام الحكم في أمريكا يرجع إلى ضمانات تشريعية تفتقت عن عقول المشرعين من الآباء المؤسسين ووضعت في صلب دستور الولايات المتحدة ، وإلى قوة المثال ونموذج القدوة الحسنة الذي أرسي منذ البدايات الاولى حيث أراد جورج واشنطن أن يرسي سابقة في تاريخ العالم عندما قرر أن يكتفي بفترتين رئاسيتين وأن لا يترشح للمرة الثالثة، ولم يكن هناك ما يمنعه سوى انه اراد التأسيس لأمة استشرف وتمنى ورغب أن تكون عظيمة، فلم يكن ينص الدستور حينذاك على الإكتفاء بفترتين بل كان الباب مفتوحا على مصراعيه إلى اربعينات القرن الماضي . وقد قيل ان واشنطن كان من بين قلة قليلة من المندوبين في المؤتمر الذي اقر وثيقة الدستور في فيلادلفيا ، لم يتحدثوا في ذلك المؤتمر ، ويبدو ان مساهمته كانت الأبرز ربما على مستوى التاريخ البشري ، وبدلا من أن يدلي بدلوه في المداولات الرسمية للمؤتمر وكان مندوبا عن فرجينيا رغب بعد ذلك أن يضيف شيئا عمليا فاكتفى بفترتين ورفض الثالثة ، وقد سار على نهجه كل الرؤساء الأمريكيين من بعد إلى عهد روزفلت المعاق الشهير" ذي العربة" الذي قاد أمريكا إلى النصر في الحرب العالمية الثانية ، وقال أنه لم يجد ما يمنعه دستوريا من الترشح اكثر من مرتين وترشح اربع مرات ونجح فيها جميعا ومات في الرابعة ، وقد كانت شعبيته كاسحة وأجرى العديد من الأصلاحات الاقتصادية والإجتماعية وصبغت سياسته في امريكا ما تبقى من القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية وإلى الآن . وبعد موت روزفلت عدل الدستور الأمريكي لينص صراحة على عدم إعطاء الحق في الترشح للرئاسة أكثر من فترتين.

واقعنا الراهن ..قبول التحدي في اتجاه المستقبل

لأن بلادنا تمر في فترة تاريخية خاصة جدا ، فإنه يلزمنا التحلي باعلى مستوى من الصراحة والمصداقية والوضوح ، والمطلوب هو أن نبدأ البداية الصحيحية وأجزم اننا لم نبدأ على نحو صحيح إلى حد الآن منذ قيام الثورة فما بالك بما قبل ذلك ، وإذا كنا نتحدث عن الثورية والوطنية كثيرا فلابد أن نعترف أن الأقوال قليلا ما تنسجم مع الأفعال وليس لنا نحن الذين ننشغل كثيرا جدا بتعظيم مصالحنا الضيقة والخاصة واستغلال نفوذنا وعلاقتنا لزيادة ثرواتنا وأموالنا الخاصة ونستمرئ مخالفة القوانين إلا أن ندرك حاجتنا الى الشعور بالذنب وما هو اكثر من الذنب وإلى ضرورة التغيير.

