قناة الجزيرة .. بين رِضَى الشُّعوب وسخط السَّاسة !
بقلم/ حبيب العزي
نشر منذ: 12 سنة و 5 أشهر و 15 يوماً
الأربعاء 02 نوفمبر-تشرين الثاني 2011 03:52 م

وعين الرضى عن كل عيب كليلة * * ولكن عين السخط تبدي المساويا

فــإن تدنُ مني تــدنُ منــك مودتي * * وإن تنأ عني تلقـــني عنك نائـيـــا

تابعت – فيما أتيح لي من وقت – بعض نقاشات ومداخلات المتحدثين وضيوف قناة الجزيرة , بمناسبة مرور خمسة عشر عاماً على انطلاقتها ، كما كنت قد اطّلعتُ على العديد من المقالات والأبحاث التي تناولت الجزيرة في مناسبات مختلفة ، وخرجت من كل متابعاتي تلك بخلاصة مفادها أن جمهور قناة الجزيرة ينقسم – من وجهة نظري – إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي : جمهور الساسة , وجمهور النخبة ، والجمهور العام .. وسأحاول من خلال هذه القراءة السريعة تناول كل قسم من هذه الأقسام على حده .

القسم الأول : وهم جمهور الساسة ، ويشملون كافة القادة السياسيون والعسكريون ، وكل شاغري الوظائف السياسية داخل أنظمة الحكم المختلفة والمتحدثين باسمها ، وكذا الذين تشابكت مصالحهم معها بشكل أو بآخر ، وسواء أكانت تلك النُّظم الحاكمة غربية أو عربية ، مع فارق بسيط بين ذاك الأول وهذا الأخير، وهؤلاء جميعهم يمثلون عين السخط على الجزيرة بكل الأحوال حقاً وباطلاً ، وقد أسميتهم بـ "الجمهور" - على قلتهم - ليقيني المطلق بأن قناة الجزيرة تحتل الصدارة في قائمة القنوات المفضلة "قسراً" لديهم ، رغم عدائهم الشديد لها ، وبخاصة في عالمنا العربي ، كما يقيني أيضاً بأن جُل الأخبار والمتابعات لا يتلقونها إلاَّ عبر شاشة الجزيرة.

أما عن سبب سخطهم على الجزيرة ، فذاك أمر لا يحتاج إلى كثير من الفطنة والذكاء لفهمه وإدراكه , كيف لا وهي القناة الأولى – عربياً على الأقل – التي أعادت صياغة المشهد الإعلامي في المنطقة العربية على وجه الخصوص ، وتمردت - ببرامجها الجريئة - على تلك " التوابيت " التي لم يكن يجرؤ أحداً على الاقتراب منها قبل ظهور الجزيرة ، والتي أسهمت – بفاعلية - في تشكيل هذا الوعي وهذا النضج في عقلية الإنسان العربي ، والذي تجسد بشكل ماثل للعيان من خلال ربيع الثورات العربية .

القسم الثاني : وهم جمهور النخبة ، ويشملون كل قادة الرأي والفكر ، من سياسيين ومفكرين وأساتذة جامعات ، وكذا كل المعنيين بالمعرفة والثقافة والفنون ، كما يمثلون أيضاً رواد الصحافة والإعلام ، وكل النخب المثقفة على وجه العموم ، وهؤلاء يمكن تصنيفهم إلى فريقين :

الأول : فريق معجب بالجزيرة وبأدائها المهني والإعلامي من دون أي تحفظات ، بل ومدافع عنها وعن منهاجيتها في تغطية الأحداث في كل الجلسات وحلقات النقاش ، ويرى بأن الجزيرة شكلت نموذجاً ناجحاً ورائعاً في المنطقة العربية ، وجسدت شعارها الذي ظلت ترفعه طوال الخمس عشرة سنة الماضية "الرأي والرأي الآخر" واقعاً نراه ونلمسه كل يوم ، ولا يستطيع إنكار ذلك إلا شخص تضرر من الحقيقة بشكل أو بآخر ، وكاتب هذا المقال واحد من هذا الفريق المعجب بالجزيرة وبأدائها .

الفريق الثاني : وهو فريق معجب بالجزيرة على وجه العموم ، لكنه يملك الكثير من التحفظات حيالها ، بل ويتهمها – في كثير من الأحيان - بعدم الحياد وفقدان المصداقية ، والانحياز لجهات بعينها ، في تغطيتها للعديد من القضايا في المنطقة ، وتلك الانتقادات غالباً ما تصدر – بتقديري - من أطراف ليست على وفاق تام "تاريخياً" وأيديولوجياً مع ما يوصف بـ "تيار الإسلام السياسي" ، أو الحركات الإسلامية ، كـ جماعة الإخوان المسلمين مثلاً ، تلك الأطراف ذات التوجه "العلماني الليبرالي" ، التي كانت تتصدر المشهد السياسي في المنطقة ، وتنظر لنفسها على أنها رائدة حركة التقدم والحداثة في العالم العربي طوال حقبة الستينيات وحتى نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم ، فأتت هذه الحركات "الإسلامية" لتخطف منها الأضواء على حين غرة ، وهذا كان أمراً طبيعياً ، بل ومتسقاً تماماً مع هذا المشهد الإعلامي الجديد ، الذي صنعته قناة الجزيرة منذ نشأتها ، والذي جاء – بتقديري ومن الوهلة الأولى - لينحاز إلى "الحقيقة" وفقط "الحقيقة" ، أياً كان مصدرها ، والإسلاميون - كانوا ولايزالون - جزءاً من هذه الحقيقة التي تتعاطى معها الجزيرة ، وأنا هنا لا أدافع عن الإسلاميين ، ولكنني أحاول قراءة المشهد كما هو في الحقيقة وعلى أرض الواقع .

