ماذا يعني فتح السعودية ملف الخيار النووي العربي؟!
بقلم/ أحمد التلاوي
نشر منذ: 17 سنة و 3 أشهر و 14 يوماً
الثلاثاء 12 ديسمبر-كانون الأول 2006 10:50 ص

التصريحات الأخيرة للأمير مقرن بن عبد العزيز آل سعود رئيس المخابرات السعودية في المؤتمر الأمني الخاص الذي شهدت وقائعه العاصمة البحرينية المنامة أخيرًا حول الترسانة النووية الصهيونية ومخاطرها على الأمن القومي في الخليج العربي فَتَحَتْ المجال أمام أحاديث عِدة عن أحد أبرز القضايا الخلافية المطروحة حاليًا على الساحة العربية والأوسطية، مع تداخله مع العديد من القضايا والملفات الأخرى ذات الصلة بالأمن القومي العربي.

وكانت تصريحات الأمير مقرن مفاجأة في حدِّ ذاتها مع جِدة الاقتراب الذي أخذه في صدد تناوُل ملف الخيار النووي في منطقة الشرق الأوسط، حيث قال مقرن إن أصل المشكلة النووية في الشرق الأوسط ليس في إيران كما تحب الولايات المتحدة أنْ تُصوِّر، ولكن أصل المشكلة في الترسانة النووية الصهيونية، ليس هذا فحسب بل إن مشكلة الترسانة النووية الصهيونية تمكن بالأساس لمساعي الكيان الصهيوني لاحتكار السلاح النووي في المنطقة.

كما أن مقرن فجَّر مفاجأةً ثانيةً تتمثل في تأكيداته- كممثل لأهم سلطة أمنية في المملكة، وبالرغم من كونها أحد أهم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة العربية والإسلامية- بقوله: إن الترسانة النووية الصهيونية هي المهدد الأكبر للأمن القومي في الخليج وليس البرنامج النووي الإيراني الوليد، بخلاف وجهة النظر الأمريكية والغربية بطبيعة الحال.

والحقيقة أن التوقيت الذي طرح فيه الأمير مقرن موقفه هذا يستحق المزيد من التأمُّل فيه، سواء على مستوى تطورات الملف النووي الإيراني أو فيما يتعلق بباقي المُسْتَجَدات في ملفات الحالة العراقية واللبنانية، وفي شأن القضية الفلسطينية.

وبوجهٍ عام فإن تصريحات مقرن هذه لن تمر مرور الكرام، سواء في الجانب الإعلامي منها أو في أروقة ودهاليز المؤسسات الأمنية والأجهزة الدبلوماسية في المنطقة وعلى الجانب الآخر من الأطلنطي؛ حيثُ الإدارة الجمهورية الأمريكية المهزومة داخليًّا وخارجيًّا، والتي ربما لا تحتمل هزيمة أخرى مع أقرب حلفائها في المنطقة، ولذلك فمن المرجَّح أنْ يكون هناك اهتمام أمريكي واسع النطاق بتصريحات المسئول السعودي الرفيع، حتى ولو لم يكن هذا الاهتمام مُعلنًا على الملأ الإعلامي.

تاريخ قريب وبعيد

الحقيقة أن المملكة العربية السعودية هي الأكثر التصاقًا بملف الخيار النووي الذاتي مُنْذُ عقودٍ بعيدة، ولكن على ارتباطاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة في فترة الحرب الباردة لم يكن من الممكن عمليًّا البدء في برنامج نووي عربي تقوده الأموال السعودية، كما تزداد حدة هذه القيود بطبيعة الحال إذا ما كان ذلك البرنامج سعودي خالصًا، سواء لغياب الكفاءات البشرية اللازمة عن المملكة لتنفيذ هذا الطموح أو لاعتبارات المستوى السياسي والأمني المرتبط بالاعتبارات الأمريكية في هذا الملف.

