ما إن تعرفت على أمك
سلوى الإرياني
سلوى الإرياني

ما إن اجتزنا امتحان الثانوية العامة، حتى بدأنا نحلم بالمنح للدراسة في الخارج. أنا من المتفوقين، حيث حصلت على 95%، ويحق لي الفوز بمنحة دراسية  في دولة أوروبية. بدأت أدعم نفسي بما يقربني من  تحقيق حلمي، فالتحقت بأفضل وأقوى معهد في البلد، لكي أؤهل نفسي لاجتياز التوفل الذي أصبح شرطاً لكل شيء.

بدأت أدرس في المعهد واستفدت كثيراً. كان حلمي بالدراسة في الخارج يدفعني. كان حلمي يوقظني إن نمت.. يرجني إن تكاسلت. كان حلمي يشوقني.. يجذبني نحو نافورة الأفراح والنجاح. كنت كذلك أريد أن أُفرح قلب أبي المزارع وأمي.

سرعان ما أتقنت قواعد اللغة الإنجليزية.. وخلال فترة قصيرة قدمت إدارة المعهد خصماً خاصاً لي، لكوني متفوقاً، مجتهداً ومذهلاً، على حد تعبير المدير.

درستنا في تلك الدورة أستاذة، وليس أستاذاً مثل سابق الدورات. لم تكن بالشابة ولا هي متقدمة في السن.. لعلها أصغر قليلاً من أمي. كانت الفكرة صعبة التصديق؛ فأنا خريج مدرسة حكومية يمنية، ولم يدرسني سوى معلمين ذكور طوال عمري.. لم يكن لي زميلة بنت أبداً، بينما أصبح لدي الكثير من الزميلات في المعهد. كان المعهد يشجع روح التآخي والتعاون، ويبعد فكرة الذكر الذي يغازل، والأنثى التي تتدلل.

هذه الأستاذة كانت ممتازة.. أشعرتنا بالأمومة. كم تمنيت ألا تنتهي تلك الدورة أبداً، من كثرة ما تعلمت، وشدة ما تمتعت في تلك الدورة.

كانت أستاذة رائعة.. منذ دخلت الفصل ابتسمت، فأذابت الجليد الذي أحدثه تدريسنا من قِبل أساتذة ذكور، لمدة تزيد عن الثمان سنوات من أعمارنا. كانت عفوية و تتصرف على طبيعتها. كانت مصدر معلومات متحرك وبسام. كانت هذه الأستاذة تشرح مرتين وثلاث حتى تتأكد أن الكل فهم. تضع على السبورة أمثلة، وتطلب منا أن نقوم للسبورة، ونطبق قاعدة الدرس عليها. فإذا لمست أن هناك من لم يفهم، اقتربت منه لتشرح له بشكل فردي، وتعطيه ورقة تمارين إضافية، فنغار منه جميعاً.

كانت إنسانة رائعة، ضاحكة، صبورة، يشع من خديها نور.. رجحنا كلنا أن تكون متدينة، وأنه نور الإيمان. قال أحد الزملاء، بل نور الأمومة. ثم أجمعنا أنه نور "الأمومة"، حين "تستنير".

لا أبالغ إذا قلت أننا كنا نعاملها بإجلال. كانت هي بالمقابل، ما إن تلمس أن الاحترام قد زاد، تخشى أن يندرج تحت خانة الخشية، فتسارع باقتراح لعبة، أو مسابقة للترفيه، وكسر الحاجز.

كانت اللعبة المفضلة هي لعبة تخمين الأسماء؛ حيث يتقدم الفصل طالب، ويكون في عقله اسم لممثل أو مطرب أو لاعب كرة شهير، لا يخبرنا به. نسأله نحن عشرة أسئلة: عن عمر الشخص، أعماله، جنسيته... ومن يخمن اسم الشخص، هو الفائز. كانت هذه لعبتنا المفضلة، حيث يكثر فيها الضحك، وتضج ضحكاتنا جميعا داخل الفصل: طلاب وطالبات. كانت الأستاذة نفسها تضحك، حتى تسيل الدموع على جانبي عينيها، فقربها ذلك منا، كوننا رأيناها تضحك كما نضحك. عندما تنتهي الحصة التي نلعب فيها هذه اللعبة، نخرج شاكرين الأستاذة، ناقمين على الجرس.

