اليمن والتوظيف السياسي للحرب على الإرهاب
بقلم/ محمد عايش
نشر منذ: 14 سنة و شهر و 25 يوماً
السبت 30 يناير-كانون الثاني 2010 09:00 م

رغم كل شيء، وبغض النظر عن تطورات المواقف خلال الشهرين الأخيرين، فإن التقييم الأكثر خفة، والأكثر خطورة أيضا بين التقييمات التي ظلت لسنوات تتحكم بوعي وأداء الحكومة اليمنية تجاه ظاهرة الإرهاب هو التقييم الذي يفترض أن هذه الظاهرة ظاهرة "مصطنعة" وأن تنظيم القاعدة، مثلا، ليس غير جزء من "مؤامرة" تقف خلفها استخبارات دولية.

كان الرئيس علي عبد الله صالح أكثر مسئولي حكومته وضوحا في هذا الشأن، فهو وقف عقب العملية الإرهابية التي استهدفت موكب السياح الأسبان في محافظة مأرب، يونيو 2009، ليتحدث في خطاب متلفز عن تبعية زعيم تنظيم القاعدة بن لادن ونائبه الظواهري لـ"الاستعمار والصهيونية العالمية"، مؤكدا حجم شكوكه في الأمر بتساؤله: "كيف لم تتمكن المخابرات الدولية من القبض على هؤلاء العملاء حتى الآن؟!!".

استنادا لهذا التقييم الحكومي لقضية الإرهاب الدولي، يمكن فهم جانب من الإجابة على سؤال: لماذا لم تكن مواجهة "القاعدة"، طوال السنوات الماضية، ذات أولوية لدى الحكومة وفقا لتصريحات نشرت أخيرا لبعض مسئوليها.

إن هذا الواقع الذي يتراخى عن مواجهة المشكلة من منطلق عدم إيمانه بوجودها أصلا، سيتحول إلى واقع مستفيد، على صعد أخرى، من شراكته مع المجتمع الدولي لمواجهتها (أو مواجهة وجودها الإفتراضي وفقا لهذا التقييم).وكأن المعادلة التي استقرت في وعي (أو لاوعي) نظام الحكم في صنعاء هي أنه مادامت "الاستخبارات العالمية" تحرك خيوط "الإرهاب" لتستفيد من ورائها مصالح سياسية فلماذا لا يمكننا نحن "الاستفادة" أيضا.

هكذا، ومستفيدة من عدم وجود تحديد دولي واضح ونهائي لمفهوم "الإرهاب"؛ انطلقت الحكومة اليمنية في توظيف مشاريع الحرب على الإرهاب في اليمن ضمن أدواتها السياسية والأمنية والدعائية التي تدير بها الشأن العام للبلاد بما فيه معاركها مع الأحزاب السياسية والجماعات المطلبية والمدنية والحقوقية.

ظهر هذا التوظيف بشكل صريح في أهم المنعطفات والتحولات التي عاشتها البلاد، وواجهت السلطة فيها لحظات حرجة، طوال العقد الأول من الألفية والذي يوشك على الانتهاء.

فيما يلي تهتم هذه الورقة برصد أبرز مواضيع هذا التوظيف السياسي للحرب على الإرهاب والتي يمكن تحديدها بثلاثة أحداث مهمة وكبرى: حرب صعدة التي اندلعت العام 2004، والانتخابات الرئاسية والمحلية في 2006، والحراك الجنوبي الذي بدأ بالتصاعد عام 2006 أيضا.

 حرب صعدة

منتصف العام 2004 اندلعت الحرب الحكومية مع جماعة الحوثي في محافظة صعدة. ورغم أن طبيعة هذا الصراع كانت، في النهاية ورغم كل الالتباسات المثارة حولها؛ واضحة لجهة أنها جزء من صراعات الحكم مع جماعات ناشئة قد تشكل خطرا سياسيا عليه ولو على المدى البعيد؛ إلا أن الحكومة بذلت جهدا كبيرا لإلحاق هذه الحرب بالحرب الدولية على الإرهاب، أو بتصويرها كجزء من واجبات اليمن ضمن تحالفها الدولي لمواجهة الإرهاب. وتم ذلك عبر تقديم ليس الحوثيين فحسب بل كل الأنشطة الدينية للطائفة التي ينتمون إليها، الطائفة الزيدية، باعتبارها "بؤرا" للتطرف والإرهاب الذي يشكل خطرا على أمن اليمن والعالم.

