رئيس مصري منزوع الدسم
بقلم/ عبد الباري عطوان
نشر منذ: 11 سنة و 9 أشهر و 7 أيام
الثلاثاء 19 يونيو-حزيران 2012 06:39 م

تثبت قرارات المجلس العسكري وممارساته يوما بعد يوم انه عندما تدخل لاجبار الرئيس حسني مبارك على التنحي لم يكن ينتصر للثورة، مثلما اعتقد الكثيرون، وانا واحد منهم، وانما للاستيلاء على الحكم في انقلاب ابيض كان مدروسا بعناية فائقة، وفق سيناريوهات تعتمد التدرج لاجهاض الثورة وابقاء مصر في بيت الطاعة الامريكي.

التوريث الذي كان يعارضه مختلف المصريين تحقق، ولكن ليس من خلال الرئيس مبارك لابنه المكروه جمال، وانما الى المؤسسة العسكرية، بمعنى ان السلطة عادت الى العسكر ولكن بطريقة مكشوفة علنية، وليس بصورة غير مباشرة مثلما كان الحال في عهد الرئيس مبارك.

الاعلان الدستوري المكمل الذي اصدره المجلس العسكري على عجل عشية الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة، وبعد يوم واحد من حل البرلمان، وابطال قانون العزل، هو تقويض واضح للانتخابات، ووأد للعملية الديمقراطية، واجهاض للثورة المصرية.

العسكر، وبالتنسيق مع واشنطن، خطفوا الثورة المصرية للحفاظ على مصالح امريكا في المنطقة العربية، في هذا الظرف الحساس الذي تستعد فيه لخوض حرب ضد ايران، ويتعاظم فيه القلق الوجودي الاسرائيلي من جراء الثورات العربية.

صحيح ان الدكتور محمد مرسي مرشح حركة الاخوان فاز في الانتخابات الرئاسية، واصبح رئيســـا لمصر من الناحية النظرية، ولكنه سيكون رئيسا منزوع الدسم، وفاقد الحيلة والمقدرة، معزولا في مكتبه، بلا صلاحيات حقيقية، رغم كونه يتربع على السلطة التنفيذية، بينما السلطة التشريعية في يد العسكر،خصومه الحقيقيين، ومن هنا فإن افضل ما يمكن ان ينتهي اليه، هذا اذا استمر في منصبه، هو منصب شرفي محصورة سلطاته ووظائفه في استقبال وتوديع ضيوف مصر من الملوك والرؤساء والتقاط الصور التذكارية معهم.

' ' '

بمقتضى الاعلان الدستوري لن يكون بمقدور الرئيس اعلان الحرب دون الرجوع الى المجلس العسكري، والحصول على موافقته، وموافقة البرلمان ايضا. ولن يستطيع الاعتراض على صلاحيات العسكر في اعتقال ومحاكمة مدنيين امام محاكم عسكرية، تحت عنوان الحفاظ على الأمن.

هل يعقل ان يملك الرئيس حسني مبارك، ومن قبله الرئيس محمد انور السادات والرئيس جمال عبد الناصر اعلان الحرب والتمتع بكل صلاحيات الرئيس الدستورية كاملة، وهم غير منتخبين من قبل الشعب، بينما لا يملك ايا من هذه الصلاحيات رئيس منتخب من قبل الشعب في انتخابات نزيهة، وبعد ثورة شعبية هي الاعظم في تاريخ مصر الحديث؟

مشكلة الرئيس مرسي انه ليس خيارا امريكيا، ولم يحظ برضاء اسرائيل وبركاتها، وتعلم في الولايات المتحدة ودرس في افضل جامعاتها، اي انه ليس رئيسا جاهلا، ويريد استعادة الكرامة لمصر وشعبها، وإعتاقها من العبودية للولايات المتحدة، وتحرير مصر من مساعداتها العسكرية المذلة والمهينة.

