الوحدة اليمنية هي الأصل في التأريخ اليمني وكان الشتات هو الإستثناء
حميد عبدالحميد الهتار
حميد عبدالحميد الهتار

مما لا شك فيه أن الأصل في التأريخ اليمني هو وحدة اليمن الطبيعي وان التمزق و الشتات هو الإستثناء المتقطع في الحقب الزمنية من قبل الإسلام وبعد دخول اليمنيين في الإسلام وحتى القرن الثامن عشر الميلادي. إذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم اليمن إلى ثلاثة مخاليف إدارية لا كيانات سياسية. وحينما بدأت النزعات الانفصالية عن الخلافة العباسية في الظهور وبدا التمزيق ينهش في جسم الخلافة أصبحت تتنازع الحكم في اليمن عدة دويلات وظل اليمن موحداً أثناء حكم عدد من تلك الدول اليمنية كالدولة الزيادية والصليحية و الرسولية والطاهرية وحتى أثناء الوجود العثماني الأول في اليمن واخيراً الدولة القاسمية الزيدية التي في آخر عهدها ظهرت الانقسامات داخل سلطة الأئمة بسبب التنافس على الإمامة وظلم ولاتهم للرعية وتذمر السكان من طريقة الحكم وكثرة الفتن وعدم الاستقرار وإسهام الخلافات الطائفية بين الزيدية في الشمال و الأكثرية الشافعية جنوياً في إضعاف هيمنة الائمة في المناطق الشافعية فضلاً عن مصالح مشائخ اليمن الأسفل والجنوب ونزعتهم الشخصية وطموحاتهم القبلية في السيادة والإستقلال بمناطقهم عن صنعاء مما أدى إلى تفكيك الدولة القاسمية.

فقد استغلت قبائل يافع كل عوامل الضعف للائمة وكانت أول من خاض تجربة الانفصال عن صنعاء بالاستيلاء على لحج وعدن عام 1732م وتكوين سلطنة العبادل هناك وفشل إمام صنعاء في استعادتها كما ظهرت حركات استقلالية وكيانات ناشئة وثورات مظلمية إذ عمل اشراف آل خيرات على توطيد حكمهم في المخلاف السليماني بنبذ طاعة الإمام المنصور والدخول في سلك الوهابية وكذا قيام آل عايض في عسير السراة وقيام ثورة الفقيه سعيد في اليمن الأسفل عام 1840م بعد خروج قوات محمد علي من المنطقة التي أصبحت شاغرة فكثر فيها تسلط القبائل الشمالية وزيادة الفوضى والمظالم.

على أن بريطانيا وخلال تلك الفترة من التشظي والإنقسام أصبحت تخطط للإستيلاء على عدن إذ وجدت انه الميناء المغري استراتيجياً لترانزيت الملاحة البحرية وان عدن هي بوصلة الموانئ بين الشرق والغرب والمكان المناسب لتحقيق أطماعها التوسعية والإقتصادية وخشية من قيام قوات محمد علي من الإستيلاء على عدن كانت بريطانيا السباقة الى ذلك عام1839م بعد ان هيأت لذلك الاحتلال بمعاهدات تجارية مع سلطنة لحج .

وفي الوقت نفسه كان شمال الوطن يشهد صراعات إماميه إماميه و تمردات مناطقية مما حذى بالشريف حسين بن علي حيدر صاحب أبي عريش استجداء الخارج من جديد والاتصال بالباب العالي لإرسال من يتسلم منه تهامة اليمن والمخلاف السليماني بسبب كثرة صراعاته مع ائمة صنعاء . فأوكل ذلك الى والي الحجاز وشريف مكة عام 1849م . ومنذ ذلك التأريخ دخلت اليمن في مرحلة من الفوضى بزيادة إنكماش نفوذ أئمة آل القاسم في منطقة صنعاء وزيادة الصراعات فيما بينهم مما جعل بعض أطراف النزاع يطلبون من العثمانيين التدخل وبذلك حطت الدولة العثمانية رحالها في اليمن للمرة الثانية عام1872م.

وصارت بريطانيا والدولة العثمانية تتنازعان الحدود اليمنية في ما بينهما حتى وقعتا اتفاقية 1914م التي بينت خط الحدود اليمنية بين الدولتين. ومنذ ذلك التاريخ بدأت تظهر مسميات الشمال والجنوب للوطن الواحد وتلقت المشيخات والسلطنات المحلية في جنوب الوطن دعم المستعمر البريطاني الذي عمل على تكريس التمزق والانقسام وإضفاء الألقاب للسلاطين و إسداء المرتبات لهم وعقده معهم ما سمي بمعاهدات الحماية البريطانية لتلك الكيانات التي بلغت ثلاثة وعشرين سلطنة ومشيخة .

