أريد أن أفرح
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 10 سنوات و 8 أشهر و 27 يوماً
الأحد 30 يونيو-حزيران 2013 07:56 م

من دون مقدمات ولا تمهيد وبكل وضوح وصراحة أقول تعبت من الحزن والبكاء وأريد أن أفرح، أريد أن أضحك، سئمت رؤية أفلام القتل في بغداد وكابل ومقديشو وغزة وأخيراً في دمشق.

من حقي أنا المواطن العربي أن أضحك كما تضحك بقية شعوب المعمورة.

أريد أن أهرب من نفسي وقلبي وحسي وشعوري وأهرب من بغداد ودمشق.

أريد أن أهرب من كل قصائد البكاء في تاريخنا العربي ،بدءاً بقصائد البكاء على ليلى العامرية وانتهاءً بقصائد رثاء الممالك في شعرنا العربي كله. أريد أن أخرج من دوامة الأغاني الجنائزية التي تسير بها تلك الجوقة من المغنين كل يوم من الشط إلى الشط، وأخلص حتى من قصائد الحزن عند الشابي والرومانسيين العرب المعاصرين.

أريد كذلك أن أداري وجهي عن مشهد أبي عبدالله الصغير، مغادراً أسوار غرناطة بعد أن أضاع ملكاً عظيماً 'لم يحافظ عليه مثل الرجال'.

سئمت كل ذلك المهرجان من الحروب والهزائم، كما سئمت حفلات التأبين واللطم وضرب الصدور والضرب بالسلاسل على الظهور. والحق أقول أنني سئمت رؤية بواكي الحسين في كل حي وحارة في مدننا الملتفة بالسواد، وأعتقد أن الأولى لهذه الجوقة الصارخة أن تكف عن هذه المشاهد العبثية.

وبكل صراحة أقول آن لي أن أعلن براءتي من دماء ضحايا التاريخ لأنني ما أرقتها، آن لي أن ألقي عن وجهي آثار اللطم وأن أرمي اللون الأسود في وجه تاريخ من البكاء والحداد.

أريد أن أخرج من ركام الدموع والدماء في تاريخنا الذي تأرجحت على مقاصله رؤوسٌ كثيرة، بدءاً برأس الحسين في كربلاء ومروراً برأس ابن الزبير في مكة، وانتهاءً برأس صدام حسين في بغداد، وجثة القذافي الملقاة على قارعة الفجيعة.

يا إلهي هذه أرض لا يكفيها الماء، لا ترتوي إلا بالرؤوس المتدلية، فما لي أنا وهذه المدن التي قتلت الحسين والتفت بالسواد حزناً عليه.

أريد أن أفرح، وبما أنني لم أكن أحد الجناة في تاريخنا ، وأقسم أنني لم أدبِّر مؤامرةً لاغتيال الملك كليب، ولا أعرف تفاصيل ما جرى للبسوس، ولا أمُتُّ بصلة من قريب أو بعيد لأيٍّ من الخوارج، بما أنني لم أرتكب جناية واحدة في هذا التاريخ، فإنني أرفض أن أتحمل أية مسؤولية تاريخية تجاه ضحاياه، وبكل صراحة مرة أخرى، ليس من حق ضحايا الماضي أن أعطِّل حاضري بكاءً عليهم.

أريد أن أفرح لأنني أخرج في الصباح من بيتي في هذه المدينة الباسمة في إنكلترا فأرى الناس يبتسمون والطيور تبتهج بقدوم الصباح.

يدهشني وجهُ ماري ذات الثمانين يفتر ثغرُها عن بسمة حلوة مع أن الثغر قد ودَّع آخرَ أسنانه قبل عامين، استحي من دقة ملاحظتها عندما تمازحني بسخرية تجعلني أشعر بالألم والخجل وهي تقول: صباح الخير سيدي رتشارد قلب الأسد، كيف حالك اليوم يا أبا الهول؟

أه يا ماري ليت لي وأنا العربي الشاب بسمة في حلاوة بسمتك الثمانينية الدرداء.

أه لو تعرفين أن الحجاج لا يزال يطاردني هنا في شوارع هذه المدينة، بعد أن تركت له العراق كله، وأنه سيحاسبني إذا لاحت على شفتيَّ بوادرُ مشروع بسمة قادمة.

لذلك أريد أن أفرح ولا أريد بعد اليوم أن أقرأ لكتاب الأعمدة في صحفنا العربية، لأنني أرى الإنكليز يتسابقون على قراءة صحف الصباح ويخرجون مبتسمين. كم هم محظوظون بكتاب الأعمدة في صحفهم إذن!

