وثائق "ويكيليكس".. هل نُهبتْ أم سُرِّبت؟!
بقلم/ عبد الرزاق الجمل
نشر منذ: 13 سنة و شهرين و 3 أيام
السبت 22 يناير-كانون الثاني 2011 08:35 م

أعادت الثورة الشعبية التونسية على نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وثائق ويكيليكس إلى الواجهة، بعد أن ربطت بعض وسائل الإعلام بين ما نشرته تلك الوثائق وبين الغضب الشعبي الذي انتهى بثورة أسقطت، في أقل من شهر، نظام حكمٍ عتيدا امتد لأكثر من عشرين سنة..

غير أن الربط بين الثورة والوثائق سار في اتجاهين، الأول يعلل الثورة بالغضب العفوي مما جاء في وثائق "ويكيليكس" دون تخطيط مسبق من قبل جهات خارجية، والثاني يتحدث عن نية أمريكية للإطاحة بنظام بن علي أفصحت عنها مضامين تلك الوثائق، وعلى الثاني تكون الولايات المتحدة قد استغلت الغضب الشعبي لتحقيق الهدف المنشود، إن لم نقل بأنها كانت وراء التسريب حتى تصل إلى مثل هذه النتائج في تونس وغيرها، من وجهة نظر بعض المحللين، كما سيأتي..

الجدير بالذكر أن مثل هذه التوقعات والتحليلات لوثائق "ويكيليكس" جاءت بعد سقوط نظام بن علي لا بعد نشر تلك الوثائق، ما يعني أن الربط بين الرغبة أو النظرة الأمريكية وبين ما تحقق، قد لا يبدو منطقيا، لأن نظرة الولايات المتحدة الأمريكية لكثير من الأنظمة في المنطقة لا تختلف عن نظرتها لنظام الرئيس بن علي، إلا إذا كان الأخير هو أول من سيغادرون كرسي الحكم..

وكانت صحيفة "الديلي ميل" البريطانية قد وصفت ما حدث في تونس بأنه "أول ثورة تحدث بفعل التسريبات الأخيرة لموقع "ويكيليكس" لبرقيات دبلوماسية أمريكية"..

وقالت صحيفة "نيويورك تايمز"، إن ثروات عائلة الرئيس التونسي زين العابدين بن على تثير الغضب في أوساط التونسيين في ظل ما يعانون منه من ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، مشيرة إلى أن أقاربه وأقارب قرينته استفادوا من الثروة التي حققها طوال سنوات حكمه..

"وتضيف الصحيفة، بأن الثروات الجديدة التي تم الكشف عنها في برقية تفصيلية أرسلها السفير الأمريكي في تونس على وزارة الخارجية في واشنطن وتم نشرها على موقع "ويكيليكس" قد أشعلت الانتفاضة غير العادية من قبل التونسيين الذين يلقون بمسئولية الفساد بين النخبة على البطالة التي تدك بلادهم".

وكانت الوثائق الأمريكية المسربة قد وصفت المحيط العائلي للرئيس زين العابدين بن علي بأنه أشبه بالمافيا، كما ساقت عشرة أمثلة على إساءة استخدام أقرباء الرئيس للنفوذ، ومنها أن زوجته ليلى الطرابلسي حصلت من الدولة على أرض كمنحة مجانية لبناء مدرسة خاصة، ثم أعادت بيعها..

وقالت الوثائق إن الرئيس بن علي يتقدم في العمر وليس لديه خليفة معروف وإن نظامه "متصلب".

ورأتْ الوثائق المسربة أن "التطرف" لا يزال يشكل تهديدا لنظام بن علي، مشيرة إلى أنه في مواجهة هذه المشكلات "لا تقبل الحكومة النقد ولا النصح، سواء من الداخل أو الخارج، وعلى العكس هي تسعى إلى فرض رقابة أكثر تشددا، وغالبا ما تعتمد على الشرطة"..

ومن خلال ما جاء في الوثائق يتضح أن أغلب مشاكل بن علي متعلقة بالفساد المالي والإداري، وهي مشاكل تشاركه فيها معظم الأنظمة العربية أو جميعها، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تقلق من وجود هذا النوع من المشاكل..

يُضاف إلى هذا أن الرئيس بن علي عُرف بعدائه للإسلاميين، ومن صالح أمريكا أن يبقى في الحكم، فرحيله يعني عودة الإسلاميين بقوة، لأن القادم لن يكرر التجربة، إلا إذا خشيتْ من أن يؤدي التطرف في القمع إلى تطرف إسلامي مضاد..

غير أن المفكر التونسي د. أحميدة النيفر يؤكد "أن موقع ويكيليكس، بما كان ينشره من وثائق سرية أمريكية رسمية، قد "أصدر حكما" من واشنطن بضرورة رحيل الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي"..

وذكر النيفر أن "أن إحدى تلك الوثائق قد أشارت إلى توصية صدرت منذ نحو عامين من السفير الأمريكي في تونس بأن "أي تغيير إصلاحي حقيقي لن يحدث طالما بقي الرئيس التونسي بن علي في السلطة..ونحن بانتظار رحيله"، ما يؤشر على وجود أياد خارجية دفعت باتجاه الإطاحة ببن علي..

