الأسواق الشعبية.. جنة الفقراء ومتعة الأغنياء!!
بقلم/ د/محمد القاضي
نشر منذ: 16 سنة و 11 شهراً و 21 يوماً
الجمعة 06 إبريل-نيسان 2007 07:19 ص

مأرب برس - صنعاء - محمد القاضي

  عندما تشعر بأنك غارقاً في أسرار التاريخ وعبق الحضارة الأصيلة ذات النكهة المميزة التي لا تتذوقها من قبل، فإذا أنت في أسواق اليمن الشعبية. فالأسواق الشعبية بأزقتها المختلفة والتقليدية المحتضنة للمدن بدفء حجارتها الطينية تكشف الستار عن تاريخ بعض المدن التاريخية القديمة، فالولوج إلى مثل هذه الأسواق وأنت تسمع وشوشة جدرانها عن الكثير والكثير من أسرارها يدفعك الشوق والحنين أكثر فأكثر إلى لهيب جمالها والاستماع إلى أكبر قدر ممكن من حكاياتها والتعطر من عبق تراثها.

فستكتشف أسواقاً في سوق واحد، فالتعرف والتجوال فقط في سوق الملح الموجود في صنعاء القديمة متعة حقيقية لا تُضاهي، فهو عبارة عن كيان واحد متكامل شوارعه الضيقة في تناغم هندستها وفن معالمها ومبانيها الطينية المتراصة بإضاءات ملونة تعلو شبابيكها تبدو كبشر ناطقين مرحبين بالزوار يعلوها الفخر والأنفة بما تتميز به الحضارة اليمنية. فيدخل المتجول إلى هذه الأسواق يستقبله الضجيج الهادئ، فيطرب القلب فرحاً وشوقاً وسط بحر من البشر والأصوات والألوان الشعبية المتهافتة لجذب الناس وجعلهم يشعرون بالفخر بما صنعه أجدادنا ويحافظ عليه أ
جيالنا. فالولوج إلى هذه الأسواق الناطقة بالتراث والتاريخ يعتبر بحد ذاته نزهة أكثر منها اقتناء حاجيات، كما أن الأشياء الموجودة والمبعثرة في بسطات هذه الأسواق تجبرك طوعاً لاقتناء معظمها، فهي بالطبع أشياء غير عادية وغير متوفرة في الأسواق الأخرى، لذا يصرف المرء كل ما بحوزته من نقود دون أن يشعر. في زيارة لسوق واحد قد لا يكفيك يوم واحد، فسوق الملح مثلاً عبارة عن خمسة عشر سوقاً في سوق واحد، وكل سوق متخصص في عرض منتجات مختلفة عمّا تعرضه الأسواق الأخرى، فهناك سوق العطارة، وسوق الفضة، والأحجار الكريمة، وسوق الجنابي، وسوق آخر للملابس والأزياء التقليدية القديمة، وسوق للمفروشات الأثرية والهدايا، كما أن هناك أسواق أخرى متخصصة في بيع التحف الأثرية والأثاث والحاجيات الشخصية وهناك أيضاً أسواق للبهارات والطب الشعبي والصور القديمة، ولا ننسى أيضاً سوق المأكولات الشعبية اللذيذة المقدمة بالأطباق والأواني اليمنية الخاصة كالمدار والفخار والمقالي التي تكمل الأكل منها وما زالت ملتهبة بالحرارة. وبهذا باستطاعة الزائر التجول وقضاء يوم سيحضر في الذاكرة وكذلك شراء كل ما يخطر بباله من سوق واحد.

لوحة بيد فنان

وأنت في سوق آخر في اليمن وفي مدينة تبعد عن العاصمة صنعاء 280كم، يخيل لك لوهلة خاطفة هذا السوق متحفاً مترامي الأطراف بظلال وأشكال بديعة، فلن تكتفي بنظرة واحدة وكل محل تذهب إليه تعود إليه مرة أخرى، والزائر لهذا السوق يشعر بزقاقه ومباينه ومنعطفاته وكأن كل شيء فيه تم بناؤه على قياسه، كما أن للسوق سمة إنسانية فيجده الزائر يتعاطف معه ويبهجه ويسره بما يحتويه، فتكتشف عندئذ أنك في سوق "الشنيتي" أهم أسواق مدينة تعز الحالمة وأروعها على مستوى اليمن، فيعتبر برمته متحفاً رائعاً ليس فقط بمبانيه وأزقته بل بأبوابه التراثية المنقوشة والمطعمة بالأحجار الكريمة الملونة والتي أشهرها "باب الكبير" والتي كانت تغلق مدينة تعز عنده. فالازدحام هنا شديد وعلى كل جانبي كل سوق محال وبسطات ومعارض متحركة بكل الأشياء التقليدية التي لا حصر لها. والجمال الحقيقي الذي يحتضن هذا السوق ليس فقط في أبنيته وشوارعه الضيقة والملتوية وإنما أيضاً بأناسه الطيبين الشعبيين الذين مازالوا على الفطرة محتفظين بالأصالة والبراءة وصدق التعامل وثروة الذكريات لدرجة أن الزائر قد يمكث ساعات طويلة بالاستماع إلى حكاويهم دون ملل ودون شعور بالوقت.

