إلى الحداثيين الجدد
هاني غيلان عبد القادر
هاني غيلان عبد القادر

قل ما شئت يا أدونيس، تكلم بحرية بلا خجل ولا خوف، عبر عن نفسك بطلاقة، أرنا كم أنت موهوب، فنان، حر، مبدع، مثقف، متحضر، متطور، عصري، وجرئ.. فلا للكبت المقيت بعد الان، ولا وألف لا لتكميم الأفواه!!

تقول (نازك): ((يارب الحانة أين الخمر؟ وأين الكأس؟ ناد الغانية الكسلى العاطرة الأنفاس.. أفدي عينيها بالقرآن وبالأقدار)) ويقول (عبدالرحمن منيف) في روايته (مدن الملح): ((أخطر شئ في هذه الحياة بعد الله والمال هو: السروال، إذا كانت دكته قاسية أتعب، وإذا ارتخت دكته أشقى وأتعب)) ومن قبلهم قال أدونيس: ((مسافر تركت وجهي على زجاج قنديلي.. خريطتي أرض بلا خالق.. والرفض إنجيلي)) !!!

راااائع.. رائع جداً.. ولكن.. هل إمتلك أدونيس حريته فعلاً، هل أضحى عصرياً بما يكفي؟.. هل إنطبقت عليه كل تلك الصفات البراقة أو بعضها؟ هل هناك معياراً ما يمكن أن نحتكم إليه، ترمومتر للحرية مثلا؟؟ فحتى في واشنطن ونيويورك وباريس ولندن سنجد حتماً من يتذمر ويطالب بحريته المفقودة ويشكوا من الكبت والتقييد ومن الظلاميون الرجعيون والدُمى المُحنطة!!

قد نتفق مع أخوتنا الليبراليين المتحمسين الجدد على أهمية (الحرية الفردية) كقيمة مقدسة يجب صيانتها وحمايتها، ولكن إلى أي مدى؟... السؤال المحير الذي يُطل برأسه هنا: هل حريتنا مطلقة أم مقيدة، وإذا كانت مقيدة فبأية ضوابط؟؟

فليس من حرية الفعل بالتأكيد: بيع الأوطان أو خيانتها، أو قتل الحاكم أو المسؤول شعبه وتسلطه عليه وإستبداده به ونهبه خيراته!! وليس من حرية القول: تجريح الآخرين أو قذفهم بدون مبرر وبلا دليل، أو الإساءة للأديان وتدنيس المقدسات بالطبع..

على سبيل المثال: أختنا التي إستفزت المشاعر بمقالتها -الرائعة من الناحية الفنية- والتي عقرتها بحديثها العقيم عن الرب الذي لا يرانا وعن (خيبتها) التي بحجم الله تعالى... ونظيرتها الثائرة المصرية التي أطلت -صباح ذات يوم هادئ بعد أن إرتشفت جرعة زائدة من قهوة أدونيس- بجسدها العاري على قرائها في الإنترنت للترويح عنهم والتفريج عن أساريرهم متحررة من هدومها وما عليها!! ليبرز السؤال الكبير مرة أخرى: هل هما حرتان فيما فعلتا، نعم أو لا؟ أم أن الأمر يحتاج إلى جدال ونقاش طويلين!!

إذاً فالأمر نسبي ومعقد، إذ ما تراه أنت (حرية شخصية)، قد يراه غيرك تعدٍ عليه وتجاوز على قيمه وأعرافه، وخروج عن المعقول والمألوف والمسلمات أو مخالفة للأنظمة أو الشرائع، ما تراه أنت سوياً قد يراه غيرك معيباً، وما تراه أنت صواباً قد يراه الآخر خطأً!!

لنتفق أولا على أن الحرية لا تعني الإنفلات بأي حال، أو الإفلات من كل عقال، فكما أن الكون الفسيح محكوم ومضبوط بقوانين منظمة لكل ما فيه ومن عليه، لحمايته وحمايتهم من التصادم والخراب والإحتراب والدمار، فالبشر أيضاً محكومون بقواعد إلهية منظمة لكل تفاصيل حياتهم بكبيرها وصغيرها.. إضافة للرقابة الذاتية التي يمثلها الضمير والوجدان والفطرة السليمة، ناهيك عن الرقابة المجتمعية والأعراف والتقاليد التي تضبط سلوك الفرد وتوجهه.

وكما أن الإنسان بعقله الصغير وتفكيره المحدود -مهما إدعى العلم والمعرفة- يظل مذهولاً عاجزاً عن فهم طبيعة الكون ومسار الأفلاك ومواقع النجوم، ومكونات الذرة ومكنون الخلية، كعجزه عن خلق مجرد ذبابة، فإنه أيضاً سيبقى غريقاً متخبطاً تائهاً يبحث عن قشة يتعلق بها إن إعتقد أن بإمكانه التمرد على الله، أو التحرر من معتقداته ودينه, وواقعه ومجتمعه، وتسيير عالمه الخاص بأفكاره ورؤاه وخزعبلاته الخاصة!!