كما استند النيفر إلى برقية أخرى مسربة فيها إشارة إلى ما قاله السفير الأمريكي في تونس روبرت جوديك "إنه لا يتوقع أي تغيير إصلاحي في تونس طالما أن الرئيس بن علي موجود في السلطة"..

لكن الدكتور النيفر يعود ليؤكد أن الطبقة المتوسطة هي التي "حملت لواء الثورة"، وأنها "العنصر الرئيسي في الانتفاضة الشعبية وسقوط بن علي بما تحمله من خصائص تحول جديدة استمرت على مدى سنوات"..

على أن ما استند إليه المفكر التونسي، مما جاء في بعض وثائق "ويكيليكس"، لتأكيد وجود مخطط خارجي وراء اندلاع الانتفاضة الشعبية ونجاحها، لم يكن أكثر من وجهة نظر لسفير الولايات المتحدة الأمريكية في تونس، ومن المستبعد أن تحدد الحكومة الأمريكية مصير "نظام حكم" بناء على وجهة نظر سفير..

كما أن الوثائق التي قيل بأنها لعبت دورا مهما في الانتفاضة، لما كشفته من فساد داخل الأسرة الحاكمة، لم تُطلع الشعب التونسي على معلومات جديدة كان يجهلها، بل تحدثت عن امتعاضه وغضبه مما كان يعرف أصلا..

يُضاف إلى ما تقدم أن بعض الصُحف الأمريكية اتهمتْ الحكومة الأمريكية بالازدواجية في التعامل مع نظام الرئيس بن علي، حيث أشارت صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أن البرقيات المسربة عكست الازدواجية الأمريكية "ففي الوقت الذي سلطت الضوء فيه على نواحي الفساد المستشري، لاسيما من جانب أقارب بن على في أنحاء البلاد, إلا أنها كانت تشيد بنهج الرئيس زين العابدين وتعاونه مع الولايات المتحدة الأمريكية ضد الإرهاب وكذا في أسلوبه المتشدد تجاه الإسلاميين في البلاد، والإجراءات القمعية التي يتخذها ضد أفراد الشعب وسيطرته بيد من حديد على المتطرفين.

وما تحدثت عنه الصحيفة الأمريكية يؤكد ما أشرنا إليه قبل قليل بخصوص المشاكل الداخلية التي تهتم أو لا تهتم بها الولايات المتحدة الأمريكية، وكما يبدو فإنها لا تهتم بغير ما تحققه تلك الأنظمة من نجاحات أو إخفاقات في حربها على (الإرهاب)..

وثائق "ويكيليكس" تقدم النظام اليمني على النظام التونسي

يتضح مما تقدم أن الغرب تعامل مع أمر واقع فرض نفسه في تونس ربما كان خارج كل حساباته، وإن كان له من دور فسيتمثل في عدم إعطاء بن علي الضوء الأخضر لمواصلة القمع، أو في تحريض بعض القيادات على العصيان، الأمر الذي يفسر سرعة مغادرة حاكم ديكتاتور بلادا حكمه بالقبضة الحديدية لأكثر من عقدين..

وعلى فرضية صحة ما قيل عن الدور الذي أريد لوثائق "ويكيليكس" أن تلعبه في العالم العربي، فسيكون إسقاط النظام في اليمن أولوية أولى بالنسبة للإدارة الأمريكية، ولا يحول بينها وبين ذلك غير استكمال عوامل السقوط أو وجود الفرصة المناسبة..

فكما تقدم أن الحكومة الأمريكية تنظر إلى هذه الأنظمة من زاوية واحدة، وهي زاوية ما تحققه في الحرب على (الإرهاب)، ومن خلال ما تحقق تقيم تلك الأنظمة وتتعاون معها، فما هي النظرة الأمريكية للنظام اليمني في هذا الجانب؟..

معظم وثائق "ويكيليكس" المتعلقة بالشأن اليمني كانت عن "القاعدة"، وبدت فيها الولايات المتحدة الأمريكية في غاية القلق من ملف القاعدة في اليمن، إلى درجة أنها طلبت من الحكومة اليمنية تدمير ما في المخازن الرسمية من صواريخ "سام" المضادة للطائرات بعد جمعها من الأسواق حتى لا تتسرب إلى أيادي عناصر القاعدة..

كما أن الولايات المتحدة الأمريكية تُرجع تزايد نشاط التنظيم في اليمن إلى ضعف الحكومة اليمنية في حربها على القاعدة، وقد جاء في إحدى الوثائق: "من الملاحظ أن خطر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب ما يزال قائماً ضد المصالح الغربية والدولة المضيفة سواء في العاصمة صنعاء أو في جميع أرجاء اليمن على حد سواء. وأن الهجمات السابقة لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب توضح الاستعداد والقدرة على استهداف الرعايا والمنشآت الدبلوماسية الغربية، والتي برزت بواسطة الهجوم السافر ضد سفارة الولايات المتحدة الأميركية في صنعاء منتصف سبتمبر 2008. وإن الإرادة السياسية الضعيفة للبلد المضيف في مكافحة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب من شأنها أن تزود العناصر المتطرفة ببيئة عمل سهلة للغاية، مما يوحي أن متوالية التهديدات ضد المصالح الأمريكية والأجنبية الأخرى في اليمن ستتواصل في الأجلين القريب والمتوسط"..