لا أريد أن أقرأ المزيد عن نكبة فلسطين ونكبة بغداد اللتين نـُكبتا بأهلهما قبل نكبتهما على أيدي الأعداء، سئمت مناظر غيد دمشق وقد راعهن المغول الجدد.

كفاني قراءةً عن أزمة دارفور وأزمة كركوك وأزمة تشكيل الحكومة في لبنان وأزمة الملف النووي الإيراني، والأزمة السورية، وطائفية حرب الله، كما أنه لم يعد لدي الوقت لمتابعة أزمة الشعر العربي والعقل العربي والفكر العربي.

سئمت أزمات يا ناس والله سئمت، وأريد أن أفرح وأنفض عني غبار القرون، وأخرج جديداً باسماً كقطرات الندى في حديقة جيراني الذين سألتهم يوماً عن نكبة حلب وحمص فسألوني: وأين توجد حلب وماذا جرى لحمص؟

أه يا حلب، ويا حمص! ويا أكثر من عشرين دولة تمتد من الماء إلى الماء على ضفاف الجغرافيا، ولكنها مجرد أوهام في ذاكرة التاريخ.

وأعود لأقول بما أنني قد بكيت كثيراً على عثمان والحسين، وبكيت على المتنبي وقبله على طرفة بن العبد، كما بكيت كثيراً على الأطلال وبكيت من الحكام وبكيت عليهم فهل عارٌ عليَّ إذا حاولت أن أهرب من ماضيَّ وحاضري؟ أن أهرب من حقائق الجغرافيا ووقائع التاريخ، وأبحث عن بلاد أخرى وشعوب أخرى، وجغرافيا ليس فيها حدود، وتاريخ ليس فيه بكاء على الظاعنين من بني عذرة ولا وقوف على أطلال ليلى العامرية؟

أقسم لكم أيها القاطنون في تلك الخيمة الممتدة من شاطئ الخليج العربي إلى شاطئ المحيط الأطلسي أنني عربي الوجه واليد واللسان والقلب والأحزان وأنني أحب أهلي حد الموت. ولكنني لا ألام إذا صرخت في وجه فرسان قبيلتي الذين أخرجوني من مضارب بني عامر لا لشيء إلا لأنني أحببت ليلى، أولئك الذين أخرجوني من مضاربهم حفاظاً على شرف قبيلة لم يسلم من الأذى رغم أنهار الدماء المسكوبة.

أعذروني يا قاطني تلك الخيمة إذا قسَتْ لغتي وتبعثرتْ حروفي ولم تعد تتبع تعاليم سيبويه والخليل بن أحمد.

أليس لي الحق يا سكان تلك الخيمة في أن أمسح عن شاشة روحي كل تلك الصور الفجائعية والمشاهد الجنائزية التي يضخها على قلبي كل يوم ذلك العدد الهائل من الشاشات الفضية والأطباق الفضائية؟ أليس من حقي يا أهل المضارب أن أغلق كل الشاشات وأرتاح من رؤية مذيعي نشرات الأخبار في كل الفضائيات، وأن أتخلص إلى الأبد من رؤية المذيعات اللاتي، رغم أناقتهن المفرطة، فإنهن يذكرنني بالنائحات منكوشات الشعر اللاتي اجتمعن ذات يوم يبكين قتلى معركة بُعاث الأولى وبُعاث الثانية في ساحات يثرب؟

ليتكم يا سكان الخيمة الضاربة أطنابها في أرض الفجيعة، ليتكم ترون أهل هذه المدينة التي مضى على أهلها سنواتٌ طويلة دون أن تحوم فوقهم طائرة حربية أو يسمعوا دوياً لمدفع رشاش.

ليتكم أيها الواقفون على الأطلال تكفون ولو ساعة عن البكاء على هضبات وادي الغضا، لتروا كيف تعُج الحدائق العامة هنا بآلاف المبتسمين!

ليتكم تخلعون عنكم ملابس العزاء ، ليتكم ترجمون هذه العمائم السوداء والبيضاء بالورود، علَّها تعرف طريقاً إلى بسمة جميلة ربما تضيء في أرجاء هذا الفضاء المشحون بصرخات الباكين على الحسين،الحاملين دماءه على أسنة الرماح من أجل الوصول إلى بغداد.

مشاهدة المزيد