صباح اليوم التالي كان الدرس مسلياً. كان عن أسماء الأقارب، وأفراد العائلة بالإنجليزية. رسمت الأستاذة شجرة عائلة وهمية، وكتبت لنا اسم العم، العمة، الجدة، الأخ وابن العم. أخبرتنا أن نحفظ الكلمات، لأنها غداً ستملينا لنكتبها غيباً. ثم وزعت علينا ورق ملون، وطلبت منا أن نرسم شجرة عائلتنا نحن، شبيهة بالرسمة على السبورة. بدأنا نتلفت لبعضنا البعض تحرجاً من ذكر أسماء الأمهات. كانت الأستاذة تدور وتعطي توجيهات لكيفية الرسم. لاحظت الأستاذة أن هناك 9 طلاب في الفصل، جميعهم اسم أمهاتهم فاطمة..! سألت أحدهم بلهجتها الإنجليزية الرائعة:

-"هل اسم أمك فاطمة فعلا؟"

لم يجب الطالب، وأحنى جبينه عاراً وحياءً! أضافت الأستاذة:

-"أنا أعرف من خلال عملي في هذا المعهد، ومن خلال هذا الدرس بالذات، أن اليمنيين الشباب يستحون من ذكر أسماء أمهاتهم، فيختارون إما فاطمة، أو حواء!"

سقط على وجوهنا صمت حجري. نحن فعلا نتحرج من ذكر أسماء أمهاتنا. رفع أحد الطلاب يديه قائلاً:

-" بالنسبة لي يا أستاذة، لا أستحي، بل افتخر.. اسم أمي منى."

طلبت منا الأستاذة أن نصفق له وسط لفتاتنا لبعضنا البعض، واستنكارنا لفعله المنحط. بدأ البعض يكذبه قائلاً:

-"يا كذاب يا ابن منى، أين منى؟! والله ما اسم أمك منى!"

قال له أخر:

-" يا ابن منى! و نعم يا ابن منى."

هنا ارتفع صوت الأستاذة، فصمتنا وخشينا، حيث لم يحدث أن ارتفع صوتها ولو مرة في السابق. قالت لنا الأستاذة وقد احمر وجهها غضباً، أو حسرةً:

-" أنتم جيلنا الجديد.. أملنا.. فلماذا تخيبون أملنا فيكم بتشبثكم المستبسل بالتخلف؟! ماذا لو قال اسم أمي منى؟! هل تتوقعون أن يكون اسم امه علي أو عبدالله مثلاً، لكي تجيزون له نطق اسم أمه؟! أنا كأستاذة، لا يهمني سوى أن تحفظوا أسماء الأقارب بالإنجليزية."

سقط في الفصل الصمت كالجثث.. تلفتنا لبعضنا البعض.. اقتربت تكلم التسعة الذين كتبوا اسم أمهاتهم (فاطمة).. سألت أحدهم:

-"تستحي من ذكر اسم أمك؟! أمك التي سيناديك الله يوم الحساب بيا ابن فلانة؟! تستحي مما سيفعله الله، وأنت من مخلوقاته ليس إلا؟! لست استوعب، كيف تخجل من ذكر اسم أمك التي حملتك في رحمها تسعة أشهر، وأرضعتك صغيرا..! أمك التي ترعاك طوال عمرك.. في أوقات الفرح تفرح، وفي وقت المرض تتمنى لو يستبدل المرض مكانه من جسمك إلى جسمها..! تستحي من ذكر اسم أمك، لماذا؟!"

تحشرج صوت الأستاذة، فصمتنا جميعا خشيةً، واقشعر بدني لكلماتها. رفعت يدي بانكسار متمتماً ومعتذراً:

- ” My mother’s name is Nawal

أحنت الأستاذة رأسها الثمين إيجاباً واستحساناً، ثم لملمت الأوراق التسعة التي كتب عليها أن اسم الأم فاطمة، وألقت بها في سلة مهملات الفصل. أبلغتنا أنها قررت أن تلغي نشاط رسم شجرة العائلة من هذا الدرس، لأنه في كل مرة يؤلمها بشدة.

دق جرس الراحة وخرجت الأستاذة.. انتقدها البعض قائلاً، امرأة مثلها تكاد تبدو أجنبية.. ما أدراها بالسلف والقبيلة؟! بينما أيدت الطالبات موقفها.. كذلك أيدها البعض. أما أنا، فلست أدري، سوى أن قلبي كان يوجعني. ماذا غُرز فيه؟! مسمار؟ سكين؟ رصاصة؟ أو ربما كلماتها لها نفس الوقع؟! خرجت بعدها إلى فناء المعهد.. رأيتها تشرب شاي. كنت أتحرق شوقاً للاعتذار، إلا أنني استحيت.