إن المبادرة التي طرحها الأخ الرئيس وتشتمل على عدة جوانب أهمها إعتماد النظام الرئاسي المطبق في الولايات المتحدة منذ اكثر من قرنين من الزمن ، تثير من التفاؤل و الأمل بقدر ما تثير الألم والحسرة ، فهي تثيِر الأمل لأنها قد تخرجنا مما نحن فيه من دعاوى المؤسسية وشكليتها وترهلها إلى ما يمكن أن يكون وضعا مؤسسسيا حقيقيا أو قريبا من حقايق الأشياء قابلا للتطور والتمكين مع الزمن ، وأقصد هنا المؤسسية بوضوح حدود الإختصاصات والمسؤليات وعدم تركزها في السلطة التنفيذية أو رأسها , بما يحقق التوازان والإتزان في نظام الحكم ، ويكفل تطور الكفاءة والفعالية في الأداء الوظيفي لأجهزة الحكم وفروعه ويبعد شبح الإستبداد ومخاطر دورات الإضطراب والفوضى والعنف التي تتولد عن الإستحواذ والإستبداد دائما وعبر العصور . اما كونها تثير شجون الألم والتحسر فلأنها أتت متأخرة اكثر من قرنين من الزمن على بداية تطبيقها ونجاحها في مكان آخر من الأرض وتمتع قوم كانوا قلة وكثروا وكانوا مستضعفين ومستعمَرين واصبحوا الآن يقودون العالم برضى أوغير رضى . وللمرأ أن يتخيل لو أن مثل أولئك المندوبين المجتمعين في فلادلفيا في مايو 1789 ليناقشوا ويقروا الدستور الامريكي كانوا يمنيين أو من كل العرب و إجتمعوا في المكلا او تعز او صنعاء أو لنقل القاهرة أو دمشق واقروا دستورا مماثلا في ذلك التاريخ ثم عملوا به من بعد ، كيف كان يمكن أن تكون أحوالنا اليوم ؟ ولعل مما يثير الشجون أننا لم نكن موفقين ولا جادين طيلة الفترة كلها التي تفصلنا عن عام 1789 ، وهناك من قد يقول أن الجدية لا تتوفر حتى يومنا هذا في أي قطر عربي بما ذلك هنا في اليمن لاقتباس تجربة تعد قديمة نسبيا لكنها أفضل بكل المقاييس مما يتوفر لنا نحن في بلاد العرب والمسلمين جميعها .

عندما يتذكر المرء الظروف والمواقف التي اكتنفت المبادرة التي طرحها الرئيس في 17/7/2005 بعدم الترشح للرئاسة لا بد أن يشعر بالمرارة وقدر هائل من "الدونية" الحضارية –الذي نأمل أن تكون وقتية - تجاه الآخرين وحتى الشعور بمرارة التخلف التاريخي والأخلاقي ، ويدرك أن التقزم الحضاري هو الذي لا يزال يبرز فينا خصوصا عندما يقارن ذلك بموقف الأمريكيين من مبادرة الرئيس جورج واشنطن بعم الترشح منذ اكثر من قرنين ، فلم تكن مواقفهم مثل مواقفنا ، ولعلهم لم يكونوا اقل تقديرا واحتراما لزعيمهم واشنطن من حالنا نحن الذين نحترمه ، لكنهم مثلما اتخذ الرئيس موقفا تاريخيا بعدم الترشح للمرة الثالثة ، كان موقفهم أيضا تاريخيا ، فلم يسيروا المظاهرات مثلما فعلنا نحن الذي ندعي الموالاة ، ولم يكونوا مشككيين وسلبيين مثل المعارضة عندنا الذين بدوا متربصين بالمبادرة وصاحبها وحرصوا منذ الوهلة الأولى على التاكيد أنها مجرد ادعاء وتظاهرا من الرئيس ليس اكثر ولا تعبر عن حقيقة ما في ا لنفس . واستطيع التاكيد أنها كانت حقيقية وتمثل رغبة صادقة في وقت اعلانها على الملأ لكنها تحولت إلى ما يشبه الورطة بعد ذلك . ويبدو أن الرئيس قد تعرض للضغوط بمجرد ما غادر القاعة التي اعلن فيها مبادرته تلك على الملأ. والحق أن كثيرا من الذين زينوا للأخ الرئيس التراجع عن مبادرته تلك كانوا حريصين علىمصالحهم الذاتية الآنية والأنانية ولم يكن حرصهم على الرئيس وتاريخه فما بالك بحرصهم على اليمن ، أما المعارضة فلم تكن في وضع أفضل يجعلها تثري المبادرة .... بمبادرات من قبلها تؤكد على أن ما قدمه الرئيس يعد شيئا عظيما ، يستحق به الخلود ، ويستحق أن يظل مكرما محترما طيلة حياته ،ومعززا في معيشته ومؤمَّنا محميا من أن ينا له سوء قط ..واذكر أن إحدى الكاتبات المعارضات النابهات (أروى عثمان ) قد أشارت إلى ذلك في أحد أعداد صحيفة الوسط ... بعد 17/7/2005

