رمضان: الثورة في مواجهة المعاناة
عبد الملك الجهمي
عبد الملك الجهمي

لرمضان هذا العام عنوانان يميزانه عن رمضان الأعوام الماضية: الثورة و المعاناة. فبعد ستة أشهر من الثورة على النظام الحاكم استشهد فيها من استشهد و جرح فيها من جرح، انكشفت عورات النظام و بانت مواطن قبحه وتغيرت للأبد معالم حياتنا جميعا المناصر لها و المناصر للنظام و الصامت بينهما، المقيم بأرض الوطن والمغترب.

و بسقوط الخراب الذي كان يسمي سابقا دولة (و إن بقيت الأسماء و المناصب و بعض الوجوه القميئة)، حان وقت دفع ضريبة سكوت الشعب المزمن على هذا الخراب من أنفسهم و أموالهم، و بدا واضحا أن الناس البسطاء من أبناء الطبقة الفقيرة - و هم أغلبية - و ما تبقي من أبناء الطبقة المتوسطة هم أول من سيدفع هذه الضريبة و من سينوء بحمل عبئها الأكبر.

و رغم أن النظام يدرك كغيره استحالة العودة بأمور البلاد إلى ما قبل هذه الثورة، فإنه ما زال يراهن على ذاكرة الناس القصيرة و يسعى إلى أن يجعلهم يربطون بين معاناتهم و بين الثورة القائمة. فتراه يفتعل الأزمة تلو الأزمة (الغاز و الماء و الكهرباء و البنزين) و الحرب تلو الحرب ليجعل من حياة الناس جحيما لا يطاق؛ لا تردعه في ذلك أخلاق و لا دين و لا مروءة. كل ذلك من أجل أن يعاقب المناصرين للثورة و يجبرهم على أن ينفضوا من حولها و يردع المناصرين له و الصامتين و يخوفهم من الانتقال إلى صفها أو التعاطف معها، حتي يصبح بقاءه في ذاكرة الكثيرين أهون الشرين. و في الوقت نفسه، يحاول أن ينسيهم جميعا - و لو لحين - ثلاثين عاما من الجهل و الفقر و المرض و المعاناة البطيئة المقسطة على جرعات و أن يبيعهم وهم الإصلاح و مقدرته عليه و كأن ما فشلت ثلاثون سنة في تحقيقه ستحققه أيام أو أشهر معدودة.

و لأن الفساد والتوريث و المتاجرة بأرواح الناس و أموالهم ليست حكرا على رأس النظام و المقربين منه، و لأن الوزير و المحافظ و القاضي و نائب البرلمان و مسؤول الأمن و القائد العسكري و الشيخ و عضو المجلس المحلي و التاجر -كثيرا منهم - ضالعون في هذا الفساد و غارقون حتي رقابهم فيه، و لأن المناصرين للثورة و المنضوين تحت لوائها ليسوا محصورين في ساحات التغيير و الحرية في المدن الكبيرة بل هم موجودون في كل مدينة و حارة و قرية ؛ فإن الثورة لا ينبغي أن تحبس نفسها في هذه الساحات، و وجب - في مواجهة هذا العبث التدميري و هذه المعاناة - الانطلاق بروح الثورة و رسالتها إلى الناس في الحارات و القرى و التواصل مع فئات الناس الأكثر تضررا من هذا النظام دونما استثناء لأحد. و لا أنسب من هذا الشهر الكريم في البدء في هذا التواصل، فلرمضان - دائما - طريقته في استخراج الخير و إشاعته بين الناس.

هذا لا يتم قبل أن نتغير - نحن أنصار الثورة - حقيقة لا ادعاءً و تتطور قناعاتنا و رؤانا و تتسع قلوبنا للوطن كله، الموافقين لنا و المخالفين، و نربأ بأنفسنا أن نكون أسرى طائفة أو مذهب أو منطقة أو حزب ما، طالما أن فساد النظام و ظلمه و فشله في جميع ما وجد من أجله، و المعاناة التي كان و ما زال سببا فيها لا تستثني أحدا. فالخير الذي تبشر به هذه الثورة و الأمل الذي تحمله يتسع لليمنيين جميعا مؤيدين و معارضين. و التغيير الذي ننشده ينبغي أن ينبع من محبتنا لبلدنا و انتفاضتنا لكرامته و كرامة كل أبنائه؛ و دواعي البناء ينبغي أن تتغلب فيه على دواعي الهدم، ورغبتنا في رؤية هذا البلد كريما عزيزا رحيما بأبنائه يجب أن تكون أكبر من رغبتنا في الانتقام من الظلمة و المفسدين.

