إيران.. صورتان
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 11 سنة و شهر و 10 أيام
الخميس 14 فبراير-شباط 2013 06:44 م

يوم 23 يناير (كانون الثاني) الماضي أوقفت قوات حرس الحدود اليمنية سفينة قادمة من إيران مشحونة بأخطر شحنات الأسلحة المهربة إلى اليمن، التي تم الإعلان عن ضبطها حتى الآن، الأمر الذي حدا بوزير الدفاع الأميركي إلى التصريح بأنها من المرات الأولى التي يشهد فيها تهريب هذا النوع من الصواريخ التي يمكن أن تسقط طائرات حربية ومدنية. وتحدث مسؤولون أميركيون ويمنيون عن أن وجهة هذه الأسلحة هي المتمردون الحوثيون في شمال البلاد. سلمت قوة من الحرس الثوري الإيراني السفينة إلى ثمانية من البحارة اليمنيين الذين سلكوا بالسفينة اتجاهات مختلفة، وموهوا وجهتها ومنطلقها أكثر من مرة، وبنيت مستودعات محكمة في قاع السفينة خصيصا لنقل الشحنة المهربة حتى لا يشتبه بها أحد؛ حسب الجانب اليمني. مجلس الأمن بدوره أرسل وفدا لمعاينة شحنة الأسلحة لرفع تقرير للجنة مراقبة الحظر على تصدير إيران أو شرائها أسلحة، وتحدث اليمنيون عن وجود خبراء من حزب الله لتدريب الحوثيين على كيفية استعمال وإعادة تجميع بعض الأسلحة المهربة، خاصة المتفجرات. الأمر إذن خطير من وجهة النظر الأميركية، وهو كذلك في حسابات مجلس الأمن الدولي، كما هو الشأن على جانب جبهة إيران وحلفائها. وعلى الرغم من أن الأمر واضح بشكل يصعب إنكاره، فإن الإيرانيين، كدأبهم، نفوا مطلقا حدوث شيء من ذلك، وأكدوا حرصهم الشديد على سيادة وأمن اليمن في تناقض عجيب بين الأقوال والأفعال.

ومن شواهد التناقضات الإيرانية كذلك أن إيران تقول لليمنيين إنها تحترم الوحدة اليمنية، وإنها تساند يمنا موحدا، ومن حيث الواقع، تعمل إيران على تقسيم اليمن جغرافيا بدعمها بقوة للفريق المطالب بفصل الجنوب عن الشمال في الحراك الجنوبي، الذي هيأت لقياداته في بيروت برعاية وتنسيق من حليفها حسن نصر الله، ثم إن طهران تعمل كذلك على تقسيم اليمن مذهبيا كما هو الحاصل اليوم مع الجهود الحثيثة التي يقوم بها أتباعها في اليمن من أجل توسعة الشرخ المذهبي الذي أحدثته إيران بربط الشيعة الزيدية بأفكار مذهب ولاية الفقيه، مع أن الزيدية في أصولها المعتزلية وفقهها الحنفي أقرب إلى المحتوى الفقهي والفكري السني منها إلى الإمامية في حلتها الإيرانية.

مشكلة إيران أنها لا تزال تتعامل مع ملفات المنطقة بالعقلية التي سادت منذ عام 1979 وخفت قليلا إبان حكم الإصلاحيين في طهران، ومشكلتها أيضا أنها لم تدرك حجم التغير الكبير الذي طرأ على المنطقة سياسيا وأمنيا وثقافيا وإعلاميا، ولم ترصد مياها كثيرة صبت في النهر. السياسة الإيرانية اليوم أصبحت مفضوحة بشكل لم تعد تجدي معه تصريحات لسفير إيران في صنعاء ينفي فيها وجود الشمس في رابعة النهار، أو تصريحات ناطق الخارجية الإيرانية الذي أصبحت كلمة «النفي» ومشتقاتها لازمة من لوازم حديثه، وكأنه مصاب بما يسمى في علم النفس بـ«حالة إنكار». فإيران عند هذا الناطق لا تتدخل في اليمن رغم اعترافات جواسيسه ومهربي أسلحته، وبلاده لا تتدخل في العراق ولبنان رغم أن قاسم سليماني صرح أن العراق وجنوب لبنان تحت سيطرته، والشأن ذاته في الملف السوري؛ حيث لا تتدخل طهران إطلاقا فيه رغم شحنات الأسلحة للنظام في دمشق، عدا الدعم السياسي والاقتصادي الكبير الذي يتلقاه نظام الأسد من إيران، وتنسحب «حالة الإنكار» تلك على موضوع البرنامج النووي الإيراني الذي ينفي الإيرانيون أن يكون للاستخدام العسكري مع أنهم يخبئونه تحت الأرض، وأنشأوه سرا قبل أن يظهر للعلن.

يحكى أن رجلا جاءه جاره يستعير منه حمارا لحاجته إليه، فقال صاحب الحمار: «الحمار غير موجود»، فاقتنع جاره وهمّ بالخروج، وحينها رفع الحمار صوته بالنهيق، فقال الجار: أليس هذا صوت الحمار؟ فرد عليه صاحب الحمار: أتكذبني وتصدق الحمار! فما كان من الجار إلا أن خرج محملا بالخيبة والدهشة التي تنتاب اليمنيين عندما يسمعون نفي إيران لسفن الأسلحة المهربة إلى بلادهم.