المعارضة ..مواقف مقلقة..وأهمية أن تكون المبادرة وطنية

أود أن أوكد هنا أن القلق ليس منبعه حزبيا كوني أنتمي إلى المؤتمر لكنه في الحقيقة أوسع من ذلك واعمق ، وسببه أن هناك فرصة تاريخية تلوح في الأفق قد لا يحسن التعامل معها في الوقت المناسب فتذهب سدى في بلد ضاعت منه فرص كبيرة وكثيرة و لم تكن القوى الموجودة الآن في الساحة باسم المعارضة مبرأة من مسؤلية ضياعها كما اشرنا سابقا ، ففيما فوت الإشتراكي فرصا كثيرة عندما كان منفردا في الحكم أوشريكا فيه بعد الوحدة ، فإن هموم الإصلاح كانت هامشية ومتواضعة وبعيدا عن آفاق ما يمكن أن يكون موقفا استراتيجيا إزاء الإصلاح الشامل والعميق لنظام الحكم عندما كان شريكا في الحكم وخصوصا بعد حرب 1994 حيث كان همه منصبا على قضايا مثل تضمين الدستور نصوص تجعل الشريعة الإسلامية مصدرا لجميع القوانين ، كما أشرنا من قبل أيضا ، أما ما يمكن أن يشكل إصلاحا حقيقيا للنظام فلم يأبه به الإصلاحيون ، ويبدو انه لا يزال ينطبق علينا ما يمكن توصيفه عدم رؤية الأخطاء الكبيرة أو تقبلها أوالتغاضي عنها إن لم يكن المشاركة في اقترافها عندما نكون في توافق ، ورفض ما يمكن أن يكون حقا عندما ما نكون مختلفين ، وفي هذه الحالة فإن الخشية من التوافق مبررة بقدر الخشيه من الاختلاف . وفيما عدا مواقف أقرب إلى أن تكون شخصية فإلى حد الآن لاتبدو المعارضة متفاعلة إيجابيا مع المبادرة ومجمل مواقفها تتسم بالتشكيك في الدوافع والمقاصد ، فحينا تقول المعارضة أن المبادرة طرحت للهروب من استحقاقات الشارع وحل مشاكل النظام (أو حل مشاكل الرئيس) بدلا من حلحلة مشاكل الشعب والبلاد وحينا آخر يطرح أن المبادرة لم تأت إلا تعبيرا عن رغبة الرئيس في الترشح من جديد لفترتين رئاسيتين قادمتين ولا أعتقد أن شيئا ما آخر سيكون مستبعدا عند الرئيس مثل استبعاد الترشح من جديد لأن هذا سيكون إفراط في المهزلة لا يقبله إنسان عادي جدا فما بالك بزعيم كبير .

أما كون الحكم يواجه مصاعب ومشاكل ويريد الخروج منها ومعالجتها فهذا صحيح . و هناك قطعا مشاكل يواجها الحكم ، بعض منها متوقع وبعضها لا شك انه وليد للسياسات الخاطئة وسوء الإدارة .ولا يعيب الحكم أن يفكر في معالجات وحلول للمشاكل التي تواجه البلاد الان ، ويستحق الثناء إذا هو قدم مع ذلك مبادرات من شانها المساهمة في جعل مستقبل اليمن أفضل بحق .

