إرضاء العبيد غايةٌ لا يدركها غير المستبدين
فكري القباطي
فكري القباطي

وأخيراً توقفت بوصلة الأحداث الدامية في البلد عند نقطة الالتئام عِوضاً عن الاصطدام في خطوةٍ تجاوزت الإنجاز ولامست الإعجاز بما فيها من إيجاز اختصر أسباب تفرد أهل اليمن بالحكمة عوضاً عن نجد والحجاز ..

وعلى الرغم من أن عدد البشر الذين حقن دماءهم هذا الوفاق أكثر بكثيرٍ من عدد المشككين بنوايا أحزاب اللقاء المشترك إلا أن حقن الدماء بالنسبة إليهم منفعةٌ يُقدّمُ عليها درءُ المفاسد التي قد ينتجُ عنها اتفاق المشترك مع المؤتمر عند بعض الكُتّابِ أولو البصيرة والألباب ..

وهذا ما قد يدفعنا للتساؤل عن سر هذه النخوة الثورية التي طغت على السطح عند الكثير من العاكفين في بيوتهم بمجرد أن تم التوقيع على المبادرة التي ظلوا يقسمون اليمين المغلظة ويبصمون باليسار المحرضة أنها لن تتم فلما تمت قالوا لا تُهمْ لأنهم اعتادوا على النظر إلى الجانب الفارغ من الكأس وبغض النظر عن كمية السم الذي قد يحتويه الجانب الممتلئ..

وعلى الرغم من أن الثورة كانت بالنسبة لهم محطة استراحةٍ للتنفيس عن شعورهم بالعجز تجاه واقعٍ يفرض عليهم التدقيق في الفحوى بدلاً من الركون إلى الفتوى والكف عن المهاجمة إن عجزنا عن المساهمة إلا أن التناقضات ظلت حبيسة نظرتهم السطحية للأحداث مند اندلاع الثورة إلى يومنا هذا لتكشف لنا حجم الفارق بين العنصر الفاعل والعنصر الخامل لأن الثورة التي استماتوا في التنقيب عن عيوبها والبحث عن ثقوبها لم تكن ثورةً بالمعنى الأصح وإنما كانت أزمةً سببت الإنشقاق لتصبح اليوم ثورةً سرقها الاتفاق ..

والحذر من السؤال لأنهم سيسهبون في تفسير الأسباب التي حولت الأعداء إلى رفاق وهكذا ديدنهم كلما انقطع بهم سبيلٌ فتحوا سبيلاً آخر فالعداء بالنسبةِ لهم طريقٌ للشحناءوالبغضاء والوفاق من منظورهم الضيق يعني مؤامرةٌ تحاكُ خلف الكواليس ..

ونظراً لهذا الفشل الذريع في جدولة آرائهم عند كل مرحلةٍ تقتضي ولو بصيصاً من التفاؤل نجدهم حريصين على ترويج سلعهم الفكرية والنقدية للحدث بطريقةٍ تُثير الجدل أكثر من إصابتها للهدف كما حدث بالضبط بعد انضمام علي محسن للثورة ليكون هذا الانضمام ضربةً مزدوجةً قصم الله بها ظهر النظام وحقن بها الكثير من الدماء كما رأينا ووعينا إلا أن ثقوبهم المتسعة للتشكيك في النوايا والبحث عن الخفايا ضاقت كثيراً حينما سالت الدماء وتناثرت الأشلاء فهذه التضحيات بالنسبة لعجائزهم طيشٌ وتهور وبالنسبة لمفكريهم مغامرةٌ غير محسوبةِ النتائج و لعلمائهم إلقاءٌ للنفس في التهلكة ..

حتى إذا اشتد عود الثورة بانضمام رجلٍ بحجم علي محسن وخابت توقعاتهم جميعاً بانهيار الثورة تحت وابل الأعباء والضغوطات التي فرضها النظام من جهةٍ والمراهنون على فشلها من جهةٍ أخرى عاد الطابور الخامس من كُتّابٍ وعلماءٍ بمصطلح \"الثورة المسروقة\" بعد أن كانت مجرد مغامرةٍ غير محسوبةٍ ومسايرةٌ للموجة لا أكثر ..

وهكذا ينتقل الرجال من نصر إلى آخر في ساحات النضال بينما يعتكف المتخاذلون في اسطبلات الجدال بين أكوام السجال والنزال على رفوف المكتبات وفي أعمدة الصحف وكم يؤسفنا رؤيتهم كالذباب العالقة في الشبكة العنكبوتية غير قادرين على اللحاق بالركب وغير عابئين بالقيود السفسطائية التي شلت هممهم عن النهوض بأممهم بدلاً من الترويج لبضائعهم الكاسدة في أسواق المحبطين والمتقاعسين ..

ومع أن تشكيل حكومة ائتلاف قبل اندلاع نيران الاختلاف قد يساهم في تحقيق حدة الأزمات التي عصفت بالشعب الذي عانى من غياب الدولة في ظل انشغال النظام بترتيب ما تبقى من أوراقه السيادية في البلد إلا أننا نجد الكثير من الأقلام المتباكية على انقراض خدمة الكهرباء وانتشار ثقافة التيمم -بعد أن أضربت المواصير وعربدت المواطير- تتحدثُ بإسهابٍ عن تداعيات هذا الاتفاق وكأنهم لم يدركوا بعد أن أحلامهم كانت مجرد كوابيس ومفكراتهم عبارةٌ عن كومة قراطيس لا مكان لها إلا في دواليب التوقعات الفاشلة والاحتمالات المدجنة بمعادلاتٍ حسابية تراكمت في أذهانهم المعبأة بتجارب الطرح والضرب ثم القسمة وهذا ما يجعل من أي عمليةِ جمعٍ في موروثهم الثقافي مؤامرةٌ تستدعي منهم الحراك مع الورق والعراك مع الأرق حتى يجتثوا عقولهم الهامدة من قبور الطي والحرمان التي دفنهم فيها النظام عقوداً من الزمان دون أن يتأففوا من انحناء ظهورهم أو حتى يتعففوا من إظهار خضوعهم لأن ثقافة الانبطاح كانت واقعاً مفروضاً عليهم بينما أصبحت ثقافة الانفتاح اليوم واقعاً معروضاً عليهم ليُثبتَ هؤلاء المبرمجين على الانصياع أن إرضاء العبيد غايةٌ لا يدركها غير المستبدين ...


في الإثنين 19 ديسمبر-كانون الأول 2011 09:17:59 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=12912