وقبيل اندلاع الحرب بأشهر كانت الحكومة في صنعاء قد بدأت، خلال إعدادها للمعركة، ببناء صورة "الإرهاب العالمي" التي أرادت نسبتها إلى الحوثيين. سلسلة حملات الاعتقال التي طالت طلابا دينيين في مساجد صنعاء القديمة على خلفية ترديدهم للشعار الحوثي المناهض لأمريكا وإسرائيل؛ كانت جزء من عملية بناء الصورة هذه.

مئات الطلاب تم إيداعهم سجون المخابرات، وهناك كان يتم الإيحاء إليهم بأن اعتقالهم تم بناء على "طلب من أمريكا" باعتبارهم "إرهابيون" وكان هذا، كما اتضح لاحقا، تكتيكا أمنيا لخلق رد فعل عدائي أكثر لدى هذه الجماعات ضد أمريكا ما يساهم في تنضيج صورتهم "الإرهابية" لدى الأمريكيين والغرب عموما. وبعد خروج بعض المعتقلين من السجن أدلوا بهذه المعلومات للصحافة، ما اضطر السفارة الأمريكية بصنعاء إلى المبادرة بنفي أي علاقة لها بالاعتقالات.

بعد نشوب المعارك في صعدة، ظل الخطاب العام للحكومة، في تصريحات مسئوليها أو في بيانات الجيش أو على مستوى الأداء الإعلامي، يضغط بشدة على مفردات "الإرهاب" و "الإرهابيين" ضمن حزمة التوصيفات المختلفة التي كان يطلقها على الحوثيين.

وفي منعطفات لاحقة بدأت الحكومة تتحدث عن "تحالف" و"علاقات" تربط بين جماعة الحوثيين والقاعدة.

على صعيد مواكب كانت الدبلوماسية اليمنية تنشط باستبسال في أوساط الممثليات الإقليمية والدولية في لإقناعها بأن "المتمردين" في صعدة هم "قاعدة" أيضا وإن بوجه إرهابي مختلف.

ومن الواضح أن جهود الحكومة في هذا السياق لم تنته إلى شيئ، فقد ظل العالم، وفي الطليعة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي، محتفظا بقدرته على التمييز بين "القاعدة" وبين ما يحدث في صعدة وقد ظهر ذلك في عدد من تصريحات المسئولين الغربيين كما في مواقف الغرب الذي لم يمنح الحكومة في معاركها مع الحوثيين أي تأييد أو دعم كالذي يمكن أن يقدمه لحرب مع جماعة إرهابية.

لكن عدم نجاح الصورة "الإرهابية" التي بنتها الحكومة للحوثيين، في جلب الدعم الدولي للحرب، لا يعني أن السلطات لم تستفد منها في جوانب أخرى تركت أضرارا بالغة على صعيد الحقوق والحريات.

فقد شنت الأجهزة الأمنية، بالتزامن مع الحرب، حملات مكثفة انتهت بإغلاق المئات من المدارس والمراكز الدينية والثقافية ، دون أن تكون لها علاقة بالحوثيين فضلا عن القاعدة والتنظيمات المتطرفة. وكانت بعض أبرز مبررات الحكومة في هذه الإجراءات، طبقا لإعلانات وزارتي التربية والأوقاف اللتين تولتا هذه المهمة، هي "الرقابة على التعليم الديني" غير الرسمي وإخضاع جميع المدارس لإشراف الدولة؛ ومن المعروف أن مسائل "إصلاح التعليم" و "مراجعة المناهج الدينية" و "منع التعليم الديني الموازي" للتعليم الحكومي، هي مسائل تأتي في صميم مشاريع مكافحة الإرهاب المطلوبة للعالم خصوصا في المجتمعات العربية والإسلامية، ولذلك كان الغطاء الإعلامي الذي وفره المسئولون الرسميون لهذه الإجراءات؛ يروج لها كإحدى سياسات "مكافحة الإرهاب".