وفي كل الأحوال فإن المعارضة تتحمل مسؤلية ضرورة التعاطي بإيجابية وموضوعية كاملة مع المبادرة وتقديم الآراء والافكار التي من شانها أثراؤها وجعلها حجر الزاوية في أمن واستقرار وتنمية وتقدم اليمن . ومن الطبيعي أن تكون للأحزاب السياسية أجنداتها الخاصة واستراتيجياتها وتكتيكاتها قصيرة المدى بهدف التمكن من وصولها الى السلطة ، وربما لو أن المبادرة جاءت في وقت آخر مثلا قبل الإنتخابات الرئاسية الماضية بوقت كافي لكان الترحيب والتفاعل معها اكبر ولعل اجندة المعارضة الآن تركز على التاجيج والتصعيد خدمة لمصالحها الإنتخابية الخاصة في 2009 ، وقد يدفعها الثار لنفسها من نتائج الإنتخابات الرئاسية والمحلية وكذلك البرلمانية السابقة ، ومع ذلك يبدو أن الثار سيكون أخطرو أشمل من النيل من الحزب الخصم الحاكم حيث يبدو أن الوطن والدولة لن تسلم من أن تصيبها أخطار الثار مهما حسنت النوايا وخلصت المقاصد وسلمت الأهداف ...وكوني انتمي الى الحزب الحاكم فإني لا استطيع ادعاء البراء له من المسؤلية والشطط في مناسبات عدة ... لكن قضية مثل موضوع التعديلات الدستورية المطروحة الآن تلزم أن يشارك فيها الجميع واعتقد أن المعارضة لم تكن على صواب عندما اعتذرت عن حضور اللقاء الذي دعا اليه الرئيس وعقبه أعلنت المبادرة وحسنا فعل الجميع عندما التأم الشمل في عدن أمس الأول ، ومن المهم التاكيد على المشاركة والحوار المعمق حول إصلاح وتطوير نظام الحكم قبل أي شي آخر بعيدا عن إنفعالات اللحظة الراهنة وتفاعلاتها وبعيدا عن تأثيرات الإنتخابات الماضية القريبة 2006 وانتخابات 2009 القادمة القريبة،

بين زمنين وشعبين ورئيسين

لكي تنجح المبادرة لا بد من تحاشي اعتبارات التكييف والتفصيل على الأشخاص والجهات سواء أكان التفصيل والتكييف يستهدف مراعاة الحفاظ على مصالح أشخاص أو جهات (المقصود هنا المصالح غير المشروعة) أو يكون ضدها ( المقصود هنا المصالح المشروعة ) ، وبدلا من ذلك يكون المعيار الأساسي و الهدف الأسمى والأعلى هو تحقيق المصالح العامة للوطن والشعب على نحو أوضح و أدق وأصدق وآكد من كلما ما سبق ...

يتوجب أن توكل صياغة نصوص التعديلات لذوي المقدرة والخبرة ولا يكونوا مجرد مهنيين فنيين يفكروا بعقلية الموظفين كما جرت العادة ويجب أن يكونوا من "الكبار" الذين يفكروا في اليمن اولا ، ويطمحوا في أن تكون بلدهم شيئا ما ويدركوا أننا قد تاخرنا كثيرا جدا ، وأن كل ما لدينا هي تجارب اقرب إلى الشكليات والهزال منها إلى الحقيقة والقوة وأقل ما يمكن أن يقال عنها هي أنها أقل من طموحات وتطلعات واستحقاقات شعب يحترم نفسه ويكون جديرا باحترام الآخرين ، وأننا لا نزال –مثل الكثيرين في منطقتنا - مجرد اقزام في دويلات قزمة وأننا بحاجة إلى أن نبدأ الآن بعزيمة وجد وصدق ، فنحن في الحقيقة لم نبدأ بعد ، وإذا كان هناك من لا يزال يصر على توهم أننا حققنا أشياء ذات بال فإن ذلك لا يعدو أن يعبر عن خواء الهمم وتواضع التطلعات والطموحات لكن الأخطر من كل ذلك أنه يعني أننا سنحكم على الأجيال القادمة بالإستمرار في أن تعيش التقزم الحضاري فضلا عن شظف العيش والإتكال على ما تجود به نتاجات الآخرين وهممهم وإراداتهم وقرائح عقولهم ، وهذا بالضبط عين ما نعيشه الآن .