دكاكين بملايين الدولارات والمتفرج لهذه الأسواق سواء لغرض التنزه أو الشراء يخيل له من خلال دكاكينها ومحالها الصغيرة والضيقة والتي تشبه بعض الكهوف بأصحابها وثيابهم المتواضعة والتقليدية على أنها أسواق محدودة الدخل ويخيل له انطباع آخر بأن ملاكها يكافحون من أجل الحصول على رمق العيش، إلا أن التوغل داخل محال هذه الأسواق ومعرفة قيمة الأشياء المتواجدة فيه يعطي انطباعاً مغايراً تماماً ومدهشاً ومفاجئاً أيضاً عندما يتأكد أن دخل الفرد في هذا المحل قد يصل إلى مليون دولار وأكثر في اليوم الواحد وفي بيع قطعة واحدة فقط من دكانه الصغير، فالزائر سيفاجأ بالتأكيد وهو داخل محل ضيق قد لا يتعدى المترين ذي جدران متعرجة غير مطلية يفتقر إلى أبسط أنواع الديكور أو حتى لافتة تشير باسمه. فمن هذه المعروضات قد تكون جنبية يمنية قديمة متوارثة قد تباع بمليون دولار في ذلك اليوم بالإضافة إلى أحجار كريمة ثمينة قد يتجاوز أسعارها آلاف الدولارات والتي تسعد مقتنيها سواء كان من داخل أو خارج اليمن.

أسواق لا تقربها الشياطين

والسر في جاذبية هذه الأسواق وديمومتها وازدياد زوارها من كل حدب وصوب هو الاعتقاد السائد بين الناس بأن هذه الأسواق محصنة لا تطالها الأعين الشياطنية ولا يخترقها عين الحساد. ويؤكد الكثير أن نفس المذاق والنكهة والجمال ستبقى عطرة إلى الأبد وذلك لوجود العقيق اليماني والذي يعتبر حجر الكرامة والمعجزات في هذه الأسواق. لذا يحرص الكثير من أصحاب هذه المحال على اقتناء البعض من هذه الأحجار في محالهم تيقناً بكرامتها ومعجزاتها الكبيرة، فهو سر إضفاء المزيد من الجمال والحيوية والتهافت في هذه الأسواق بالإضافة إلى كون العقيق اليماني الأصيل الذي يباع في هذه الأسواق حجر يصد العيون المسكونة بالشياطين غير أنه يجلب الرزق والبركة.

الأسواق الشعبية تبهج الزواج

أصبحت الأسواق الشعبية اليوم في اليمن أسواقاً منافسة للأسواق العصرية، كون هذه الأسواق تحتوي على الأزياء التقليدية والديكورات التراثية والاكسسوارات القديمة والنادرة والتي تضفي جواً مميزاً وتقليدياً على العرس والعروس، والذي يعتبر ضرباً من الموضة والتميز الحقيقي أن ترتدي العروس ملابس تقليدية بكل اكسسواراتها بالإضافة إلى الديكور الأثري بالشموع والازهار والأواني التراثية، وهذا النوع من الديكور ليس بالرخيص ولكنه مكلف جداً ولا تستطيع أي عروس استعراضه إلا تلك التي تنتمي إلى الطبقات الرفيعة والثرية، ويسمى هذا اليوم "بالذُبل". والسيدات اليوم إذا كن يردن التميز والفرادة في اللبس والمظهر فعليهن زيارة الأسواق الشعبية ليبهرن الجميع بالألوان التراثية الجميلة والزي الأنيق والتطريزات البديعة بالإضافة إلى غرابتها خاصة أن الفضة والأحجار الكريمة التي تتميز بها اليمن تضفي على وجه الفتاة اليمنية ومظهرها جمال وجاذبية أخاذة.

والشيء الملفت أيضاً في هذه الأسواق والتي قلما نجدها في الأسواق الحديثة هو ممارسة المرأة اليمنية لمهنة البيع فيها حيث يعتبر عمل المرأة وسط الزحام في هذه الأسواق شيئاً طبيعياً جداً. والنساء اللاتي يعملن في هذه الأسواق يأتي أغلبهن من الريف محملات إما بالأشجار المعطرة والتي تلاقي رواجاً هنا، أو بأنواع المأكولات والمشروبات ومنتجات الثروة الحيوانية. والمرأة كبائعة في هذه الأسواق تضفي أيضاً نوعاً من الفرادة والحيوية والتي بالمقابل تلاقي احتراماً جماً من قبل المتواجدين في هذه الأسواق.

عن/ الرياض