و هنا تجيء الحاجة للشباب و رجال الدين - من غير ذوي الشطط - و المصلحين و المهندسين و الأطباء و المتعلمين و الصحفيين و الأثرياء لكي يساعدوا أهلهم و ذويهم في حاراتهم و قراهم علي إعادة ترتيب حياتهم و إدارة مواردهم الشحيحة في مثل هذه الظروف، و الوصول بهم و معهم إلى حلول مبدعة لما أمكن من مشاكلهم، و تخفيف وطأتها عليهم، لاسيما على الضعفاء و الفقراء منهم.

هذا العمل ضروري لمساعدة الناس على تجاوز هذه الأزمة، و حفظ أرواحهم و أعراضهم و أموالهم ممن يحاول و سيحاول العبث بها في غياب مؤسسات الدولة و خدماتها المفترضة. إنه وسيلتهم في الأخذ على يد "السرسري" الأزعر الذي يخرب عن وعي و دون وعي كل ما تقع عليه يداه من صندوق القمامة إلى محول الكهرباء مرورا بإشارة المرور في الشارع؛ و مقاطعة صاحب البقالة الجشع الذي يتخذ من حاجات الناس و معاناتهم فرصة للتربح، و من وراءه من أصحاب المحلات و التجار المحتكرين الذين يحاربون الناس في أرزاقهم؛ و مواجهة أصحاب محطات البنزين المخفين له في محطاتهم و البائعين له في السوق السوداء. كما أنه يُعدِّهم للوقوف في و جه الشيخ أو المسؤول الذي لا يفكر إلا في نفسه و لا تهمه إلا مصلحته و لا يلتفت إلى أبناء قبيلته و من هم في رقبته إلا وقت حاجته لهم.

من رحم هذه المعاناة - إذن- يجب أن يخرج خطاب رجال الدين حتى يكون لمواعظهم في قلوب متلقيها الوقع المنشود و الأثر المحمود، و في سبيل تخفيف أعبائها على كاهل الضعيف و الفقير يجب أن تذهب صدقات الميسورين من الناس و زكاتهم. أما السياسيون و المشائخ و قيادات الأحزاب و المتعلمون و الشباب فعليهم أن يجيبوا على أسئلة الناس بخصوص الثورة و ما قامت من أجله، و أن يتفهموا خوفهم مما يرونه مستقبلا مجهولا عقب تصدع ما اعتادوا عليه عقودا طويلة من الزمن، و أن يطمئنوهم على أن الثورة لم تكن و لن تكون من أجل أن يحل هامان محل فرعون بل من أجل أن يسقطا الاثنان معا.

إن بلادنا - لا ريب - تعيش هذه الأيام محنة شديدة و مخاضا عسيرا و لحظات حرجة من تاريخها و إن الخيارات التي ننتهجها و القرارات التي نقررها و التضحيات التي نبذلها من أرواحنا و أعراضنا و أموالنا لا شك ستشكل طبيعة مستقبلنا القادم. و إن من شأن المعاناة التي أراد لها النظام أن تكسر ظهورنا و تفرق بيننا وتعيدنا إليه أذلاء خاضعين، أن تؤلف بيننا و تجمع شملنا و توحد كلمتنا؛ فرفضنا جميعا للظلم و الفساد و استعدادنا الفطري للدفاع عن أنفسنا في مواجهة من يهددنا بالجوع و الفقر و المرض و الموت أقدر على جمع كلمتنا و توحيد صفنا من أي شعار أو حزب أو منطقة أو طائفة.

لنكن في هذا الشهر كراما في أنفسنا أعزاء في بلادنا فهذا أفضل عزاء لنا عما قدم حتى هذه اللحظة من تضحيات و ما سيقدم منها في المستقبل. و لتكن هذه الثورة من أجل الناس كل الناس. و لتكن خلافات أبناء الحارة الواحدة و القرية الواحدة حول الأحداث التي تمر بها بلادنا تباينا في الرؤى و ذات حدود لا تتعداها، لا أحقادا و عداوات و تنابز بالألقاب. فكما كنا أخوة قبل الثورة سنظل إخوة بعدها و لن يصح في نهاية المطاف إلا الصحيح.


في الإثنين 15 أغسطس-آب 2011 04:40:01 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=11329