وأظن أن هناك حاجة إلى أن أقول لفخامة الرئيس أن يؤكد للذين أوكل إليهم مهة صياغة النصوص أنه مصر أكثر من أي وقت مضى أن يؤكد على أهمية أن نبدأ الآن بثقة وقوة بعيدا عن التلفيق والتكييف والتفصيل ، ويؤكد أن كل ما مضى يعد متواضعا قياسا إلى طموحه التاريخي وطموحنا نحن ابناء شعبه واستحقاقنا وصبرنا ، والتضحيات الجسام لشعبنا ، والتطلع والتوق الطويل الى إنجاز حضاري يؤسس للمستقبل وقياسا إلى مسؤليته ومسؤليتنا التاريخية تجاه الأجيال القادمة ، وعليه أن يؤكد أيضا على النواقص الكثيرة التي لم تستطع الثورة والجمهورية تحقيقها ، وعلى النواقص الكثيرة التي لم تستطع الوحدة أن تنجزها ولم يستطع جيلنا بقيادته أن ينجزها ، ولا بد أن يؤكد أن جينات السبأيين التي تجري في دمه ليس اقل توقا إلى المجد والخلود والنجاح من جينات جورج واشنطن المنحدر من أصول انجليزية ، وأن العشرين مليون مواطن يمني الذين يعيشون في القرن الواحد والعشرين ليسوا أقل استحقاقا من الأربعة ملايين أمريكي ( عدد سكان أمريكا في عهد واشنطن ورفاقه ) في أن يكون لهم نظام ديمقراطي حقيقي . وإذاكان الأمريكيون يـتذكرون جورج واشنطن بخير ولا يزالون يحتفلون بعيد ميلاده سنويا وسيستمروا ما بقيت أمريكا ، وقد وضعوا له نصبا تذكاريا لا يعلوه شيء في واشنطن العاصمة التي اطلقوا عليها اسمه أيضا وطبعت صورته على الدولار ، فََََََََلَِمَ لا يكون هذا الرئيس العربي الذي كان يتيما وعصاميا أيضا مثل واشنطن أن يكون هو أيضا من الخالدين... ولا بد أن يؤكد أنه لا يرغب في أن يكون مجرد رئيس عربي آخر همه السلطة والحكم ، ولا شيء بعد ذلك أوغير ذلك ...

لقد بدت أفكار الآباء المؤسسين في أمريكا متطرفة راديكالية في القرن الثامن عشر مثلها مثل الأفكار الشيوعية في القرن التاسع عشر كما يقول جوردن س. وود في كتابه "الثورة الأمريكية" . ولعل القرن الواحد والعشرين هو أكثر ملائمة من القرن الثامن عشر لطرح وتقديم مبادرات حضارية كبيرة ، بل أنه – أي الرئيس صالح - ليس أقل من ولد فال الموريتاني الذي استقبله الرئيس صالح بحفاوة بالغة في مؤتمر القمة الذي عقد في الرياض مؤخرا خلافا لحالة العزلة التي قيل أنها ضربت حول الرجل، كونه أحرج بقية زملائه بمبادرته التاريخية في التخلي عن السلطة طوعا . إن على الرئيس أن يؤكد بما لا يدع مجالا للشك استحالة أي إمكانية له في الترشح من جديد للرئاسة ، وعليه أن لا يصغي إلى الصغار الذين لا هم لهم سوى مصالحهم الذاتية والأنانية على حساب كل ما عداها من مجد وتاريخ ووطن ومستقبل ... ولا بد أن يدرك الجميع أن الانانية هي التي جعلت بلدان العرب كما هي عليه كما يقول محمد بن راشد المكتوم ، فنحن أمة لا تفتقر إلى الرجال والمال والأفكار والذكاء لكنها الأنانية والجشع التي تقتل كل شيء وجعلتنا أقرب إلى لا شي كما يشير المكتوم في كتابه "رؤيتي" .