شخصياً .. أرى بأن هذا الفريق ، الذي يتهم الجزيرة بالانحياز وعدم الموضوعية في قضايا معينة – لا يسميها لكنه بالضرورة يعنيها ويقصدها - ، هو ذات الفريق نفسه ، الذي كان يعيش في الماضي بعقلية الإقصاء للآخر كما الأنظمة - بقصد منه أو بدون قصد ، لن أغوص في نواياه الآن ، لكن ذلك ما بدا لي على الأقل - هذا الفريق كان قد تعود على ذلك قبل ظهور الجزيرة ، فهو كان يرى في نفسه رائداً للمدنية والحداثة وقتها ، ويرى في الآخر "الإسلاميون" دعاة للرجعية والتخلف والظلامية ، وكان من حسن حظه آنذاك أن المناخات السياسية كانت تصب في صالحه ، في ظل الأنظمة العربية "الانقلابية" حينها ، والتي تزامنت مع تلك الحقبة منذ مطلع الستينيات وحتى نهاية الثمانينيات تقريباً ، وتلاقت مع هذا الفريق في السخط والنقمة و"الإقصاء" ، بل وحتى الحقد والكراهية لهذا "الإسلامي" ، الذي ما عرف الوقوف يوماً أمام عدسات الكاميرات ، ولا كان يحلم بالظهور على الشاشات ليعبر عن رأيه بكل حرية ، إلاَ يوم أن ظهرت قناة الجزيرة .

القسم الثالث "من جمهور الجزيرة " وهو الأهم : إنه الجمهور العام ، البسطاء من خلق الله في كل أرض الله ، المظلومين والمقهورين والمسحوقين ، الباحثين عن العيش الآدمي الكريم ، السائرين على الصراط المستقيم ، الذين لا يفقهون كثيراً في السياسة وألاعيبها ، ولا في دنس الحُكّام ونذالتهم ، وهؤلاء – بتقديري - هم جمهور الجزيرة الحقيقيون ، إنهم الجمهور الأكبر عرضاً وطولاً ، والأعظم شرقاً وغرباً ، وهم الذين كانت "الحقيقة" - أو "الجزيرة" لا فرق – طوال خمسة عشر عاماً ، هي سندهم الأقوى في استعادة وعيهم بحقوقهم المغتصبة أولاً ، وفي الانتصار لثوراتهم ضد الظلم والطغيان ونُظُم الإقطاع في عالمنا العربي على وجه الخصوص ثانياً .

ومن كل ما سبق يمكننا الخروج بالخلاصة التالية :

ساسة الغرب ساخطون – ولازالوا - على الجزيرة بسبب تغطيتها لملف أسامة بن لادن والحرب على ما يسمى بالقاعدة والإرهاب ، وساسة العُرب ساخطون عليها ، بسبب حجم الرضى والقبول لها عند المشاهد العربي من المحيط إلى الخليج ، وبعض منظري التيارات الليبرالية والعلمانية يتهمونها بالانحياز إلى طرف على حساب آخر ، وهم يعنون بذلك الانحياز الى التيارات الاسلامية على حسابهم ، لكن الصحيح والأكيد أن كل تلك القضايا هي حقائق موجودة على الأرض ، والجزيرة تعاملت – ولازالت تتعامل - معها على هذا الأساس ، بمهنية عالية ، وبنمط إعلامي فريد ، قرر الانحياز إلى الحقيقة والحقيقة فحسب أياً كان مصدرها ، والإشكالية الحقيقية مع هؤلاء أن تلك الحقائق التي تبرزها الجزيرة لمشاهديها ، لا تتوافق وأجنداتهم ولا شيء أكثر من ذلك ، وهذا هو الشيء الجديد الذي ميز الجزيرة عن غيرها من وسائل الإعلام المختلفة ، بما فيها الشبكات الإعلامية العالمية الكبرى كالـ CNN والـ BBC والتي اتضح للمشاهد العربي مؤخراً بأن مهنيتها - التي كانت تتباهى بها طوال العقود الماضية - هي مهنية منقوصة ، وأنها كانت تعمل لحساب أجندات بلدانها على حساب القضايا العربية وبخاصة في ملف الصراع العربي مع الكيان الصهيوني .

وبالمحصلة .. فإن كل طرف تضرر من نقل الحقيقة للمشاهد كماهي ، هو من يصب جام غضبه اليوم على قناة الجزيرة ، ويكيل لها الاتهامات يمنة ويسرة .

وعين الرضى عن كل عيب كليلة * * ولكن عين السخط تبدي المساويا

* كاتب – ومستشار للتحرير بمجلة المرأة والتنمية

الصادرة عن الاتحاد النسائي العربي واتحاد نساء اليمن