مصر تبتعد تدريجيا عن الثورة، وتعود بسرعة الى تجربة تركيا ما قبل حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب اردوغان، عندما كانت المؤسسة العسكرية هي الحاكم الفعلي للبلاد، وتلجأ للانقلابات العسكرية لمنع الاسلاميين من الوصول الى السلطة عبر صناديق الاقتراع، وتجد تأييدا وتصفيقا حادا من الغرب المتحضر، الذي يغني ليل نهار مواويل الديمقراطية ومعارضة حكم العسكر.

هناك قرار امريكي واضح وصريح بمنع الاسلاميين من الوصول الى قمة الحكم، بل منع الوطنيين الشرفاء ايضا، ودعم اولئك المرتبطين بمشاريع هيمنتهم وحروبهم في المنطقة للسيطرة على النفط والغاز وتكريس الاحتلال الاسرائيلي للاراضي والمقدسات العربية والاسلامية.

نحن لسنا مع تأليه الرؤساء، واعطائهم صلاحيات مطلقة، ولكننا لسنا في الوقت نفسه مع حكم العسكر، ووضع كل السلطات في ايديهم، وتحويل مصر الى دولة عسكرية تسير في الفلك الامريكي مثل جمهوريات الموز في امريكا الجنوبية قبل بضعة عقود.

الشعب المصري اعطى الرئيس الجديد الفائز تفويضا باجتثاث الفساد وتحويل مصر الى دولة ذات سيادة، ونمر اقتصادي وقوة اقليمية عظمى، والتعاطي مع الآخرين بالندية، ولكن كيف سيحقق الرئيس مرسي كل هذه الانجازات التي هي ملخص لمطالب الثورة والثوار وهو مكبل اليدين وغير مدعوم من سلطة تشريعية قوية، وفي ظل مؤسستين امنية وعسكرية؟

' ' '

لا نعتقد ان هذا الدهاء الذي يظهره المجلس العسكري يوما بعد يوم لاجهاض الثورة، هو من عندياته، وانما هناك قوى تخطط له، بعضها داخلي ومعظمها من الخارج.

هذا المجلس استخدم اسلوب العلاج بالصدمات تمثلت في اجراءات متلاحقة وناعمة، متكئا على محكمة دستورية عيّن قضاتها الرئيس مبارك بنفسه، فوصلت مصر الى ما وصلت اليه من فوضى واضطراب وقلق، بل وفقدان ثقة البعض بالثورة.

حركة الاخوان جرى وضعها امام خيارات صعبة، فإما ان تستمر في ضبط الأعصاب، وعدم اللجوء الى العنف بعد حرمانها من انتصارها البرلماني التشريعي، وتفريغ رئيسها من كل صلاحياته الفاعلة، او اتباع النموذج الجزائري والنزول الى الشارع.

الاخوان ليسوا حركة جهادية تعتمد العنف، بل تتعرض لانتقادات شديدة من الجهاديين ابرز خصومها، بسبب منهجها السلمي الذي تبنته على مدى خمسين عاما.

ولكن هذه الضربات المتواصلة فوق رأسها ستدفعها الى العنف او تواجه الانشقاق، وهما خياران احلاهما مرّ، وربما هذا ما يريده المجلس العسكري وخبراء غرفه السوداء.

حتى تقرر حركة الاخوان خطوتها المقبلة، نطالب الرئيس الجديد ان لا يؤدي اليمين الدستورية امام مجلس عسكري انتزع صلاحياته، ولا قضاة محكمة دستورية حلوا برلمانا فازت بأغلبية مقاعده، وانما يقسم اليمين امام الشعب في ميدان التحرير، لأن هذا الشعب هو الذي اختاره، ومن ميدان التحرير يجب ان تبدأ مسيرة اصلاح الاعوجاج الاكبر الرامي الى سرقة الثورة وإجهاضها.

Twitter:@abdelbariatwan