الوردة تصنع الثورة
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 13 سنة و أسبوع و يوم واحد
السبت 19 مارس - آذار 2011 07:38 م

1-في رثاء الوردة

الكلمات تتفلت من بين الشفاه، الأقلام فيها الرجفة التي انتابت قلم "الرندي" وهو يرثي الأندلس بأكملها، فيها عين الرعب الذي أصاب ريشة الذين وقفوا على حريق روما فارتعشت أفئدتهم وريشاتهم. ترى هل عادت جحافل 1948 لتغتال صنعاء؟ وهل ما حدث يعد بروفة أولية للاستعداد ليوم النفير؟ وما هي الرسائل التي أراد الرصاص المنسكب نقلها إلى اليمنيين يوم الجمعة الحزينة؟ لا مزاج لي اليوم في طرح الأسئلة، ولا أرغب في استكناه الكلمات، يبدو أن علينا أن نخرس ليظل الرصاص وحده هو المتكلم، أو ليبقى هو اللغة التي أراد نيرون أيصال رسائله إلى روما عن طريقها.

الذين ذبحوا أمس الورود التي لم يكن لها سلاح غير الندا والعبير، ينبغي محاكمتهم أخلاقياً قبل أن يحاكموا قضائياً لينالوا جزاءهم. لست قاضياً لأصدر حكماً، ولكنني متأكد أن اليد التي امتدت إلى أكثر من خمسين وردة من بستان جامعة صنعاء هي عين اليد التي امتدت إلى وردة يمنية سقطت مضرجة بدمائها أمام أعين الناس في "برط" ذات يوم. الذين قتلوا الزبيري هم الذين جاؤا بالأمس إلى الجامعة وخطفوا حياة الياسمين. من يصدق أن يداً يمكن أن تغتال الأحلام التي لا تزال في بطون الجفون؟ من يصدق أن القسوة يمكن أن تصل إلى حد رش النار على مهرجان الورود؟ لا ينبغي السكوت على الذين أمروا والذين نفذوا عملية اغتيال أحلامنا بعد صلاة جمعة الأحزان، هؤلاء ينتمون إلى قبائل التتار التي خرجت ذات يوم من أدغال التاريخ لتشق طريقها نحو صفحاته السوداء.

شعرت بالخزي وأنا أشق طريقي في عاصمة الضباب يوم الثامن عشر من آذار 2011 عندما اتصلت بي "جانيت" ،المرأة اليهودية التي رفضت منحها جوازاً إسرائيلياً قائلة للإسرائيليين : "أنا بريطانية ولا يحق لي أن آخذ مسكناً يعود لفلسطيني طردتموه من بيته"، شعرت بالخزي عندما قالت لي بالتلفون: "كنت أعتقد أن القوات الإسرائيلية هي وحدها القادرة على القيام بمثل هذه الأعمال". لم أستطع الحديث، قلت باقتضاب: "الجريمة لا دين لها". ثم اعتذرت بأنني في مزاج لا أستطيع معه مواصلة الحديث: "آسف جانيت، سنكمل الحديث في وقت لاحق".

2-الوردة تتنتصر

إن كان من أمل في فرحة نسترقها تحت هدير "كورال الرصاص" الذي تم اخراجه على المسرح المجنون أمس، فهو في الثقافة الجديدة التي تشربها اليمنيون سريعاً هذه الأيام. تلك الروح الجديدة التي تلبست اليمنيين في ساحات الاعتصام، الروح التي قلبت كل قواعد اللعب هناك، روح "مواجهة الرصاص بالورد"، المواجهة بالصدور العارية، روح اللاعنف التي بدأ الناس يؤمنون بها؟ رجال القبائل دخلوا ساحة التغيير في صنعاء بدون سلاحهم، الرجال المسلحون يتصدون للرصاص بصدورهم، الرجال الذين تعلموا أنه من العار أن لا تحمل السلاح بدأوا يدركون أن السلاح ليس وسيلة الحسم، هم يعرفون الآن أن الثورة ليس بالضرورة أن تكون مسلحة خاصة وأن كل ثوراتنا المسلحة انتهت إلى ثورات مسلحة مضادة.

القيادة اليوم للشباب الذي امتزج من كل المحافظات واللهجات والقبائل، شباب عابر للمذاهب والطوائف ، نفض عنه غبار الولاءات الضيقة، وانطلق يثور على التقاليد الثقافية السائدة، والأطر الحزبية المتكلسة. سينتصر هؤلاء الشباب لأنهم اجترحوا وسائل غير تقليدية في مواجهة وسائل القمع التقليدية التي لا تجدي في هذه المواجهة المفتوحة. إنه صراع الوردة في مواجهة الرصاصة إن جاز التعبير، الوردة التي تجترح المعجزات هذه الأيام، تتقدم مضرجة بدمائها في وجه الرصاصة الطائشة التي يبدو أنها أصبحت تدرك أنه لا قبل لها بمهرجان الورود الذي يهزم جحافل الرصاص بالرائحة الفواحة.