فبالرغم من أن السعوديين طرحوا خيارًا نوويًّا سعوديًّا أو خليجيًّا سلميًّا لتحلية مياه البحر عبر محطات تحلية تعمل بالطاقة النووية لتوفير مليارات الدولارات تنفق على هذا البند سنويًّا من ميزانيات التنمية في دول النفط العربية، وتوفير ما يُهْدَر فيها من كهرباء ووقود في تشغيل المحطات العادية التي تعمل الآن لتحلية مياه الخليج العربي، إلا أن واشنطن رأت أنه ليس من المصلحة الأمريكية أو الصهيونية أنْ يكون هناك أيُّ اقترابٍ عربي من العتبة النووية

وهذا الأمر ليس فيه أي تهاون غربي- منع العرب من امتلاك التقنية النووية بأي صورة حتى على مستوى البحث العلمي والكوادر البشرية- وهو ما يتضح من جرائم الموساد الصهيوني ضد الكفاءات البشرية العربية من سميرة موسى كأول عالمة عربية تدخل هذا التخصص إلى سعيد بدير.

كذلك لا يمكن لأي عربي أنْ ينسى الجريمة الصهيونية في صيف عام 1981م بضرب المفاعل النووي العراقي "أوزيراك"- أو مفاعل "تموز"- بطائرات الفانتوم المقاتلة الأمريكية الصنع، بعد حرب مخابرات وسياسة حقيقية في باريس وبون وأوروبا فشلت خلالها تل أبيب في منع العراق من الحصول على هذا المفاعل فلم يتبق إلا ضربه قبل تشغيله بمراحل بسيطة، بل إن الغزو الأمريكي- البريطاني الأخير للعراق كان محكه الأساسي المُعلن من الجانبين عبر الأطلنطي هو منع العراق من امتلاك أسلحة دمارٍ شامل.

ولكل هذه العوامل لم تستطع الرياض البدء في برنامج نووي ذاتي، ولكنها دعمت البرنامج النووي الباكستاني على المستوى المادي؛ حيث دفعت المملكة أموالاً طائلة للحكومات الباكستانية المتعاقبة ولفريق العمل الذي قاده العالم عبد القدير خان العالم النووي الباكستاني، وكان من نتاجه حصول باكستان على ترسانتها النووية والصاروخية الحالية التي تواجه بها التهديد الهندي، الذي قام بينه وبين التحالف الأمريكي- الصهيوني مؤخرًا علاقات تحالف وثيقة في المجال النووي أيضًا، مما يشير إلى حقيقة النوايا والمواقف الأمريكية والصهيونية تجاه العالم العربي والإسلامي.

أسباب

سيزيد من اهتمام الأمريكيين وغيرهم في المنطقة وخارجها في تصريحات الأمير مقرن بن عبد العزيز أمران: أولهما أن هذا الشخص يرأس أرفع أجهزة الأمن السياسي في بلاده، بل هو على رأس أحد أكبر أجهزة الاستخبارات في المنطقة وأكثرها فعلاً، ربما بعد الأجهزة المماثلة في كلٍّ من مصر والكيان الصهيوني وإيران وسوريا على نحو أو آخر.

وكان جهاز المخابرات السعودي في فترة رئيسه الأسبق كمال أدهم أحد أبرز الفاعلين السياسيين في المنطقة العربية والإسلامية، ولعب أدوارًا واسعة النطاق في تمرير السياسات الأمريكية الخاصة بأفغانستان إبان فترة الاحتلال السوفيتي السابق ، وخلال والحرب العراقية- الإيرانية وغير ذلك من الملفات السوداء.