بجانب ذلك قدمت الحكومة عددا من الشخصيات والأفراد الذين ربطت بينهم وبين الحوثيين، إلى المحكمة المتخصصة بقضايا الإرهاب، وكان بين التهم التي بنتها النيابة ضد بعضهم "التخطيط لاستهداف السفارة الأمريكية" أو لـ"اغتيال السفير الأمريكي"، كما هو الحال مع من وصفتهم السلطات بـ"خلية صنعاء الإرهابية" التي شملت 36 متهما بينهم امرأة، وقد وجه إليهم الادعاء، بالإضافة إلى انتمائهم للحوثيين، تهمة "محاولة تفجير السفارة الأمريكية بصنعاء" و "نية اغتيال السفير الأمريكي توماس كراجكسي"، وعملت السلطات على إحضار ممثل عن السفارة الأمريكية إلى بعض جلسات المحاكمة التي استمرت على مدى أشهر عام 2005 وانتهت بأحكام قاسية بحق المتهمين بينها الإعدام والسجن لمايزيد على عشر سنوات.

ومنذ أشهر قليلة تستمر المحاكمة الغيابية للنائب البرلماني يحيى الحوثي في نفس المحكمة بتهم منها "التخطيط لاغتيال عدد من الشخصيات بينهم السفير الأمريكي بصنعاء".

إنتخابات 2006

في سبتمبر 2006 كانت البلاد على موعد مع أول انتخابات رئاسية ومحلية تنطوي على قدر لا بأس به من الجدية والتنافسية. فللمرة الأولى نزلت أحزاب المعارضة بمرشح موحد للمنافسة على موقع الرئاسة.

وعلى الأرجح فقد شعر نظام الرئيس علي عبدالله صالح بضيق تجاه هذه التنافسية التي وإن بدت غير مؤهلة لتهديد فوزه الأكيد في الانتخابات، فإنها مثلت، من حيث المبدأ، "مسا بكرامة" موقع الزعامة الحصرية للرئيس صالح على مدى 30 عاما.

كان حزب التجمع اليمني للإصلاح على رأس بقية أحزاب اللقاء المشترك (تكتل المعارضة) التي اختارت فيصل بن شملان للمنافسة على الرئاسة، ولطبيعته الدينية فقد كان هذا الحزب بوابة مناسبة في الدعاية الحكومية لتوظيف تهم "الإرهاب" و "الحرب على الإرهاب" ضمن المعركة الانتخابية.

مع اقتراب موعد التصويت وقبيل 4 أيام على الاقتراع، أعلنت السلطات عن نجاحها في إفشال محاولة تفجير المنشآت النفطية في محافظتي مأرب وحضرموت، والتي، كما قالت، نفذها 4 من أعضاء القاعدة كانوا ضمن المجموعة التي فرت من سجن الأمن السياسي بصنعاء، وقد لقوا مصرعهم خلال محاولتهم تنفيذ العملية.

وبشكل سريع قفزت الحادثة إلى المقدمة في موضوعات الدعاية الانتخابية لحزب المؤتمر الشعبي الحاكم، إذ سرعان ما تم الربط بين العملية الإرهابية وبين المعارضة ومرشحها للرئاسة: فمن وجهة نظر الحزب الحاكم، وهي وجهة النظر التي عممتها كل وسائل إعلام الحكومة؛ فإن محاولة التفجير لم تكن غير استجابة للخطاب "التحريضي" للمرشح الرئاسي فيصل بن شملان، طبقا لتوصيف هذه الوسائل.

سيتطور الأمر على نحو دراماتيكي: ففي اليوم التالي لمحاولة التفجير هذه، أعلنت السلطات نجاحها في اعتقال "خلية إرهابية" قالت إنها كانت تخطط لأعمال عدائية. وبثت التلفزات الحكومية، في النشرات الرئيسية وخارجها، مشاهد مطولة لعملية مداهمة واعتقال هذه الخلية من قبل أجهزة الأمن. ثم، وقبيل موعد الاقتراع بيوم واحد، كان رئيس الجمهورية (مرشح الحزب الحاكم آنئذ) شخصيا يعقد مؤتمرا صحفيا يعلن فيه أن هذه الخلية مرتبطة بمرشح المعارضة عبر ارتباطها بحارسه الشخصي، وعرض صالح على الصحفيين صورتين لحارس المرشح بن شملان، إحداهما يظهر فيها وهو يقف أمام منزله الذي قالت الحكومة إنه تم اعتقال أفراد الخلية فيه، والأخرى وهو يقف خلف مرشح المعارضة في إحدى مهرجاناته الانتخابية.