لم يكن هدف الاستعمار البريطاني تكوين ودعم تلك الوحدات الانفصالية بقصد حماية مستعمرة عدن فحسب بل كان الهدف الرئيس هو تكوين مناطق انفصالية تبقى تحت نفوذه سياسياً واقتصادياً وتعميق الشرخ الانفصالي بين شمال الوطن وجنوبه إذ لو لم يكن ذلك إلا لأجل حماية عدن لكان المستعمر قد اكتفى بمعاهداته مع سلطنات العبدلي والفضلي والعقربي المحيطة بعدن .

لقد جعلت بريطانيا من تلك الكيانات السياسية الصغيرة شبه دول مستقلة صورياً في حين كانت السياسة البريطانية تتدخل في شؤونها الداخلية في كل صغيرة وكبيرة وهي التي تمثلها خارجياً اذ لا يحق لاي من السلطنات عقد أي معاهدة أو قيام أي علاقة مع جهة خارجية إلا بعد الرجوع إلى السلطات البريطانية بحسب ماتنص عليه معاهدات الحماية المزعومة .

وفي حين خرج الأتراك من شمال الوطن عام1918م عقب الحرب العالمية الأولى وتولي الإمام يحيى حميد الدين مقاليد الحكم في صنعاء ظهرت إثر ذلك تمردات مناطقية من قبل قوى محلية بذهنية مذهبية تأبى الرضوخ و التبعية للدولة الزيدية الوليدة في صنعاء وقد كانت تلك الشخصيات الجهوية تطمح من ناحية أخرى إلى السيادة و الحكم فقد كان الأدارسة أسسوا لهم إمارة في المخلاف السليماني عاصمتها صبيا عام 1911م كسلطة محلية تدين بالولاء ظاهرياً للأتراك وبعد خروجهم قلبوا ظهر المجن للإمام يحيى وحاولوا الاستقلال بإمارتهم والتوسع في تهامة جنوباَ و دخل معهم الإمام يحيى في صراعات وحروب تساندهم بريطانيا بالمال والسلاح إذ لم تكتف بريطانيا بتمزيق جنوب اليمن فكانت الداعم الرئيس للادارسة بعد الايطاليين للعمل على استقلالية الادريسي بل دعمت طموحاته التوسعية في تهامة والهضبة حتى وصلت قواته الى مناطق كثيرة في صعدة وغيرها وقامت بريطانيا بتسليمه مينائي الحديدة واللحية اللتان إحتلتهما عام 1918م بعد ضريهما بالمدفعية بحجة تباطؤا الأتراك عن الخروج من اليمن بموجب اتفاقية مندوراس بين الحلفاء و تركيا وفي الوقت نفسه كان آل عايض يكرسون استقلال إمارتهم في عسير السراة وعاصمتهم أبها ولقد كان للتدخلات السعودية في النزاع بشان المخلاف السليماني والسراة أثره السلبي على اليمن كما هو معروف.

على أن الكثير من مشائخ ما كان يعرف باليمن الأسفل بقيادة بيت النعمان في الحجرية عقدوا مؤتمراً سمي مؤتمر العماقي قرب مدينة القاعدة لتدارس الوضع السياسي للمنطقة بعد خروج الأتراك إذ كان البعض يسعى إلى تكوين مشيخات مستقله أو العمل على دخول المنطقه تحت الحماية البريطانية مع سلطنات الجنوب إلا أن السلطات البريطانية أبدت عدم رغبتها في التوسع بإتجاه الداخل في حين سعى السيد محمد حسان إلى إقامة إمارة صوفية له في منطقة جبل حبشي وما جاورها على غرار إمارة السيد الادريسي في صبيا وبذل أعيان الحديدة جهودهم التي كانت ترمي الى الاستقلال في منطقتهم حتى جبال برع شرقاً و استعانوا بالسلطات البريطانية بإيصال صوتهم الى المنضمات الدولية أو رغبتهم بالبقاء تحت إدارة السلطات العثمانية أو خديوي مصر وكل تلك الحركات المناطقية كان مبعثها مذهبياً والرغبة في الهروب من حكم الإمامة الزيدية في صنعاء في المقام الثاني. إلا أن الإمام يحيى إستطاع بسياسته ودهائه لملمة تلك البقاع الشافعية وإعادتها الى أحضان صنعاء بينما إستمرت بريطانيا في تدعيم الكيانات الإنفصالية الجنوبية ما سمي بالمحميات و البقاء بمستعمرة عدن إلى جانب احتلال بعض الجزر اليمنية مثل كمران وظلت تصطنع الضغوط السياسية و الاقتصادية تجاه الدولة المتوكلية لنزع اعترافها بخط الحدود المتفق علية مع تركيا .