وعلى ذكر الحمار، فقد أعلنت إيران قبل أسبوعين أنها تمكنت من إرسال قرد إلى الفضاء، محاكية فعل الروس الذين أرسلوا كلبة إلى الفضاء من قبل، ونشرت وسائل إعلام طهران عددا من الصور للقرد الذي قالت إنه ذهب إلى الفضاء على ارتفاع 120 كيلومترا قبل أن يعود سالما معافى، غير أن خبراء صرحوا في ما بعد أن صورة القرد الذي قالت إيران إنها أرسلته مختلفة عن الصورة التي نشرتها وسائل إعلامها للقرد الذي عاد من الفضاء، الأمر الذي دفع إيران إلى الاعتراف بصحة الأمر غير أنها أصرت على مسألة إرسال القرد إلى الفضاء وغضت الطرف عن عودته سالما، وقد تحدثت صحيفة الـ«إندبندنت» البريطانية عن الضجة الإعلامية التي افتعلتها وسائل الإعلام الإيرانية حول القرد الفضائي و«الخرق التكنولوجي العظيم» في مجال الأبحاث الفضائية، الأمر الذي ذكرت الـ«إندبندنت» أنه مجرد دعاية سياسية ترمي إلى الترويج للتقدم العلمي الإيراني على الرغم من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل الغرب.

ومما يندرج ضمن حكاية «أتكذبني وتصدق الحمار؟» تلك المتاجرة المكشوفة بالدين والمظلومية التاريخية للشيعة، إلى المتاجرة بمصطلحات مثل «المقاومة» و«الممانعة»، إلى مواجهة قوى الاستكبار والصهيونية ولعنها والصراخ بموتها، إلى الوحدة الإسلامية، والشرق الأوسط الإسلامي.. وغير تلك من المبادئ والشعارات التي تتحطم جميعها على محك الممارسات الإيرانية التي لا تعرف إلا نشر الفوضى والفتن الطائفية لإضعاف دول المنطقة وتسهيل ضمها تحت الجناح الإيراني.

«الإيرانيون يكذبون»، ولعل هذه هي الحقيقة الوحيدة التي يمكن الجزم بها في سيل من التمويه والفوضى الإعلامية والسياسية المتعلقة بالشأن الإيراني. ولعل إصرار إيران على نفي ما يكاد يكون الإجماع قائما على إثباته، سياسة إيرانية، تماما كسياسة «صاحب الحمار»؛ إذ تتوخى إيران نشر جو من البلبلة والفوضى الإعلامية التي تؤثر، حسب راسم السياسة الإيرانية، على المزاج السياسي والإعلامي في المنطقة، لشغل العالم من خلال البالونات الإعلامية التي تطيرها في الفضاء عما لا تريد التحدث عنه إعلاميا؛ أعني برنامجها النووي، وجهودها التخريبية الكبيرة المتمثلة في شبكات كبيرة من تهريب النفط والسلاح وتبييض الأموال، عدا تعاملها مع عدد من الشبكات العالمية المرتبطة بأعمال تجسس واغتيالات حول العالم.

نحن إذن إزاء «إيرانيْن»؛ إيران التي يظهر فيها المرشد الروحي خامنئي بعباءة التشيع السياسي وبلون الكوفية الفلسطينية لكسب ود الشيعة حول العالم، وكسب ود السنة الذين يرغبون في أن يروا فلسطين محررة، وهذا الوجه أو هذه الـ«إيران» هي إيران الشعارات التي يتوخى راسم السياسة في طهران من ورائها تمويه الحقائق على الجماهير في منطقة لا تزال مفتونة بالشعارات. وهناك إيران الوجه الآخر الذي يعبر عنه اللواء قاسم سليماني الذي يجسد شبكة من العمليات التخريبية والتجسسية والإرهابية، كما يجسد الطموح القومي، والحنين الإمبراطوري «الفارسي» لدى إيران «الإسلامية»، وهذا الوجه لا يظهر في الإعلام رغم أنه هو الوجه الأقرب إلى تمثيل حقيقة السياسات الإيرانية، وما ظهور الوجه الأول إلا لأجل أن يغطي حقيقة الوجه الثاني، ثم يترك من يشاهد الوجهين في حيرة بالغة، وفوضى حسية وفكرية وتشوش ذهني؛ وهو عين ما يتوخاه المنتج المتمرس من وراء إنتاج الصورتين أو الوجهين. غير أن النظر بتمعن في الوجهين ينفي وجود أية فروق جوهرية بينهما، فهما مجرد وجهين لصورة واحدة، يسعى كل منهما إلى غاية وظيفية محددة، فإذا كانت وظيفة الوجه الثاني أن يمارس الفعل غير المقبول، وأحيانا غير الأخلاقي، فإن وظيفة الوجه الأول هو الظهور بهدوء ورزانة وملامح لا تخلو من بسمة خفيفة ومسحة «ملائكية» لإنكار ما قام به الوجه الثاني، أو لمسح آثاره على الأقل. في الإطار إذن وجهان لكل منهما وظيفته التي وضعها منتج «الصورة الإيرانية» الذي أراد لها أن تكون مشوشة وملتبسة حتى يلتهي الناظر إليها بمتابعة الفروق السطحية ويتوه بين صورتين لقردين مختلفين زعمت إيران أن الأولى صورة قرد راد الفضاء، وأن الثانية صورته عندما عاد إلى الأرض.