وصلت الرسالة إلى الجميع، وأمكن للحزب الحاكم من خلال هاتين الحادثتين أن يحسم رأي قطاع لا بأس به من الناخبين لصالحه ولمصلحة مرشحه للرئاسة.

روبين مدريد مديرة المعهد الديمقراطي الأميركي، أحد أبرز المنظمات الدولية التي راقبت الانتخابات، قالت آنئذ إن استخدام الحكومة لهذه الورقة الأمنية أثر كثيرا في مسار الانتخابات.

 

الحراك الجنوبي

بين حزمة الأدوات التي طورتها الحكومة لمواجهة الحراك الاحتجاجي في الجنوب، على مدى سنوات تناميه منذ 2006م، تبرز الآن ورقة "القاعدة" والحرب على الإرهاب.

وعلى نحو خاص فإن العامين المنصرمين،8/2009، شهد التجلي الأكبر لتوظيف مفردات وأدوات مكافحة "الإرهاب" في التعامل الرسمي مع الأزمة الناشبة في المحافظات الجنوبية الخمس، وهي الأزمة ذات الجذور السياسية والاقتصادية والحقوقية بشكل أساسي.

وحتى اللحظة يمضي التوظيف السياسي لحرب الإرهاب في التعامل مع هذه الاحتجاجات؛ بوتيرة متسارعة وعلى مستويات عديدة:

فعلى المستوى الأمني، نفذت السلطات سلسلة مداهمات وحملات اعتقال واسعة النطاق، زجت خلالها بعشرات الشخصيات القيادية أو الناشطة إلى السجون ثم أحالت أعدادا منهم إلى المحاكمة أمام المحكمة الجزائية المتخصصة، وهي المحكمة ذات الوضع الاستثنائي والتي أنشأت في الأصل ضمن مشاريع مكافحة الإرهاب في اليمن وللنظر في قضايا الأنشطة والعمليات الإرهابية.(إنظر تفصيلا أوسع بشأن طبيعة هذه المحكمة والتوظيف السياسي لها في مكان آخر من هذه الورقة)

ففي مارس ويوليو 2008 كان إجمالي عدد المعتقلين على ذمة الحراك الجنوبي قد وصل إلى 864 معتقلا، بينهم 95 معتقلا هم شخصيات سياسية و إعلامية وفكرية. وخلال هذين الشهرين أحيلت 3 مجموعات من هؤلاء المعتقلين إلى المحكمة المتخصصة بقضايا الإرهاب في صنعاء بينهم القياديان الاشتراكيان حسن باعوم وعلي منصر محمد.

ولاتساع الحاجة للمزيد من استخدام هذه المحكمة، أصدرت الحكومة قرارات بإنشاء محاكم مماثلة لها في أكثر من محافظة جنوبية لتبدأ جميعهن، وتستمر حتى الآن، بمحاكمة المزيد من نخب الحراك الجنوبي وناشطيه.

وعلى المستوى الإعلامي، فإن خطاب التعبئة الحكومي، أصبح يعتمد بشكل مفروغ منه، الاتهام الصريح للحراك في الجنوب بالتحالف مع تنظيم القاعدة. ولم يعد هذا الخطاب حكرا على الصحف ووسائل الإعلام ذات التسميات المستقلة والمضمون الموالي للحكومة، بل أصبح رسميا خطابا لكل وسائل الإعلام الرئيسية للحكومة والحزب الحاكم والجيش.

وبات ممكنا الآن أن تقرأ يوميا في هذه الوسائل عناوين ومواضيع تنسب "الحراك" إلى "القاعدة" كهذه:

"عناصر مسلحة تابعة للحراك القاعدي بلحج تعتدي على احد ابناء تعز وتقطع اذنه" (صحيفة "الثورة" اليومية الحكومية 30/12/2009)

"الضالع : الحراك القاعدي يهاجم محال تجارية وموظفين" (يومية "الجمهورية" الحكومية 10/1/2010)

"عناصر مسلحة تابعة للحراك القاعدي تعتدي على مساعد البحث الجنائي بالضالع" (أسبوعية "26 سبتمبر" الصادرة عن الجيش 17/1/ 2010)

"إحراق سيارة البرلماني (كرو) وهو يتهم الحراك القاعدي بالارهاب وترويع الآمنين" (موقع "المؤتمر نت" الإلكتروني الناطق باسم حزب المؤتمر الحاكم 5/1/2010)

المحكمة الجزائية.. أوضح آليات التوظيف

يمكن الاعتماد على المحكمة الجزائية المتخصصة بقضايا الإرهاب، لتقديم النموذج الأكثر وضوحا لتوظيف تهم "الإرهاب" و أدوات "مكافحة الإرهاب" في اليمن لمصلحة أهداف سياسية.