وفي برقية أخرى عبر مستشار مساعد الرئيس أوباما لشئون الأمن الداخلي جون برينان للعاهل السعود أثناء لقائه به في 15\مارس \ 2009م عن "خوف الولايات المتحدة من أن تصبح اليمن وزيرستان أخرى، ملمحاً بأن الولايات المتحدة والسعودية بحاجة إلى العمل سوياً من أجل الحيلولة دون تنامي خطر القاعدة بشكل أكبر في اليمن"..

وبحسب الوثيقة ذاتها فقد قال العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز "بأن قرب اليمن من الصومال سيجعل الأمر أكثر خطورة".

كما أكد جون برينان نفسه لمساعد وزير الداخلية السعودي الأمير محمد بن نايف أثناء لقائه به في 5\سبتمبر\2009م بأنه "سيشدد على الرئيس صالح، بأقوى العبارات الممكنة، على أهمية مكافحة الإرهاب وحل المشاكل الخطيرة التي تواجه بلاده".. جاء هذا بعد العملية التي استهدفت الأمير محمد بن نايف والتي تم التخطيط لها في اليمن..

وما أوردناه هنا مما سربته وثائق "ويكيليكس" بخصوص تخوف الإدارة الأمريكية من ضعف الحكومة اليمنية في حربها ضد القاعدة، تؤكده تصريحات لبعض المسئولين الأمريكيين، وكان رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "سي آي إيه" ليون بانيتا قد قال في وقت سابق: "إن الحكومة اليمنية قد لا تكون صلبة بما يكفي كي تكون كما تريدها الولايات المتحدة حليفًا قويًا في حربها على تنظيم القاعدة"..

كما كان قائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال جيمس ماتيس، قد أبلغ لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي بوجود "دلائل على تراجع قدرة الرئيس اليمني على ضبط الوضع"، بعدما "كان قد أدار هذه التهديدات عن طريق المفاوضات وبتسلسل مع خصومه"..

يمكننا الآن، ومن خلال الفقرات المختارة من بعض الوثائق، أن نخلص إلى بعض الأمور التي قد تخدم فرضية "وجود رغبة أمريكية لتغيير بعض الأنظمة في المنطقة العربية" وفي مقدمتها النظام اليمني، ومع التأكيد على أنها مجرد فرضية إلا أن الفقرات المذكورة تبدو أكثر ترابطا وأكثر اتحادا مع الهدف مما ورد في الوثائق المتعلقة بتونس، وتتمثل الخلاصة في الآتي:

ـ وجود القاعدة في اليمن يشكل خطرا على الولايات المتحدة الأمريكية وعلى المملكة العربية السعودية، وبنفس القدر، فعملية الشاب السعودي عبد الله طالع العسيري استهدفت الأمير محمد بن نايف، وعملية الشاب النيجيري عمر الفاروق عبد المطلب استهدفت طائرة ركاب أمريكية، والعمليتان قدمتا من اليمن..

ـ تتفق الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية على أن وجود القاعدة في منطقة جغرافية كاليمن من شأنه أن يهدد المنطقة برمتها، إضافة إلى أنه سيصب في صالح عدوتهما الأولى (إيران)، فقرب اليمن من الصومال، والتواجد الصريح للقاعدة في هذين البلدين قد يهدد أهم منطقة إستراتيجية، كما أن إيران قد تستغل البيئة اليمنية الحاضنة لتنظيم القاعدة وتسهِّـل من عملية انتقال عناصر التنظيم من أفغانستان وباكستان إلى اليمن عبر سواحل سلطنة عمان..

ـ تشك الحكومتان الأمريكية والسعودية في كفاءة وجدية النظام اليمني في الحرب على القاعدة، ولهذا حاربت هاتان الحكومتان القاعدة في اليمن بشكل مباشر (استخباراتيا وعسكريا) بعيدا عن الحكومة اليمنية..

ـ إذا كانت الحكومتان الأمريكية والسعودية تريان أن وجود القاعدة في اليمن يشكل خطرا على مصالحهما، وعلى المنطقة، ويخدم الخصوم، وإذا كانتا تشكان في قدرة نظام صالح على وضع حد للمخاطر القادمة من اليمن، والتي تهدد مصالحهما، فستكون المصالح أهم من بقاء نظام الرئيس صالح.

وأخيرا .. حتى لو اتضح أن وثائق "ويكيليكس" لم تكن وراء ثورة تونس، وأن لا وجود لمخطط أمريكي يهدف إلى إثارة الشعوب العربية ضد أنظمتها من خلال تسريب تلك الوثائق ـ كما يبدو لي ـ فإن ما يتعلق باليمن قد يكون واردا إلى حد كبير، بويكيليكس أو بدونه.

*الشموع.