الأمر الثاني أن مقرن "هدد" في كلمته أمام المؤتمر بالبدء في برنامج نووي مثيل لذلك الذي لدى إيران أو الكيان الصهيوني انطلاقًا من اعتبارات الأمن القومي السعودي، ولكن وعلى الرغم من أن ذلك لم يعلنه مقرن صراحة، إلا أن ذلك هو التفسير الوحيد لعبارته التي قال فيها إن الأوضاع الراهنة في المنطقة تدفع "البلدان المعتدلة" إلى محاولة امتلاك خيارها النووي الذاتي، و"هدد" في صورة "تحذير" لا لبس فيه أن ذلك الوضع سوف يخلق "سباق تسلُّح" في المنطقة، مما يعني أن السعوديين لا يرون أن السباق النووي في المنطقة سوف يقتصر على الخيار النووي السلمي.

ويُعضِّد- أيضًا- من الطرح القائل بأن السعودية تعني بالفعل بالخيار النووي في تصريحات الأمير مقرن السلاح النووي وليس خيار الطاقة النووية السلمية أن المملكة لا تعاني في الوقت الراهن عَوَزًا في مصادر الطاقة على اعتبار أنها صاحبة أكبر رصيد في احتياطيات النفط العالمية، وتُعْتَبَر أكبر مُصَدِّر للطاقة الأحفورية في العالم.

والحقيقة أن السعودية عندما تطرح خيارها النووي في هذا التوقيت فإنها تضع على رأس أولوياتها قضية اعتبارات الأمن القومي للمملكة في هذه المرحلة، ومن المستغرب حقيقة أنْ يكون السلاح النووي ضمن قائمة أولوياتها لحماية أمنها القومي، فأكبر تهديد للأمن القومي السعودي في الوقت الراهن هو تهديد العنف السياسي وجماعاته في الداخل والخارج، أي سواءًا تلك الجماعات التي تعارض الرياض وخطها السياسي الداخلي والخارجي، وتلجأ للعنف في نشاطها هذا، أو الجماعات المسلحة التي تقاتل الأمريكيين في العراق.

وهو تهديد لا يُواجَه بالأسلحة النووية بل يتم مواجهته بالخيارات الأمنية والسياسية العادية، ومن ثم فإنه بكلِّ تأكيد فإن هناك عوامل أخرى دعت الرياض إلى تبنِّي هذا الموقف.

أول هذه العوامل- أو التخمينات وفق البعض- هي أن المملكة العربية السعودية تتخوف بالفعل من الترسانة النووية الصهيونية، وأن لديها معلومات تشير إلى استعداد الجانب الصهيوني في وقت الضرورة لتوجيه ضربة عسكرية تقليدية أو نووية إلى المملكة في الداخل والخارج.

ومَرَدُّ هذا التهديد هو المخاوف الصهيونية من الجماعات الإسلامية التي تتبنى العمل المسلح في نشاطاتها ضد المصالح الأمريكية والصهيونية في المنطقة في كلٍّ من فلسطين والعراق، وغيرها من بلدان المنطقة، وغالبية جماعات المقاومة الإسلامية المسلحة هذه من العرب السُّنة، وتصاعدت في الآونة الأخيرة الاتهامات التي تكيلها أجهزة المخابرات الدولية؛ الأمريكية والصهيونية إلى الرياض بأنها تدعم هذه الجماعات، لاسيما تلك العاملة في العراق، وهو ما نفته الحكومة السعودية، وأدى إلى أزمة حقيقية بين الدبلوماسية السعودية والأمريكية.

وربما لا يكون هذا التهديد صهيونيٍّ فحسب، بل قد يكون أمريكي أيضًا إذا ما ثَبُتَ للأمريكيين حقيقة هذا الدعم؛ فمع إدارة مثل الإدارة الأمريكية الحالية بكلِّ غطرسة القوة التي تسيطر عليها، من الممكن جدًا توجيه ضربة عسكرية لمناطق الحدود بين السعودية والعراق، أو لأية معسكراتِ تدريبٍ قد تكون موجودة داخل أراضي المملكة.

