ماذا أريد، حسب الطلب؟
بقلم/ عبدالله عبدالكريم فارس
نشر منذ: 15 سنة و 11 شهراً و 22 يوماً
السبت 26 إبريل-نيسان 2008 07:12 ص

مأرب برس – خاص

سامحوني... واسمحوا لي حسب طلب الكثير بعرض مشاعري بعفوية كما هي.

أنا مفتون بمسقط رأسي، ذلك المكان الأثير على نفسي... صانع أسرار بلاغتي الروحية.. هذه البقعة الطاهرة تسري في مكان ما من عقلي كجدول دافق لا تعرف الأرض نبعاً أنبل منه.

انه ليس كأي مكان... سليل حضارات تُطالبني مشاعري بأن أذكره. - إنه مكان له حق في أن يسحرني ويبعثر أنفاسي... منه عرجت الى حيث أنا، واتوق للسقوط اليه مجدداً.

ومهما حاولت أن اُنمق كلامي فلن أجد أجمل مما رسمه الخالق المبدع على لوحة هذا الوطن قولاً وفعلاً... - حضارات بكاملها ولدت من رحمه... كتب الأرض وكتب السماء منحت تاريخه فرادة إسطورية متميزة على نحو غير مسبوق، منذ آدم حتى المشاهد القرآنية الغنية ومابعدها، مما يدل على الإرتفاع والسُّمو والعلُوِّ وعظم الشأن.

- بأنفة وكبرياء المؤمن، احب تكرار المقولة: لم يغادر عقل عبدالله فارس اليمن قط، فقط يرحل عنها جسده! - واتمنى ان اظل كذلك في الحياة وبعد الموت.

في حياتي لم أدخل حلقات السياسة.. أو أحزابها... ولم ادرج على قوائم الإنتخابات، ولا أسعى لأن اصبح من خطباء المنابر، ولا أبحث مجدداً عن عمل مريح لدى السلطان مقابل التنصل عن حق الأمة الأصلي بالنهوض، والذي لا تساويه كنوز الدنيا.

لا قنوط عندي بحتميّة إنطلاق الأمة نحو النهضة، بل ليس لدي ادنى شك بأن اليمن ستنتصر على الجهل وتصنع المعجزة في ظل إدارة رشيدة لاتنفث سمومها السوداوية وتفاهاتها على الأثير، أي، من دون فذلكة حاكم عسكري يكشف هرفه عن نزوعه العميق وقلقه الدائم لفهم وجوده.

أنا إنسان يؤمن بأن البشاعة التي لا تختفي لا بد أن تهزم... والذي يميّزني عن سواي، - وأقولها بمنتهي التّواضع -، أنّني مواطن شامخ، صبور، غيور، وذو قناعات واضحة في الأفق والرّؤية، لكن من النوع الذي يصعب عليه أن يسكت على الضيم، اخاطب الحاجات وادعوا الأشياء باسمائها، دون إلباس الواقع ثوب غير ثوبه... إذا تحدّثت أستطيع أن أجرح، بل اشكل مخرز حاد يستطيع في لحظة قلع عين الخبث... وإذا أحببت أجعل الكلام ورود عشق معبق برائحة الشّوق.

والأهم، ادرك ان لغة التبسيط السياسي لا تنفع مع موضوع قرر منذ الأزل أن يكون معقداً، وأعرف أيضاً أن التاريخ لا يتحول إلى اسطورة عبر خبصة من اللعنات.

لكن حتى لايُخطف روح شهرزاد ويوأد عبقها الايروتيكي على يد نظام مفبرك يجر قوافل الفشل الذريع ورائه، أتوق لرؤية بزوغ صبح جديد، بزعامة فيها ثمة تفاصيل حنان.. واثقة بقدرة بلادها لأن تكون سيدة العصور... تحاول الارتقاء بها إلى مستوى النبوءة الحلمية... رائدة في تفانيها في الدفاع عن المستقبل، وأحبّ نصرة سلطان - اياً كان - يفهم أنوثة البلاد التي يركب عليها وهي تقاوم الزمان والمكان.

ولنتذكر أن ثمة يدٌ في الخفاء تسهم في إنشاء البنى الأساسية لإفقادنا مراكز قوتنا الكامنة في نشاطنا وطاقاتنا، - هذه اليد لاتجد أفضل من تعاون الزعامات العربية القائمة لتنفيذ مآربها، - تحالف خبيث لتدريب الأمة على التخلص من آخر مجالات النشاط والعمل والإنتاج عبر أنظمة تحث أبناءها على التيه والخمول والكسل والتمطي والإعتماد على الغير، فتفقدهم روح المبادرة والعمل والإنتاج، - ثمة يد خفية هدفها النهائي دفن الوطن العربي حياً في ترابه.