كثيرون من خيرة شبابنا هربوا من مرارة وإحباطات الواقع المعاش بكل سلبياته التي لا ينكرها أحد وإنجرفوا بعيدا مع أوهام (إدغار ألن بو) و(مالارميه) و(بودلير) و(بول فاليري) والأمريكي اليهودي (عزرا باوند) والإنجليزي (توماس إليوت( وغيرهم من فلاسفة الحداثة والميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) -التي تبحث في المسببات والأدلة العقلية المحسوسة في محاولة يائسة للإجابة على كل ما يحير الإنسان ويشكله، وفي الغيبيات وكيفية الخلق وكنه الخالق وو.. وإلى ما هنالك من تأليه العقل ونبذ التراث والتغيير والتجديد والإبداع والفن المتجرد المتحرر المنفلت- فظلوا وأظلوا.. ولم يتفقوا على رأي واحد!!

الحقيقة التي أقر بها علماء الإجتماع اليوم ومنهم (جاروفالو): أن الدين يعد عاملاً إيجابياً حاسماً في تكوين الشخصية السوية وضبط السلوك الإجتماعي والحد من الجريمة، والحقيقة الأخرى التي أقر بها عباقرة العلم اليوم هي أن العقل البشري المحدود بحواسه العاجزة سيظل -بمفرده- قاصراً وغير قادر على إدراك وأستيعاب المطلق اللامتناهي!! مهما فكر ودبر، وعلا في الأرض وتكبر وتجبر، وتمرد على خالقه العظيم!!

وأم الحقائق هي أن الغرب المتحضر في ثورته العظمى على طغيان الكنيسة وكهنوتها لم يقدم طوال تاريخه ما هو أفضل حالاً منها، بل على العكس، دعى للمجون والإنحلال والإباحية وشجع على التفكك الإجتماعي والأسري ونشر الإلحاد والإنحطاط والرذيلة وارتكب أبشع جرائم الإنسانية والإبادة الجماعية بحق شعوب كاملة وهو يشدو ويطنب أسماعنا صباح مساء بحديثه المنمق عن الحرية وإحترام حقوق الإنسان!!

الغرب العجوز الخَرِف الذي عرف كيف يخفي قبحه وخبثه مرتديا جلباب الخيرين يشكوا اليوم ويعاني من الإعتلال القيمي والخواء الروحي -رغم تفوقه التكنولوجي وتقدمه العلمي- وما يزال ينظر إلى جمال المشرق وألقه ونقائه بشغف وذهول عاضاً على يديه متحسراً نادماً، نظر الولهان العَطِش المحروم، فافهموها يا بعض مثقفينا، ولا تستبدلوا خير ما عندنا بشر ما عندهم..

عندما يلبس الشياطين من أبناء جلدتنا ثياب الواعظين ليعلمونا ألف باء الحداثة والانفكاك من قيود الرجعية -في سعي خبيث وتآمر مكشوف للإختراق والتدمير - يختلط الحابل بالنابل وتضيع الحقيقة بين مؤيد ومعارض، ونتوه في دهاليز السياسة وتجاذباتها، ونرمي الإتهامات جزافاً، ونختلف ونتباين في تعريفاتنا للحرية وضوابطها، ولإمتدادات الشعرة الفاصلة بين المتاح والمحظور..

ليظل السؤال الكبير معلقاً يبحث عن إجابة -في خضم ركضنا المحموم نحو المجد والشهرة والحرية المبتغاة- في حال قفزنا على كل الحواجز، حاجزاً تلو الآخر، وتعدينا بسلاسة وأريحية كل الخطوط الحمر (قيمنا، عاداتنا، تقاليدنا)، بلا حسيب ولا رقيب، ولم نحترم مرجعياتنا وكبارنا وآبائنا، بل لم نأبه بربنا وهادينا، فمن أين نلتمس الهداية والرشد يا ترى من أين ؟!!

من ينقذ عقولنا السقيمة من الإعتلال والإنحراف والغواية أمام هذا التمادي والتفسخ والإستفحال الخطير الذي وقفنا إزاءه حائرين عاجزين عن (الغربلة والإختيار) والذي جعلنا أحوج ما نكون لمن يجيد (الكي) ليحرق ما تسمم وتشوه من ثقافتنا وأفكارنا، لإنقاذ ما أمكن إنقاذه، لبناء عقول سليمة صحيحة ومعافاة، من أجل حرية عاقلة جادة ومسؤولة..


في السبت 28 يناير-كانون الثاني 2012 11:32:03 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=13491