والحقيقة أن التدهور الذي جرى للعلاقات الأمريكية- السعودية في مرحلة ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م يضع الكثير من علامات القلق أمام السعوديين في هذا الصدد، مع ما فتئت واشنطن تتهم به الرياض من أن هناك دعم فعلي مادي وسياسي من جانب عناصر في الأسرة الحاكمة للإسلاميين الذين تصفهم واشنطن بأنهم "متطرفين" أو "إرهابيين" ممن يقفون وراء تنفيذ أحداث نيويورك وواشنطن، ومع كون الرياض من وجهة نظرِ واشنطن لم تبذل كل ما بوسعها فيما تسميه الولايات المتحدة بـ"الحرب على الإرهاب".

وزاد الطين بلة في هذا الإطار مع مطالب السعوديين للأمريكيين بسحب قواتهم من المملكة والخليج بعد حرب العراق الأخيرة، وتوترت العلاقات بين البلدَيْن بعد انسحاب مهندسها الأول الأمير بندر بن سلطان من السفارة السعودية في واشنطن، فغاب وجه كان يقدر على التخفيف من حدة التوتر بين الطرفَيْن في الكثير من الأحوال.

إيران!!

السعوديين في حال كونهم جادين في التوجه نحو امتلاك خيارهم النووي الذاتي قد يكونوا متخوِّفين من حالة الاضطراب والتوتر العام التي تسود المنطقة بفعل السياسات الأمريكية، مع تهديدات واشنطن المتصلة ضد إيران، مما يُهدد بحربٍ وفوضى تريق أنهارًا من الدماء العربية والمسلمة، مما يفرض حالة من الاستعداد لكافة الاحتمالات، ومن بينها استعمال الأسلحة النووية بين طرفي أي حربٍ محتملة في الخليج العربي، وتحديدًا بين إيران والولايات المتحدة.

وقد كان وزير الخارجية الإيراني مانوشهر متقي موجودًا والأمير مقرن يُقدِّم طرحه الجديد هذا، وطبقُا لتسريبات الاجتماع الذي عُقِدَ في المنامة فلم يُعَقِّب الوزير الإيراني على كلام مقرن الذي فيه أشار إلى أنه نتيجة للسياسات الصهيونية فإن بعض الدول في المنطقة شاركت في المنافسة على امتلاك أسلحة نووية مثلما يحدث حاليًا، والمقصود إيران بطبيعة الحال.

كما إن "الخطر الشيعي" يحتل مكانة بارزة في ذهنية صانع القرار السعودي، لاسيما مع تهديد قادة إيران بنقل الثورة الإسلامية الشيعية إلى بلدان الجوار العربي المسلم، وتزداد وطأة هذه القضية لدى المملكة مع وجود أقلية شيعية كبيرة في المنطقة الشرقية للمملكة حيث أكبر حقول واحتياطيات نفط في الخليج والعالم كله.

وفي الأخير فإن السعوديين ربما يرون في الكثير من التطورات من حولهم ما يفرض عليهم امتلاك- أو حتى التهديد بامتلاك- سلاحٍ نووي يكفيهم مئونة التهديدات من حولهم، وربما كان لسعيهم لاستقلالية قرارهم السياسي عن الأمريكيين وغيرهم، والتصدِّي للأخطار الحالية في المنطقة مبرراتٍ كافية لطرح هذا الملف في الوقت الراهن.

ولا يغيب عن الأذهان أيضًا المساعي المصرية الحثيثة في الوقت الراهن لبناء برنامج نووي سلمي مستقل- يمكن تحويله إلى الجانب العسكري وقت الضرورة- عن طريق خبراتٍ شرقية (روسية وصينية) بعيدًا عن الوصاية الأمريكية والرقابة الصهيونية، والتي- أي هذه المساعي- قد يكون لها تأثير في ذهنية صانع القرار الأمني والسياسي في الرياض، ولكن على أي شكل يجيء هذا التأثير، هذا ما لا يعرفه أحد وفي الغالب لن يُعرف في الوقت الراهن.

مشاهدة المزيد