سمات النظام الرئاسي في الولايات المتحدة

- يتكون نظام الحكم (السلطة المركزية ) في الولايات المتحدة من ثلاثة فروع هي السلطة التشريعية ويمثلها الكونجرس (بمجلسيه) النواب والكونجرس ، والتنفيذية ويمثلها الرئيس والقضائية وتتمثل في المحكمة العلياء . وحرص الآباء المؤسسون على التوازن بين الحاجة إلى حكومة مركزية ذات سلطات كافية تجعلها قادرة على ضمان الأمن القومي من جهة ، وتوفيراكبر قدر من الضمانات التي تجعل الحريات المدنية والسياسية مكفولة وكاملة غير منقوصة ...وقد أختار المؤسسون عددا من الأحتياطات والأساليب والبنى الهيكلية للحيلولة دون وجود حكومة مركزية تتمتع بسلطات لا موجب لها وكان من ذلك :

- الفدرلة : أي تقسيم السلطات الجوهرية بين حكومات الولايات والحكومة المركزية

- الضوابط والموازانات " check & balance " : أي توزيع السلطات بين فروع الحكم المختلفة بطريقة تحمي الفرعين الآخرين - وتحمي الشعب منها جميعا - وذلك باشتراط موافقة أحد الفروع على قرارات معينة مما يتخذه الفرعان الآخران ، حيث يلزم أن يصادق الكونجرس على التعيينات التي يتخذها الرئيس في معظم المناصب الهامة كما لا بد للرئيس أن يصادق على القوانين التي يقرها الكونجرس .

ويعين الرئيس أعضاء المحكمة العلياء مدى الحياة ويلزم أن يصادق على ذلك الكونجرس وتتحدد سطات المحمكة العلياء في الرقابة على مدى تنفيذ القوانين وعلى دستوريتها إجمالا.

ومن سمات نظام الحكم الأمريكي هي سيطرة المدنيين على الجيش ، فإلى جانب كون الرئيس هو القائد الاعلى للقوات المسلحة والذي يجب أن يكون مدنيا ، فإن وزير الدفاع يكون مدنيا هو الآخر ووزراء فروع القوات المسلحة الأخرى كالبحرية والجوية والبرية . وطيلة القرن العشرين انتخب جنرال سابق واحد ليكون رئيسا هو "إيزينهاور" و يقال أن ذلك كان مكافأة له من قبل الشعب الامريكي على دوره في الإنتصارات التي حققها الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الثانية ، لكن ذلك كان بعد أن تقاعد واكتسب الصفة المدنية لفترة كافية ، وقبله تم أنتخاب شخصيتين عسكريتين من المحترفين السابقين هما "تاليور وغرانت " ولكن بعد أن اكتسبا شخصيات مدنية أيضا كما يقول ديفيد تراسك المؤرخ الرئيسي في مركز الجيش الامريكي للتاريخ العسكري .. وهناك عدد من العسكريين غير المحترفين مثل جورج واشنطن تولوا الرئاسة ...وترجع أولى الإشارات فيما يخص سيطرة المدنيين على القوات المسلحة إلى وثيقة الأستقلال في عام 1776 حيث أشارت الى المظالم البريطانية كما يلي :

- إن ملك بريطانيا أبقى بيننا ، في وقت السلم جيوشا دائمة بدون موافقة اجهزتنا النيبابية .

- وأراد أن يجعل القوات العسكرية مستقلة عن السلطة المدنية واعلى منها .

- ووفقا لمؤرخ الجيش الأمريكي أيضا فقد أكدت وثيقة بنسلفانيا التي حررت في فيلادلفيا "الدستور" ما جاء في أعلا ن الإستقلال " ( إن العسكريين يجب أن يبقوا خاضعين للسلطة المدنية ومنفذين لأحكامها ) .

وهناك سمات أخرى لنظام الحكم الأمريكي منها :

- يملك مجلس النواب حق توجيه الإتهام لكبار الموظفين الفيدراليين بما في ذلك الرئيس ، فيما يقوم مجلس الشيوخ بالمحاكمة وفي حالة الإدانة يعزل الرئيس أو أي من الموظفين الكبار .