ومنذ إستقلال الهند عن التاج البريطاني 1947م وظهور الحركات التحررية في الوطن العربي وقيام الثورة الدستورية في الشمال عام 1948م و ثورة يوليو 1952م في مصر كل تلك العوامل جعلت بريطانيا تسعى إلى تكوين كيان سياسي يضم المحميات كي توكل إلية مهمة صد أي حركات وطنية داخلية ونقطة انطلاق بإتجاه منابع النفط في الخليج وسياج لمستعمرة عدن إذ لم يجديها تقسيمها للمحميات عام 1937م الى شرقية وغربية فسعت السلطات البريطانية عام 1954م إلى إيجاد إتحاد فيدرالي يسمى إتحاد إمارات الجنوب يتلائم ومخططاتها إلأ أن هذا المشروع سار بخطى وئيدة حيث لقي معارضة شديدة من قبل القوى الوطنية وشمال الوطن وأدانت الجامعة العربية ذلك المشروع إلا أن الانجليز واصلوا تنفيذ مخططهم حتى تم تدشين إتحاد إمارات الجنوب العربي في فبراير 1959م .

اتحاد فيدرالي صوري ودويلات شبه مستقلة وأعلام متعددة وهويات وجوازات سفر مختلفة وتم استئجار قطعة ارض من مشيخة العقربي لتكون عاصمة للإتحاد أطلق عليها إسم الإتحاد والذي كان ضمن كياناته السياسية جمهورية دثينه وعاصمتها مودية التي كانت تختلف عن جاراتها من المحميات في ان رئيسها ينتخب كل سنة ولم يكن الحكم فيها عائلياً وراثي . وبعد دمج عدن في المحميات تغير اسم الاتحاد إلى اتحاد الجنوب العربي عام 1962م .

إنها مهزلة تاريخية بحق صنيعة الأهواء المناطقية والمخططات الاستعمارية البريطانية في جنوب الوطن . إلا انه ورغم ذلك التمزق المصطنع فان الشعب اليمني في جميع تلك المكونات الغير طبيعية داخل الجسم اليمني الواحد وان ظل يعيش بأرواح متعددة إلا أنه كان يحيا بذاكرة وطن واحد فقد تشكلت القوى الوطنية في شمال الوطن ثم في جنوبه تنشد نفساً واحدا هو التحرر من الاستبداد الإمامي والإستعمار البريطاني وإعادة اللحمة اليمنية إلى طبيعتها حتى قيام الثورتين العظيمتين سبتمبر وأكتوبر وجلاء المستعمر في 30 نوفمبر 1967م وكللت جهود ونظالات أبناء الوطن اليمني بإعلان يوم إعادة تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990م في كيان واحد يتنفس روح الهوية اليمنية من جديد بعد محاولة طمسها والذي مثل ذلك منعطفاً تاريخياَ جديداً في حياة الشعب اليمني وفناراً يهتدي به العرب هواة الوحدة على الرغم من أن حدث إعادة تحقيق الوحدة اليمنية لم يكن ظاهرة جديدة وطارئة على اليمنيين بل حدثاً يمنياً ضمن إحداث التوحد والشتات على مر العصور في هذا الوطن الغالي إلا أن وضع الصراعات والشتات يجعل المتأمل للأحداث يستغرب ممن يستجدي عودة تلك العصور المظلمة ممن يسمون في أيامنا هذه بدعاة فك الإرتباط الذين يريدون باليمن العودة الى ذلك التمزق معتبرين أن الوحدة اليمنية عمل افتراضي وأن الواقع هو ما قبل 1967م محاولين طمس الذاكرة اليمنية الواحدة في أذهانهم في حين أنهم على دراية أن معنى فك الإرتباط هو عدم عودة جمهورية ما قبل 1990م إليهم وإذا كان هناك قبل 1967م جمهورية دثينه فستظهر جمهوريات وسلطنات من جديد. وعلى الرغم من أن جمهوريتهم التي يستجدون عودتها لم يكن عمرها عند تحقيق الوحدة سوى 23 عاماً في حين أن بعض السلطنات عريقة في وجودها طيلة وجود الاستعمار البريطاني فإذا كان من حقهم المطالبة بفك إرتباط فإن من حق السلطنات المطالبة بفك إرتباطات عديدة .


في الأحد 25 نوفمبر-تشرين الثاني 2012 04:48:09 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=18165