بغض النضر عن الاعتراضات المتزايدة على الوضعية الدستورية لها، فإن المحكمة التي أنشأت العام 1999 بقرار رئاسي، وضمن الإجراءات المتخذة من قبل الحكومة بتفاهم مع شركائها الدوليين، لمكافحة الإرهاب؛ لم يعد ممكنا الآن ملاحظة الاختصاص الرئيس لها (قضايا الإرهاب)، إلا بصعوبة، إذ أنها ، وعلى مدى 6 سنوات بشكل خاص، أصبحت جزءا من يوميات المعارك السياسية والمدنية والإعلامية في اليمن بفعل توليها المهام العقابية بحق معارضي الحكومة من مختلف التيارات السياسية أو التعبيرات المدنية و المهنية.

القرار الجمهوري الذي أنشأ المحكمة ينص، في تحديده لاختصاصات المحكمة، على أنها معنية بالنظر في جملة جرائم أبرزها"جرائم الحرابة، جرائم اختطاف الأجانب والقرصنة البحرية أو الجوية، جرائم الإضرار والإتلاف والحريق والتفجيرات التي تقع على أنابيب النفط والمنشات والمرافق النفطية والاقتصادية ذات النفع العام".

إن هذه، بوضوح، هي قضايا "الإرهاب" التي تشكل أبرز مناشط التنظيمات المتطرفة، لكن المحكمة، لأسباب عديدة، عانت من ركود في النشاط بسبب هذا التخصص، إذ أنه وبعد خمس سنوات على التأسيس، أي في العام 2004، كان عدد المتهمين بقضايا إرهابية أمامها لا يتجاوز حوالي عشرين متهما، بينهم المتهمون بتفجير المدمرة الأمريكية كول عام 2001.

في نفس العام اندلعت حرب صعدة، ولم تكن مصادفة أنه في العام نفسه أيضا صدر قرار جمهوري وسع من صلاحيات المحكمة مضيفا إليها، وبصيغة عائمة، اختصاصا آخرهو: "الجرائم الماسة بأمن الدولة والجرائم بالغة الخطورة الاجتماعية والاقتصادية". ومع هذا التوسيع انفتحت أبواب محكمة الإرهاب أمام طابور طويل من المتهمين المقدمين إليها بدوافع سياسية.

على ذمة الأزمة السياسية والعسكرية بين الحكومة والحوثيين استقبلت المحكمة أكثر من 13 مجموعة من المتهمين ضمن قضية معركة "بني حشيش" وحدها.

وحين اتسعت فعاليات الحراك الجنوبي وتزايدت أعداد المعتقلين على ذمته، خطت الحكومة خطوة أخرى: قامت بإنشاء محاكم جزائية مماثلة في حضرموت وعدن وتعز والحديدة، وقد باشرت المحكمتان الجديدتان في حضرموت وعدن، مع نهاية العام المنصرم، أول مهامهما والتي كانت محاكمة معتقلين على ذمة الحراك. وعقدت المحكمة في عدن، بتاريخ 15 نوفمبر 2009 أول جلسة لها بعد إنشائها، مخصصة إياها لمحاكمة ناشطين اثنين في الحراك هما: ياسر فضل اللحجي ووليد علي محمد المتهمين "بالاشتراك في مظاهرات غير مرخصة وتكدير السلم الاجتماعي".

وبشكل واضح علل الحزب الحاكم لإنشاء هذه المحاكم الجديدة بظروف "الإرهاب" المتزايد الذي تواجهه اليمن، وبرر نائب رئيس الدائرة الإعلامية للحزب الحاكم عبد الحفيظ النهاري، في حينه، قيام هذه المحاكم بـ "ظهور الإرهاب ( ) وعناصر التخريب والتحريض المناطقي وبث الكراهية التي تقوم بأعمال تخريبية في بعض المحافظات الجنوبية والساعية لتقويض الوحدة الوطنية" حسب قوله.