- الكونجرس يملك حق عزل الرئيس في حالة ارتكاب جرم فقط ، لكن فيما عدا ذلك فإن الرئيس ليس مسائلا أمام الكونجرس وإنما أمام الشعب الذي انتخبه . وبالمقابل لا يملك الرئيس سلطة حل الكونجرس .

- مقابل سلطات الرئيس في المجال التنفيذي ، فا لكونجرس يملك سلطة كبيرة فيما يخص الموازنات ، فهو صاحب الكلمة الأخيرة فيها ..ولا يستطيع الرئيس إعلان الحرب دون موافقة الكونجرس ، بل أن الدستور خول الكونجرس بإعلان الحرب . ويمنح الكونجرس الرئيس صلاحيات في الظروف الإستثنائية ليتخذ القرارات المناسبة التي من شأنها المحافظة على مصالح البلاد .

- يملك الجهاز البيروقراطي سلطة موضوعية هائلة ويضم أكثر من ثلاثة ملايين ونصف موظف وينظم واجباتهم ويحمي حقوقهم القانون ، ويملك الرئيس الحق في تعيين حوالي ثلاثة آلاف موظف ويطلق إسم الحزب غير المرأي ( ( Invisible Party
على جهاز البيروقراطية الضخم الذي لا يستطيع المنتنخبون إنجاز الكثير بدونه كما يقول آ لفن توفلر في كتابه Power Shift )) ، حيث يَنسِب إلى "لي ات ووتر" - وهومن كبار معاوني الرئيس ريجان ثم رئيس الحملة ألإنتخابية لبوش الأب فيما بعد ورئيس لجنة الجمهوريين الوطنية - ينسب إليه قوله في مأدبة خاصة مع أصدقاء له في البيت الأبيض : "ستسمعون كثيرا في الأشهر القادمة عن ثورة ريجان ، سيكون الإعلام متخما بالعناوين عن التغييرات الكبرى التي يخطط ريجان لإحداثها .لا تصدقوا ذلك ! ريجان بالفعل يريد أن يحدث الكثير من التغييرات ،لكن الحقيقة أنه لن يكون قادرا .لقد دفع جيمي كارترالنظام"" The System خمس درجات في اتجاه واحد ونحن إذا عملنا بجد كبير وكنا محظوظين إلى أقصى حد ، فإن ريجان قد يكون قادرا أن يدفع النظام " The system " خمس درجات في الإتجااه المعاكس . إنها البيروقراطية إذا ، وليس أي شي آخر .

- يحرص الرئيس أن يكون كبار الموظفين العامين ومنهم مساعدوه من ذوي المقدرة المهنية الفائقة والكفاءة والسمعة الحسنة والماضي النظيف والنزاهة ، كونهم يعرضون على الكونجرس للموافقة عليهم . وقد يرفض الكونجرس تعيين البعض منهم كما حصل مع "باور " الذي عينه الرئيس ريجان وزيرا للدفاع فرفض ذلك الكونجرس بسبب اتهامه بإدمان الخمر . وقد يمر تعيين بعضهم بصعوبة بالغة وبألم نفسي كبير مثلما حصل مع كليرانس توماس (عين عضوا في المحكمة العلياء) في عهد بوش الأب حيث أدعت إحدى زميلاته (أنيدا هيل) أنه تحرش بها عندما كانت تعمل معه قبل اكثر من عقدين من الزمن على تعيينه في المحكمة العلياء واحتشد عشرات من معارفه السابقين من كل الولايات ليثبتوا نزاهته واستقامته وأن الدعوى كيدية بسبب عدم رضى معظم السود عنه كونه تزوج من سيدة من البيض وصار جمهوريا من المحافظين خلافا لأكثرية السود المؤيدين للديمقراطيين . كما أن الكونجرس قد رفض تعيين وزيرا للعدل " Attorney General " من قبل الرئيس كلينتون بسبب مخالفات ترتبط بتوظيف أشخاص مخالفين لقوانين الهجرة . كما لم يصادق الكونجرس على تعيين" بورتن" مندوبا لأمريكا في الأمم المتحدة من قبل بوش الأبن ...