دق جرس انتهاء الحصة وعدنا جميعاً الساعة المتبقية من فصل ذلك اليوم. فوجئنا جميعاً، بما في ذلك الأستاذة، بالأوراق التي ألقتها في سلة مهملات الفصل، مرصوصة بانتظام فوق مكتبها. اقتربنا لنرى، فوجدنا اسم فاطمة مكشوطاً، ومكتوب بدلاً منه أسماء أخرى، أجزمت أنها الحقيقية. لست أدري لماذا حفظتها. كانت الأسماء زبيدة، أمة الخالق، فتحية، أروى... ابتسمت الأستاذة وأخرجت لصقة من حقيبتها، وألصقتها جميعاً على الجدار.. كان عددهن ستة؛ أي أن ثلاثة ما زالوا مصرين أن الأم "عار"، و أن ذكر اسمها "معيب".

هل قابلتم في حياتكم إنساناً مؤثراً كهذه الأستاذة؟! لقد أحدثت فينا تغييراً حقيقياً.. بدون قنابل ولا آلي..! فعلت ذلك بحب، وبنور المعرفة..! في شخصها قوة.. في وجهها شيء لا أعلم ما هو.. شيء آمر ومتحكم. لقد أثرت حتى في الطالب الأشعث الشعر، الذي يتفاخر أن أباه شيخ قبيلة، حيث اعترف كاعتراف المخطيء بخطيئتة، أن اسم أمه "جليلة". هذا هو التغيير الذي يبدأ من داخلنا، والذي لا تغيير خارجي إلا بعد إنجازه. تغيير مفاهيمنا، يفتح ركام التخلف في مؤخرة رؤوسنا، لتتفتق في الركام أزهارا. تفجير جبال الجهل والاعتقادات البالية. القاء الألغام على كل ماهو دخيل على ديننا.. الطهر والعدل ديننا.

في المساء، ذهبت إلى النادي الذي نلعب فيه كرة قدم وتنس طاولة. التقيت صديقي الذي تعرفت عليه منذ بضعة أشهر.. لطيف ويحب المرح والنكات. رويت له ما دار في الفصل، وأخبرته متفاخراً بشفائي، أن اسم أمي نوال، وتحديته أن يذكر اسم أمه.. أجاب بانحناءة جبين حزينة:

- "أمي متوفية."

أشفقت عليه، ونسيت أن اسأله، وإن تكن متوفية فما كان اسمها؟

لعبنا كرة قدم.. وعند انتهاء الوقت، ذهبنا لنبدل ملابسنا الرياضية للعودة لمنازلنا. عدت اسأله:

- "متى توفيت المرحومة؟"

أجاب بارتباك لم أجد له تفسيراً:

- "منذ ولادتي."

جلست لأشرب عصير، وتوجه هو لبوابة الخروج. رأيت بانتظاره سيارة فيها سائق، وفي الخلف امرأة. شبهتها بأستاذتنا في المعهد. ثم انفجرت ضاحكاً، لما قد أثرت علينا به، حتى صرنا نراها في كل مكان.

صباح اليوم التالي، استرجعت هيئة أم صديقي، فآمنت أنها شديدة الشبة بأستاذتنا في المعهد.. قررت أن أقطع الشك باليقين.. سألتها في وقت الراحة، إن كان لها ابن يتدرب في نادي رياضي. فرفعت حاجبيها مبتسمة.. أكدت لي أن ذلك صحيح. سألتني، هل يشبهها أم لا. فقلت لها أنها أجمل. ضحكت وعدنا إلى الفصل. لم يسمح لي احترامي و حبي لها أن اغتالها، إذا ما رويت لها، أن ابنها لا يخجل من ذكر اسمها فحسب، بل يستحي من كونها حية..!

يوم الثلاثاء ذهبت إلى النادي كالمعتاد.. قابلت ابن الأستاذة. شعرت جهته بالنفور والاحتقار. لا أقبل أن يكون هو صديقاً لي، فأنا لا أصادق السافلين.. اقتربت منه لأبلغه بموقفي منه:

- "ما إن عرفت أمك في المعهد، حتى أدركت أن لا شيء يُخجل في حياتها، سوى كونك أنت ابنها."

تركته وذهبت.

كلنا ابناؤك يا أستاذة..!


في الإثنين 17 يونيو-حزيران 2013 08:25:12 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=20934