وإجمالا، وعلى مدى الأعوام من 2004 وحتى مطلع العام الحالي 2010، فقد وقف أمام المحكمة متهمون سياسيون ينتمون لمختلف نخب اليمن وتياراتها وشرائحها، و كان بين من مثلوا أمامها، بخلفيات سياسية (كنماذج فقط):

 سياسيون وحزبيون من مثل: حسن باعوم، علي منصر محمد، حسين زيد بن يحيى.

وصحافيون: عبد الكريم الخيواني، محمد المقالح، نائف حسان، نبيل سبيع، محمود طه، صحيفة "الشارع" الأهلية، صلاح السقلدي، فؤاد راشد، إياد غانم، ومؤخرا هشام باشراحيل ناشر ورئيس تحرير صحيفة "الأيام" الأهلية (الجميع على ذمة قضايا رأي مختلفة معظمها يتعلق بحرب صعدة والحراك الجنوبي)

برلمانيون: النائب يحيى الحوثي ( على ذمة الصراع مع الحوثيين)

قضاة: القاضي محمد لقمان، رئيس محكمة مناخة (على ذمة الصراع مع الحوثيين)

قانونيون: المحامي يحيى غالب الشعبية (على ذمة الحراك الجنوبي)

رجال دين: يحيى الديلمي، محمد مفتاح (ضمن حملة الاعتقالات التي أطلقتها السلطة عند بدية المواجهات في صعدة)

ناشطون مدنيون: ياسر الوزير، الناشط في المنظمة اليمنية للدفاع عن الحقوق والحريات الديمقراطية (على خلفية حرب صعدة).

أساتذة جامعة: الدكتور حسين مثنى العاقل، المدرس في جامعة عدن (على ذمة الحراك)

معلمو مدارس: (وهؤلاء بالعشرات وأبرزهم محمد عبدا لله البحري والذي يعمل مدرسا لمادتي الكيمياء والفيزياء وقد اتهم بإمداد الحوثيين بمعلومات عن كيفية صناعة الصواريخ)

نساء: إنتصار السياني، سعدة علي (على ذمة خلية حوثية اتهمتها السلطات بالتخطيط لاغتيال السفير الأمريكي)

طلاب جامعات: وهؤلاء بالعشرات وبينهم، مثلا، إبراهيم شرف الدين، الطالب الجامعي الذي قدم إلى الجزائية المتخصصة على رأس ما أسمتها السلطات "خلية صنعاء الحوثية الإرهابية"، وقد تلقى هذا الطالب حكما بالإعدام

التوصيات

-يتوجب على الحكومة اليمنية وشركائها الدوليين تحديد وضبط مفهوم "الإرهاب" وتعريف من هو "الإرهابي" ومن هي "التنظيمات والجماعات الإرهابية" بشكل واضح وصارم حتى يتم تلافي الالتباس القائم في مفاهيم هذه القضية والذي يتيح فرصا حقيقية لاستخدام إجراءات مكافحة الإرهاب ضد الخصوم السياسيين أو لإعاقة الحقوق والحريات.

-الإصلاح القضائي في اليمن، ينبغي أن يكون على رأس أولويات الأجندة الإصلاحية الشاملة في البلاد، وذلك لضمان انتشال الجهاز القضائي من واقع التبعية للسلطة التنفيذية والتوظيف السياسي له، بما يضع حدا لاستخدام مرجعية القضاء بشكل عام، والقضاء المتخصص في مكافحة الإرهاب، بشكل خاص، في مصادرة الحقوق السياسية والمدنية للمواطنين.

-تفعيل دور المؤسسات التشريعية والرقابية، وإشراك منظمات المجتمع المدني والإعلام، في مهمات الرقابة على الإجراءات والآليات الحكومية المتخذة لمكافحة الإرهاب، وطبيعة تنفيذها للتشريعات والقوانين الخاصة بهذه العملية، بما يحد بشكل حاسم من تحريف مهمات المكافحة أو يخرجها عن أهدافها المشروعة إلى أهداف أخرى تضر بالحقوق الأساسية للأفراد والجماعات والتنظيمات والمؤسسات.

_______

*نص ورقة بهذا العنوان قدمها الكاتب إلى منتدى منظمات المجتمع المدني الموازي لمؤتمر لندن بشأن مكافحة الإرهاب في اليمن، وهو المنتدى الذي عقد بصنعاء الأحد الماضي 24/1/2010