- إذا كانت الثقافة الأمريكية متسامحة إجمالا مع عامة الناس فإنها ليست كذلك مع من يتولون الشأن العام ، ودائما ما تفتح ملفات المتطلعين إلى شغل الوظائف العامة من رئيس الجمهورية فما دون وكل ما كان المنصب أعلى وأهم كلما كان النبش في الملفات أولى وأهم . ولذلك فكثير من أصحاب القدرات يتحاشون التصدي للترشح أو التعيين في المناصب العامة خوفا من وجع الرأس وخوفا من التشهير بالفضائح ، وقد رفض محافظ نيويورك الأسبق ( رومو) الترشح للرئاسة وقيل ان السبب خشيته من النبش في ملفات بعضا أو أحدا من أقرباءه السابقين في ايطاليا التي تدو حول بعضهم شبهة العلاقة بالمافيا .

خلاصة

بوسعنا أن نتوق إلى إمكانية ابتكار تجربة إنسانية جديدة ومتطورة تضيف للعالم شيئا جديدا وتجعله أفضل مما هو عليه حتى في أمريكا نفسها ! لكن ذلك لن يتأتى مالم نهضم التجارب البشرية الناجحة المتقدمة ونطبقها ، وحينذاك يمكن التفكير في التطوير والإبتكار أيضا.ومن غير شك فقد أثبت النظام المختلط أنه ليس وعاء مناسبا للتطور المؤسسي والنيابي كما أشرنا من قبل .

وإضافة إلى كل ذلك فإنه إذا صادف وتم إنتخاب أغلبية برلمانية تنتمي لحزب آخر غير حزب الرئيس كما هي الحال في فلسطين فإن ذلك قد يؤدي إلى تنازع بين رأس الدولة ورئيس وأعضاء الحكومة وكلاهما يستند إلى شرعية الإنتخاب الشعبي ، وحينذاك لا بد أن ينتج إرباك عظيم .

وفي حالة النظام البرلماني فأن الشخص الأول عادة ما يبقى في الواجهة سنين طوال حتى في الدول المتقدمة ، ولا تقصيه عادة عن منصبه صناديق الإنتخاب (إلا في حالة هزيمة حزبه) وليس هناك تحديدا في الدستور لمدة قصوى (كالنظام الرئايسي ) وإنما قد يقصيه حزبه كما حدث في حالة مارجريت تاتشر وتوني بلير لكثرة خلافتهما مع زملاء لهما . أما في العالم الثالث فعادة ما يؤبد الزعما ء الحزبيون الذين يتولون رئا سة الحكومات ولا يقصيهم إلا الموت أوهزيمة أحزابهم في الإنتخابات كما هي حالة عائلة غاندي في الهند والإنقلابات العسكرية والنفي كما في حالة عائلتي شريف وبوتو في باكستان .

والحقيقة أن لنجاح النظام الرئاسي لوازم وشروط من أهمها حيادية المؤسسة العسكرية وضروة سيطرة المدنيين عليها تماما ، والحيلولة دون أن يكون الزعماء المدنيون مطايا للقادة العسكريين أو مجرد غطاء ظاهري لسلطتهم الخفية . لكن الخلفية العسكرية لأي شخص يرغب أن يترشح للرئاسة لا ينبغي أن تحول دون ترشحه ، شريطة أن يكون قد اكتسب الشخصية المدنية ومضى على تركه الخدمة العسكرية وقت كاف ، وهو مقتنع ومسلم بمبدأ السيطرة المدنية على القوات المسلحة.

كما لا ينبغي أيضا أن يسيطر على الحياة السياسية أرباب الثروات والأموال . ويجب أن يُحَد من أثر المال على السياسة وإلا فإن كثيرا من أهل المال مستعدون أن يشتروا مستقبل الشعوب وحريتها وكرامتها بأموالهم.

يبدو بالفعل أننا أمام ثورة فهل سنكون جميعا على مستوها؟ 


في الأربعاء 31 أكتوبر-تشرين الأول 2007 05:16:35 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=2762