ولنعتبر من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا الذي قام على أساس حرمان السود من كل شروط الإنتاج، وجعلهم أمام خيارين، إما الموت جوعاً، أو الموت في مزارع ومصانع النظام العنصري، - وهذا يتكرر عندنا تحت معطف عصابة تأخذ شكل نظام وتمثل دور دوله... فكل مقومات الإنتاج تدمر حتى لايبقى أمام المواطن إلاّ أن يموت جوعاً، أو أن يموت خادماً في معسكرات العصابة. - أليس الأمر على هذه الشاكلة دائماً؟

الحقيقة ان بناء ذاكرة وطنية لدى من ضاقت بهم السُبل - في ظل قرون ثور هائج - بات صعباً، ولن تتم إلاّ بإعادة إحياء الحس الموحد للمدن والقرى، وعلى الأرض أن تبدل أزهى ماتملك من ثيابها من المهرة حتى صعدة، وعليها أن تدرب سكانها على الخروج من ظلال الهزائم والمباراة على ايقاع الدم والعرق والدموع... والبدء بمسيرة إنتصارات... لمقاومة محاولات قبر تلك الفاتنة وهي على قيد الحياة... يجب إنتشال اليمن من مرضها العُضال بإيقاظ أصوات زجل عمالها وصخب مطارق عملها وروائح مداخنها وعفر محاريثها وصدى انعامها. - في مهمّة جليلة لإعادة نصب أحد أركان الإيمان، لأن العمل والإنتاج هما ايمان ان لم يتفوقا عليه.

اذ لايجوز أن نحكم على مبادئ نهضتنا بالفشل المطلق من منطلق اليأس، - يأس وهمي ناتج عن فشل المختبر الشخصي لذلك المحارب المرتزق وعصابته التي أنشأت طبقات طفيلية جديدة تتغذى على لحم الأمة، أقعدها ثلاثين عاماً.. لم يقع أسير عشقها ولم يغطس في عينيها... بل يجب أن نبحث أين فشل هو على مستوى التطبيق، وكيف نطور إدارة رشيدة قادرة على تفادي اختلالات التطبيق، كيلا يطاح بكل وجودنا، فنغدو متسولين أذلاء وأيتاماً على موائد اللئام - كما نحن اليوم في عهده.

ولأن الأمم لا يصنع تاريخها في بيوت البغاء، فهو منذ قادها وقاد عليها، اجتاح مساحات اللاعقل، وتاق لإحكام الطوق على عنقها حتى النفس الأخير... قرر أن يغادر تاريخها ولم يحلم يوماً ما بالعودة اليه... فقد البوصلة والصلة بالزمن فأصبح نخاس يتاجر بدعوى الديمقراطية في بورصة الأوطان، ومقطوع رجآء ينشر نعيها في جرائد العالم كل صباح... كل ذلك بعد أن حولها الى محمية خاصة يقدح من أسوارها شرر عيون اللصوص وأهل البيت غافلون عما يأفك.

ما أقوم به اليوم ليس سوى فعل مقاوم لمحو الذاكرة وتفعيل اليقظة والإنتباه... عمليات تنشيط لمراكز الحس من خلال وخزات سريعة متتابعة لتدريب الحواس على عدم الإنخراط في صفوف اليأس... ولا أريد هنا أن ادخل في شِباك صور التخلف المؤلمة، صور العوز والفقر التي تحولت الى ماركة مسجلة لوجع اليمنيين وانتظار احلامهم المؤجلة عاماً بعد عام... لهذا من اليوم وصاعداً، - كي يثوب دراكولا الى رشده -، قبل الخراب العظيم، وقبل أن يشتعل حريق في بيت اللذة الذي يسكنه، اُعلن على كافة الملاء أني نذرت بأن يصبح جل همي هو سلخ جلد اليأس، ونزع براغي الخوف عبر محاربة تسوس جائر عزف عن فن ممارسة الحب وأدمن سفك دماء المحارم في صباح كل يوم.

إن من حق الاجيال أن تسمع وتقرأ وتخزن في الذاكرة... ومن حق الاجيال أن تعرف.. دون تزوير.. ودون التفاف أفاعي الإهمال حول الحقائق... ومن حقها عمل مقاوم، إستفاقة لدعوة يقظة.. لصلاة غضب ضد منهجية تركيع وطن ما زال أهله في حالات وقوف أمام بوابات الاحلام. - عمل رفض لنظام فقد عذريته قبل بلوغ السن القانونية، بدأ ديكتاريوياً وسوف يأفل كذلك... وعلى الأجيال أن تعي أنه يكفي خدش قشرة السطح لكي تكتشف أن تلك العصابة لاتنفرد بخاصية المناعة، بل أن عوامل الإرباك والإنكفاء والتخبط والتناقض تعتبر منطلق وجودها، - تغوص في مستنقع التجاهل والجهل حتى أصبح التمادي الوحشي أسلوب تتسم به وسمة من سمات بقائها.

ليس كثيراً على المواطن الذي لا يغبطه أحد على شقائه أن يبحث عن أفق وحلم يهدئ به من فظاعة واقع بحجم موت.. وليس كثيراً عليَّ أن أبحث عن وطن يبدو كلوحة سابحة في بحور العشق الصوفي الوجداني، كما لو كان قصيدة شعر رومانسية... وذلك ما أريده.

وعليه من أجل تحقيق الحد الأدنى من الحلم، لايجوز للمواطن المنكوب أن يسامح نفسه إن تأخر بالشروع في مقاومة ونخر مفاصل القراصنة بكل ما أوتي من قوة، ويجب عليه أن لايسمح للمرتزقة بإعادة الكرّة بالتسخين والدوران حول الملعب مرة اُخرى، - يجب إنهآء المباراة وإطلاق صافرة الختام.

abdulla@faris.com