ثقافة الناس في اليمن تتغير وهذا هو المهم، ليس المهم في رأيي تغيير النظام على أهميته، أهم من ذلك أن الناس أصبح لديهم ثقافة التغيير، ثقافة الخروج السلمي ، ثقافة الوقوف بمسؤولية للمطالبة بالحقوق. الناس في اليمن يغيرون ثقافتهم وهذا أهم من تغيير أنظمتهم، لأن تغيير الثقافة هو الوسيلة الوحيدة لتغيير الأنظمة كلما خرجت عن المسار الذي فوضها الشعب للسير فيه، ولأن تغيير الأنظمة بالقوة يعني صنع أنظمة جديدة بالقوة ستفرز بعد مدة عوامل ذهابها بالقوة أيضاً، ولأن العنف يولد العنف والثورة تلد الثورة في سلسلة لا نهاية لها. وحدها الأنظمة التي تذهب بالثورة السلمية لا تعود، وحدها الأنظمة التي تأتي بثورة سلمية تدوم ما دام المسالمون حراسها.

الروح الجديدة التي تشربها الجسد اليمني جرفت في طريقها "الثقافة المتكلسة" الثقافة التي صبت مزيداً من الكلس في شرايين الحياة السياسية في اليمن، جرفت تلك الروح الكوليسترول الذي يسد شرايين الجسد السياسي الذي تحول في اليمن إلى جثة هامدة منذ أمد بعيد. الأحزاب التقليدية أثبتت أنها لم تعد تستوعب تطلعات جماهير الشعب، الأدمغة السياسية في اليمن تفكر على الطريقة الميكيافيللية بينما يفكر الشباب على طريقة نيلسون مانديلا والمهاتما غاندي، ولماذا أذهب بعيداً إن الشباب يفكرون على طريقة أبي الأحرار محمد محمود الزبيري الذي قوض بقلمه الجبار مملكة الظلام.

الشباب في ساحة التغيير يعلموننا دروساً في التضحية من دون زعيق، الشباب يصنعون الحدث الأجمل، الحدث الأليق بنا كأمة عريقة صنعت واحدة من أعظم حضارات الشرق القديم كما قال "تم سميث"، ذلك العاشق البريطاني الغريب الذي رأى اليمن فخطفت عليه أبصاره فعلق عليها كاميراه ونقل لنا أجمل الصور من البلاد التي خرج منها العرب والبخور والحكايات القديمة.

الروح الجديدة التي نتحدث عنها هي الروح التي أوجدت للمرأة اليمنية اليوم دوراً ناصعاً في الساحات، المرأة اليوم تشارك في صنع الحدث، توكل كرمان تقود الآلاف في التظاهرات دون أن تشعر "الشوارب الطويلة" بالحرج من موروث تقليدي. إنها ساحة الاعتصام التي تذوب فيها الفوارق أمام الفعل الثوري العظيم.

اليوم فقط "كلنا يمنيون"، كلنا ننتمي لهذا الوطن الجميل المعلق بين شرفات السحاب وموائد السفوح، وطناً من نجوم وأقمار وأشعار، اليوم نشعر أننا نسترد الروح، نشعر بـ"عودة الوعي" من جديد. إن أصحاب الكهف يخرجون اليوم إلى الحياة في آية واضحة للناس لا ينكرها إلا المعاندون، خرج أصحاب الكهف اليوم، ولا يهم كم لبثوا في كهفهم، ولا يهم كم عددهم، المهم أنهم خرجوا وجاسوا خلال الشوارع والأسواق.

"كلنا يمنيون" اليوم ، سقطت كل المشاريع الصغيرة في رحاب المشروع الوطني الكبير، كلنا اليوم ننتمي لذات الألم والشجن والمعاناة والأحلام. هل أقول كلنا اليوم ننتمي لذات الحب الذي صهر المناطق والمذاهب واللهجات والشمال والجنوب و"المطلع والمنزل" في باقة من الورد الذي تضرج يوم أمس بالدماء، تلك الباقة التي حوت وردة من كل بستان على هذه الارض الطيبة.

هنيئاً للورود وصولها إلى ضفاف السماء يوم أمس.

هنيئاً للطيور انتهاء رحلتها إلى الله.

عزاؤكم عظيم يا أهل اليمن

ولا نامت أعين الجبناء

3-باقة شعر:

دنا الخلاص وفجر المدلجين دنا

ها نحن نطرد عن أرواحنا الوسنا

لم يبق للحرف إلا قيدُ همهمةٍ

راحتْ تــُوقــَّعُ في أرواحنا وطنا

لما تهاوى على إيقاعهم يمنٌ

قمنا لنطلع من ألحاننا يمنا.